الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكلمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لي العشرين أوقية الذهب التي أخذها مني من فدائي، فأبى عليّ وقال: أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا، وكفلني فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية من فضة، فقلت له: تركتني والله أسأل قريشا بكفي، والناس، ما بقيت. قال: فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل مخرجك إلى بدر، وقلت لها: إن حدث بي حدث في وجهي هذا، فهو لك ولعبد الله والفضل وقثم، قال: قلت: وما يدريك؟ قال: أخبرني الله بذلك، قال: أشهد أنك لصادق، وإني قد دفعت إليها ذهبا، ولم يطلع عليها أحد إلا الله، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
قال العباس: فأعطاني الله خيرا مما أخذ مني، كما قال: عشرين عبدا، كلهم يضرب بمال كبير، مكان العشرين أوقية، وأنا أرجو المغفرة من ربي
(1)
.
وروى أبو الشيخ ابن حيان عن ابن عباس: أن العباس وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، فنزل:{إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} الآية.
المناسبة:
الآيات متصلة بما قبلها في بيان الأحكام الحربية بمناسبة غزوة بدر، فهي لتبيان حكم آخر من أحكام الجهاد في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو حكم الأسرى في مبدأ قيام الدولة الإسلامية وهو القتل.
التفسير والبيان:
ما صح لنبي وما استقام له وما كان شأنه الذي ينبغي أن يكون له أسرى يختار فيهم إما المنّ أو الفداء في مبدأ أمره حتى يكثر القتل في الكفار ويبالغ
(1)
أسباب النزول للواحدي: ص 138
فيه، لإظهار عزة الإسلام والمسلمين. وإرهاب الدولة أعداءها، واشتداد أمرها، فلا يتجرأ على النيل منها أحد، ولا يقدم على إضعافها والتجسس عليها أحد من الأسرى الذين تركوا يعودون لديارهم بفداء مالي.
فالذين يرون قبول الفداء إنما يريدون الحصول على عرض الدنيا
(1)
أي حطام الدنيا الفاني، والله يريد لكم ثواب الآخرة الدائم وما هو سبب الجنة بما يشرعه لكم من الأحكام المؤدية إليه، ومنها الإثخان في القتل في الأرض، وإعزاز الدين، والقضاء على الأعداء، لإعلاء كلمة الحق، وإقامة العدل، وإقرار النظام الأصلح للبشرية.
والله عزيز يغلّب أولياءه على أعدائه، ويمكنهم منهم قتلا وأسرا، حكيم في أفعاله وأوامره، يشرع لكل حال ما يليق به، ويخصه به، كالأمر بالإثخان ومنع أخذ الفداء حين كانت الشوكة والقوة للمشركين، وبذلك تتحقق عزة المؤمنين كما قال تعالى:{وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون 8/ 63].
لولا كتاب من الله سبق أي لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ
(2)
: وهو أنه لا يعاقب المخطئ في اجتهاده؛ لأن أصحاب هذا الرأي نظروا ورأوا أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم، وأن فداءهم يتقوّى به على الجهاد في سبيل الله، وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام، وأهيب لمن وراءهم، وأضعف لشوكتهم.
وقيل: إن الحكم الذي سبق هو ألا يعذب أهل بدر فهم مغفور لهم، أو ألا يعذب قوما إلا بعد تأكيد الحجة والبيان، والتصريح المتقدم بالنهي عن الفداء، ولم يكن قد تقدم نهي عن ذلك، أو أنهم استعجلوا في استباحة الغنائم، ولم تكن قد أحلت لهم، والله تعالى سيحلها لهم.
(1)
إنما سميت منافع الدنيا ومتاعها عرضا؛ لأنه لا ثبات له ولا دوام، فكأنه يعرض ثم يزول.
(2)
سيأتي جواب: لولا في مطلع الصفحة الآتية.
لولا هذا الحكم الإلهي السابق إبرامه لنالكم أيها المؤمنون فيما أخذتم من الفداء عذاب عظيم وقعة، شديد هوله. وفي هذا تهويل لخطر ما فعلوا.
وبعد أن عاتبهم الله تعالى على أخذ الفداء، أباحه لهم وجعله من جملة الغنائم المباحة التي أبيحت لهم في مطلع السورة، فقال:{فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ..} . أي أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم من الفدية، حال كونه حلالا لكم، طيبا بنفسه لا حرمة فيه لذاته، كحرمة الدم ولحم الخنزير، أو كلوه أكلا حلالا لا شبهة فيه.
والفائدة إزاحة ما وقع في نفوسهم من أكل الفداء بسبب تلك المعاتبة أو حرمة الغنائم على الأولين.
واتقوا الله في مخالفة أوامره، ولا تعودوا لشيء من المخالفة لأمره ونهيه، ولا ترتكبوا المعاصي بعد ذلك، إن الله غفور لذنوبكم بأخذ الفداء، رحيم بكم بإباحته لكم ما أخذتم، ومن رحمته: قبوله التوبة عن عباده وعفوه عن السيئات.
والخلاصة: أن مفاداة الأسرى أو المنّ عليهم بإطلاق سراحهم لا يكون إلا بعد توافر الغلبة والسلطان على الأعداء، وإظهار هيبة الدولة في وجه الآخرين.
وبعد أن أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفداء من الأسرى، وشق عليهم أخذ أموالهم منهم، أنزل هذه الآية:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ..} . استمالة لهم، وترغيبا لهم في الإسلام ببيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة، وتهديدا وإنذارا لهم إذا بقوا على الكفر.
ومعنى الآية: يا أيها النبي قل لمن وقع في أيديكم من أسرى المشركين الذين أخذتم منهم الفداء: إن يعلم الله في قلوبكم الآن أو في المستقبل إيمانا وإخلاصا وحسن نية وعزما على طاعة الله والرسول في جميع التكاليف، والتوبة عن الكفر، وعن جميع المعاصي، ومنها العزم على نصرة الرسول والتوبة عن محاربته، يؤتكم