الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منَّته عليهم، وإحسانَه إليهم، وتخصيصَه لهم بفضله وكرامته.
وكذلك أولياؤه المتّقون، إذا شاهدوا أحوال أعدائه ومقته لهم، وغضبه عليهم، وخذلانه لهم، ازدادوا له
(1)
خضوعًا وذُلًّا وافتقارًا وانكسارًا، وبه استعانةً، وإليه إنابةً، وعليه توكُّلًا، وفيه رغبةً، ومنه رهبةً، وعلموا أنه
(2)
لا ملجأ لهم منه إلَّا إليه، وأنّهم لا يعيذهم من بأسه إلَّا هو، ولا ينجيهم من سخطه إلّا مرضاته، فالفضل بيده أوَّلًا وآخرًا.
وهذا
(3)
قطرةٌ من بحر حكمته المحيطِ
(4)
بخلقه وأمره، والبصيرُ يطالع ببصيرته ما وراءه، فيُطلعه على عجائب من حكمته لا تبلغها العبارة ولا تنالها الصِّفة.
وأمّا حظُّ العبد في
(5)
نفسه وما يخصُّه من شهود هذه الحكمة، فبحسب استعداده وقوّة بصيرته، وكمال علمه ومعرفته بالله وأسمائه وصفاته، ومعرفته بحقوق العبوديّة والرُّبوبيّة، وكلُّ مؤمنٍ له من ذلك شِربٌ معلوم ومقام لا يتعدّاه ولا يتخطّاه.
فصل
المشهد السادس: مشهد التوحيد
، وهو أن يشهد انفراد الرّبِّ تعالى
(1)
ساقطة من م.
(2)
ع: «أنهم» .
(3)
ج، ن، ع:«وهذه» .
(4)
ع: «المحيطة» .
(5)
ج، ن:«من» .
بالخلق والحكم، وأنّه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنّه لا تتحرّك ذرّةٌ إلّا بإذنه، وأنّ الخلق مقهورون تحت قبضته، وأنّه ما من قلبٍ إلّا وهو بين أصابعه
(1)
، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، فالقلوب بيده وهو مقلِّبها ومصرِّفها كيف شاء وكيف أراد، وأنّه هو الذي آتى نفوس المتقين
(2)
تقواها، وهو الذي هداها وزكَّاها، وألهم نفوس الفجَّار فجورها وأشقاها. من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل
(3)
فلا هادي له؛ يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضلُّ من يشاء بعدله وحكمته. هذا فضله وعطاؤه، وما فضل الكريم بممنونٍ؛ وهذا عدله وقضاؤه، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: الإيمان بالقدر نظام التَّوحيد، فمن كذَّب بالقدر نقض تكذيبُه توحيدَه، ومن آمن بالقدر صدَّق إيمانه توحيده
(4)
.
وفي هذا المشهد يتحقَّق للعبد مقامُ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
(5)
علمًا وحالًا، فتَثبت قدم العبد في توحيد الرُّبوبيَّة
(6)
، ثمَّ يرقى منه صاعدًا إلى توحيد الإلهيَّة، فإنه إذا تيقَّن أن الضرَّ والنَّفع، والعطاء والمنع، والهدى
(1)
م، ش:«إصبعيه» . ج: «إصبعين من أصابع الرحمن» .
(2)
ش، ع:«المؤمنين» .
(3)
ع: «يضلله» .
(4)
سبق تخريجه (1/ 126).
(5)
م، ع:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وكان قد ألحق أول الآية في هامش الأصل، ثم ضُرب عليه.
(6)
م، ش:«في مقام توحيد الربوبية» .
والضّلال، والسَّعادة والشَّقاوة
(1)
كلُّ ذلك بيد الله لا بيد غيره، وأنّه الذي يقلِّب القلوب ويصرِّفها كيف يشاء، وأنَّه لا موفَّق إلّا من وفَّقه وأعانه، ولا مخذول إلَّا من خذله
(2)
وتخلَّى عنه= اتَّخذه
(3)
وحده إلهًا ومعبودًا، فكان أحبَّ إليه من كلِّ ما سواه، وأخوف عنده من كلِّ ما سواه، وأرجى له من كلِّ ما سواه، فتتقدّم محبَّتُه في قلبه جميع المحابِّ، فتنساق المحابُّ تبعًا لها كما ينساق الجيش تبعًا للسُّلطان، ويتقدَّم خوفُه في قلبه جميع المخاوف، فتنساق المخاوف كلُّها تبعًا لخوفه، ويتقدَّم رجاؤه في قلبه جميع الرّجاء، فينساق كلُّ رجاءٍ له تبعًا لرجائه. فهذا علامة توحيد الإلهيَّة
(4)
، والبابُ الذي دخل إليه منه: توحيد الرُّبوبيَّة
(5)
، كما يدعو سبحانه عبادَه في كتابه بهذا النَّوع من التَّوحيد إلى النَّوع الآخر، ويحتجُّ عليهم به، ويقرِّرهم به، ثمّ يخبر أنّهم يَنقضونه بشِرْكهم به
(6)
في الإلهيَّة.
وفي هذا المشهد يتحقَّق له مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] أي: فمِن أين يُصرَفون
(1)
ع: «والشقاء» .
(2)
في ع زيادة: «وأهانه» .
(3)
جواب: «فإنه إذا تيقَّن
…
». والسياق في ع: «
…
وتخلَّى عنه، وإن أصحَّ القلوب وأسلمها وأقومها وأرقَّها وأصفاها وأسدَّها وألينها من اتخذه». زيادة مقحمة أفسدت السياق وأخْلت «إذا» عن الجواب.
(4)
في ع زيادة: «في هذا القلب» .
(5)
في ع زيادة: «أي: باب توحيد الإلهية توحيد الربوبية، فإن أول ما يتعلق القلب بتوحيد الربوبية ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية» .
(6)
«به» ساقط من ج، ن ..
عن شهادة أن لا إله إلّا هو
(1)
، وعن عبادته وحده، وهم يشهدون أنّه لا ربَّ غيرُه، ولا خالق سواه؟
وكذلك قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 - 85] فتعلمون أنّه إذا كان وحدَه مالِكَ الأرض ومن فيها، وخالقهم وربَّهم ومليكهم، فهو وحده إلهُهم ومعبودهم، فكما لا ربَّ لهم غيره، فهكذا لا إله لهم سواه. {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ اللَّهُ
(2)
قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ اللَّهُ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 86 - 89].
وهكذا قوله في سورة النّمل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)} إلى آخر الآيات [النمل: 59 - 64]، يحتجُّ عليهم بأنَّ من فعل هذا وحده فهو الإله وحده، فإن كان معه ربٌّ فعل هذا فينبغي أن تعبدوه، وإن لم يكن معه ربٌّ فعل هذا فكيف تجعلون معه إلهًا آخر؟ ولهذا كان الصحيح من القولين في تقدير الآية:(أإلهٌ مع الله فعل هذا؟) حتّى يتمَّ الدليلُ، فلا بدَّ من الجواب بلا، فإذا لم يكن معه إلهٌ فعل كفعله فكيف
(1)
ع: «الله» .
(2)
كذا في النسخ هنا وفي الموضع الآتي، على قراءة أبي عمرو ويعقوب الحضرمي. وقرأ الباقون:{لِلَّهِ} . انظر: «النشر» (2/ 329).
تعبدون آلهةً أخرى سواه؟ فعُلِم أنَّ إلهيَّة ما سواه باطلة، كما أنّ ربوبيّة ما سواه باطلةٌ بإقراركم وشهادتكم.
ومن قال: المعنى: هل مع الله إلهٌ آخر؟ من غير أن يكون المعنى: فعل هذا
(1)
، فقوله ضعيفٌ لوجهين:
أحدهما: أنَّهم كانوا يقولون: مع الله آلهةٌ أخرى، ولا ينكرون ذلك.
الثاني: أنّه لا يتمُّ الدليل ولا يحصل إفحامُهم وإقامة الحجَّة عليهم إلّا بهذا التقدير، أي: فإذا كنتم تقولون: إنَّه ليس معه إلهٌ آخر فعل مثل ما فعله، فكيف تجعلون معه إلهًا آخر لا يخلق شيئًا وهو عاجز؟ وهذا كقوله:{لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ}
(2)
[الرعد: 16]، وقولِه:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]، وقولِه:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17]، وقوله: {وَالَّذِينَ الَّذِينَ
(3)
…
مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20]، وقولِه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
(4)
آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3]، وهو كثيرٌ في القرآن، وبه تتمُّ الحجَّة كما تبيَّن.
والمقصود أنَّ العبد يحصل له هذا المشهد من مطالعة الجنايات
(1)
«هذا» ساقطة من ع.
(2)
أُكملت الآية في ع.
(3)
كذا مضبوط بالتاء في ع، وهو مهمل في الأصل وغيره. وهي قراءة عامَّة القَرَأَةِ عدا عاصمًا ويعقوب، فإنهما قرآ بياء الغيبة. انظر:«النشر» (2/ 303).
(4)
ق، ل، م، ع:«من دون الله» سهو، وكذا كان في ش ثم أُصلح.