الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله وحقيقته، فلا بدّ لهم من إعطاء الأمان، لسماع القرآن، وفهم الحقّ، ليعلموا، ولا يبقى لهم معذرة.
المناسبة:
بعد أن أوجب الله تعالى قتال المشركين بعد مهلة الأمان التي هي أربعة أشهر حرم، لنقضهم العهود، أبان تعالى أن المطالبة بالإسلام أو القتل لا يعني عدم تمكين المشركين من سماع أدلّة الإيمان، فلو طلب أحد من المشركين الدّليل والحجّة، أو جاء طالبا استماع القرآن، فإنه يجب إمهاله، ويحرم قتله، ويجب إيصاله إلى مأمنه، ليكون على بيّنة وعلم من أمره.
التّفسير والبيان:
بالرّغم من نزول آية السّيف الشّديدة الوطأة على مشركي العرب، ونظرا لأن الإسلام يحرص على نشر دعوته بالوسائل السلمية، وبالإقناع والحجة والبرهان، وأنه ليس الهدف من تشريع الجهاد سفك الدّماء، وإنما المهم الوصول إلى الإيمان وترك الجحود، وقبول الدّين والإقرار بالتّوحيد، بالرّغم من كلّ ذلك وتقديرا لأسباب مشروعية القتال، وتأكيد الحرص على السّلام، أرشد الله المؤمنين إلى وجوب قبول الأمان ومنحه لمن استأمن المسلم من المشركين.
والمعنى: وإن جاءك أحد من المشركين الذين نقضوا العهد بعد انقضاء مهلة السياحة في الأرض بحرية مطلقة وهي الأشهر الأربعة، يطلب الأمان ليسمع كلام الله ويتدبّره، ويفهم حقيقة الدّين والأمر، فيجب تأمينه وحمايته حتى يصل إلى غايته، ويحرم قتله والتّعدّي عليه.
ومتى أراد العودة لبلاده يجب منحه الأمان حتى يصل إلى وطنه الذي يأمن فيه أو داره وبلاده ومأمنه، ثم قاتله بعدئذ إن شئت من غير غدر ولا خيانة.
وهذا الحكم ثابت في كلّ وقت، قال الحسن رضي الله عنه: هي محكمة إلى يوم القيامة.
وعن سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي رضي الله عنه فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: لا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ} .
وروي عن السّدّي والضّحّاك رضي الله عنهما: هي منسوخة بقوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} . وردّ القرطبي: والصّحيح أن الآية محكمة، بدليل ما قاله الإمام علي رضي الله عنه فيما رواه عنه ابن جبير من الكلام السابق.
ثم قال تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} يعني أن ذلك التّسامح المفهوم من الأمر بإجارة المستجير في قوله تعالى: {فَأَجِرْهُ} وإبلاغه مأمنه، بسبب أن هؤلاء المشركين قوم جهلة، لا يعلمون حقيقة الإسلام وما يدعو إليه، ومن جهل شيئا عاداه، فلا بدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق.
وبناء عليه كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدا أو حاملا رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرّسل من قريش، منهم عروة بن مسعود، ومكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو وغيرهم، واحدا بعد واحد، يتردّدون في القضيّة بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بهرهم، وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك. وكان ذلك من أكبر أسباب هداية أكثرهم.
ولما قدم رسولا مسيلمة الكذّاب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهما: أتشهدان أن مسيلمة رسول الله؟ قالا: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود عن نعيم بن مسعود:«والله لولا أنّ الرّسل لا تقتل، لضربت أعناقكما» .
والآية تفيد عموم حكم الأمان لأهداف دينيّة أو سياسيّة أو تجاريّة، قال
ابن كثير: والغرض أنّ من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا، أعطي أمانا، ما دام متردّدا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه
(1)
.
ونص الحنفيّة والشافعيّة وغيرهم على أن الحربي إذا دخل دار الإسلام مستجيرا لغرض شرعي كسماع كلام الله، أو دخل بأمان للتّجارة، وجب تأمينه وحماية نفسه وماله، إلى أن يبلغ داره التي يأمن فيها، فإن دخل الحربي دار الإسلام بلا أمان، كان مغنوما مع ماله. وقال ابن العربي: الآية إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنّظر في الإسلام، فأما الإجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين ومنفعتهم
(2)
.
ولا يقتصر الأمر على مجرد كون المستجير طالبا لسماع القرآن، كما صرّحت الآية، وإنما يلحق به كونه طالبا لسماع الأدلّة على كون الإسلام حقّا، وكونه طالبا الجواب عن الشّبهات التي عنده؛ لأن كلّ هؤلاء يطلبون العلم ويسترشدون عن الحقّ.
والمراد بالسّماع: أن يسمع ما تقوم به الحجّة، ويتبيّن به بطلان الشّرك وحقيقة التّوحيد والبعث وصدق الرّسول في تبليغه عن الله، وكلّ ما يدلّ على أنّ الإسلام حقّ، سواء أكان سورة براءة أو جميع القرآن، أو غير ذلك من الأدلّة العقليّة والبراهين العلميّة.
(1)
تفسير ابن كثير: 337/ 2
(2)
أحكام القرآن: 791/ 2