الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ} خبر {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ} أغرقوا بالطوفان {وَعادٍ} قوم هود أهلكوا بالريح {وَثَمُودَ} قوم صالح أهلكوا بالرجفة {وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ} أهلك نمرود ببعوض، وأهلك أصحابه {وَأَصْحابِ مَدْيَنَ} هم قوم شعيب أهلكوا بالنار يوم الظلة {وَالْمُؤْتَفِكاتِ} قرى قوم لوط، أي أهلها، ائتفكت بهم، أي انقلبت، فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجّيل {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} أتتهم يعني الكل بالمعجزات، فكذبوهم فأهلكوا {فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي لم يكن من عادته أن يعذبهم من غير ذنب {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بارتكاب الذنب وتعريضها للعقاب بالكفر والتكذيب.
المناسبة:
تستمر الآيات في بيان فضائح المنافقين وقبائحهم، وهذا نوع آخر قصد به بيان الفرق بينهم وبين المؤمنين، وتشبيههم بمن قبلهم من المنافقين والكفار، وتمثيل حالهم بحال من سبقهم، وعقد قياس أو موازنة بينهم وبين أناس غابرين، لهم شبه بهم، كما قصد به بيان أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة، والأفعال الخبيثة.
التفسير والبيان:
تبيّن هذه الآيات وما بعدها الفروق الواضحة بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كان المنافقون عكسهم.
المنافقون والمنافقات أي الرّجال والنّساء يشبه بعضهم بعضا في صفة النفاق والبعد عن الإيمان وفي الأخلاق والأعمال، فهم يأمرون بالمنكر: وهو ما أنكره الشّرع ونهى عنه، ولم يقرّه الطّبع السليم والعقل الصحيح، كالكذب والخيانة وخلف الوعد ونقض العهد، كما جاء في الحديث الصّحيح الذي أخرجه الشّيخان والتّرمذي والنّسائي عن أبي هريرة:«آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» . {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} :
وهو ما أمر به الشرع وأقرّه العقل والطّبع كالجهاد وبذل المال في سبيل الله، كما قال تعالى عنهم:{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون 7/ 63].
ونسوا ذكر الله، وأغفلوا تكاليف الشرع مما أمر به الله ونهى عنه، فنسيهم أي جازاهم بمثل فعلهم، وعاملهم معاملة من نسيهم، بحرمانهم من لطفه ورحمته، وفضله وتوفيقه في الدّنيا، ومن الثواب في الآخرة، كقوله تعالى:{الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا} [الجاثية 34/ 45]، وذلك لتركهم التّمسك بطاعة الله.
{إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ} ، أي الخارجون عن طريق الحقّ والاستقامة، الدّاخلون في طريق الضّلالة، المتمرّدون في الكفر، المنسلخون عن كلّ خير.
ثم بيّن الله تعالى جزاءهم فقال: {وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ} .
أي أنه تعالى أكّد وعيده السابق بمجازاتهم وضمّهم إلى الكفار، فأوعدهم جميعا نار جهنم يدخلونها، ماكثين فيها أبدا، مخلدين هم والكفار فيها، هي كفايتهم في العذاب ووفاء الجزاء أعمالهم، ولعنهم أي طردهم وأبعدهم من رحمته، ولهم عذاب دائم مستمر غير عذاب جهنم والخلود فيها، أو لهم عذاب ملازم في الدّنيا وهو ما يقاسونه من مرض النفاق، والخوف من اطّلاع الرّسول والمسلمين على بواطنهم، وحذرهم من أنواع الفضائح.
وفي ذكر النساء مع الرّجال دليل على عموم الوصف وتأصّل الدّاء، وأما تأخير ذكر الكفار عن المنافقين فهو دليل على أنهم شرّ من الكفار، وأن النّفاق أخطر من الكفر الصريح.
ثم بيّن الله تعالى أن ما أصاب هؤلاء المنافقين من العذاب في الدّنيا والآخرة،
له شبه بعذاب أولئك المنافقين والكفار السابقين مع أنبيائهم، فأنتم مثلهم مغرورون بالدّنيا ومتاعها الفاني، لكنهم {كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً، وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً} ، فتمتعتم وخضتم كما تمتعوا وخاضوا، وانصرفتم مثلهم إلى الاستمتاع بنصيبكم من المال والولد، وبلذائذ الدّنيا وحظوظها الزائلة، وشغلتم عن التّمتع بكلام الله وهدي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تنظروا في عواقب الأمور، ولم تعملوا على طلب الفلاح في الآخرة، وتوافرت دواعي الخير عندكم، كما توافرت دواعي الشّرّ عندهم، فكنتم أسوأ حالا منهم، وأحقّ بالعقاب منهم. فقوله:{فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} أي بنصيبهم من ملاذ الدّنيا، أو بنصيبهم من الدّين، كما فعل الذين من قبلهم.
وخضتم كالذي خاضوا، أي دخلتم في الباطل كما دخلوا، أو خضتم خوضا كالذي خاضوا.
وفائدة ذكر الاستمتاع بالخلاق (النصيب) في حقّ المتقدمين أولا، ثم ذكره في حق المنافقين ثانيا، ثم العود إلى ذكره مرة أخرى في حق المتقدمين ثالثا: هو ذمّ الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدّنيا، وحرمانهم عن سعادة الآخرة، بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة، ثم شبّه منافقي العهد الإسلامي بأولئك، نهاية في المبالغة، وزيادة في قبح وجه الشّبه، كمن أراد أن ينبّه بعض الظّلمة على قبح ظلمه، فيقول له: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم، ويعذّب من غير موجب، وأنت تفعل مثل فعله. وبالجملة فالتّكرار هاهنا للتّأكيد.
وبعد أن بيّن الله تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك الكفار المتقدّمين في طلب الدّنيا، وفي الإعراض عن طلب الآخرة، بيّن شبها آخر بين الفريقين: وهو تكذيب الأنبياء، والاتّصاف بالمكر والخديعة والغدر بهم، فقال:{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا} أي كخوضهم الذي خاضوا، وقد خاضوا في الكذب والباطل.
ثم بيّن الله تعالى مصير أعمال جميع المنافقين والكفار المتقدّمين واللاحقين، فقال:{أُولئِكَ حَبِطَتْ..} . أي إن أولئك المنافقين والكفار بطلت مساعيهم وحسناتهم وفسدت أعمالهم في الدّنيا، لأنها أعمال رياء وسمعة، وفي الآخرة، فلم يكن لهم أجر أو ثواب، لأنهم لم يقصدوا وجه الله، ولأن شرط الثواب عليها الإيمان، وهم لم يؤمنوا حقّا، بل أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، فكانوا منافقين.
وأولئك هم الخاسرون الذين خسروا في مظنة الرّبح والمنفعة، لأنهم لم يحصلوا على الثّواب، وأتعبوا أنفسهم في الرّدّ على الأنبياء والرّسل، فما وجدوا إلاّ فوات الخيرات في الدّنيا والآخرة، وإلاّ حصول العقاب في الدّنيا والآخرة.
وذلك مثل قوله تعالى: {قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف 103/ 18 - 104]، وقوله تعالى:{حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ..} . نقيض فعل الصّالحين المشار إليه في قوله تعالى: {وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ} [العنكبوت 27/ 29].
والمقصود: أنه تعالى بعد أن شبّه حال هؤلاء المنافقين بأولئك الكفار، بيّن أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال، وإلاّ الخزي والخسار، مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالا وأولادا منهم، مما جعل هؤلاء المنافقين أولى بالوقوع في عذاب الدّنيا والآخرة، والحرمان من خيرات الدّنيا والآخرة
(1)
.
ثم وعظ الله تعالى هؤلاء المنافقين المكذّبين للرّسل وأنذرهم بقوله: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ..} . أي ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذّبة للرّسل، وذكر طوائف ستّة، وهم قوم نوح الذين أغرقوا بالطّوفان الذي عمّ جميع أهل الأرض القديمة إلا من آمن بنوح عليه السلام، وعاد قوم هود الذين أهلكوا بالرّيح العقيم
(1)
تفسير الرّازي: 129/ 16
لما كذّبوا هودا عليه السلام، وثمود قوم صالح الذين أخذتهم الصّيحة لما كذّبوا صالحا عليه السلام وعقروا النّاقة، وقوم إبراهيم الذين أهلكهم الله بسلب النعمة عنهم، وبتسليط البعوضة على ملكهم نمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني، ونصر الله إبراهيم عليه السلام عليهم، وأيّده بالمعجزات الظاهرة وأنقذه من النار، وأصحاب مدين قوم شعيب عليه السلام الذين أصابتهم الرّجفة وعذاب يوم الظّلّة، والمؤتفكات
(1)
قوم لوط الذين كانوا يسكنون في مدائن، فأهلكهم الله بالخسف، وجعل عالي أرضهم سافلها، وأمطر عليهم الحجارة، قال تعالى في آية أخرى:{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى} [النجم 53/ 53] أي الأمة المؤتفكة، وأمّ قراهم:
سدوم، أهلكهم الله عن آخرهم، بتكذيبهم نبي الله لوطا عليه السلام، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين.
ذكر الله تعالى هؤلاء الطوائف السّتّة، لأنه أتاهم نبأ هؤلاء تارة، بأن سمعوا أخبارهم في التاريخ المنقول من الناس، وتارة لأجل أن بلاد هؤلاء، وهي بلاد الشام، قريبة من بلاد العرب، وقد بقيت آثارهم مشاهدة.
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} استفهام للتقرير والتوبيخ، أي أتاهم نبأ هؤلاء الأقوام، فلم يعتبروا.
هؤلاء أتتهم رسلهم بالبينات، أي بالمعجزات والحجج والدلائل القاطعات، وهنا لا بدّ من إضمار محذوف في الكلام، تقديره: فكذّبوا، فعجّل الله هلاكهم.
{فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ} بإهلاكه إياهم، لأنه أقام عليهم الحجّة بإرسال الرّسل، {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بسبب أفعالهم القبيحة، وتكذيبهم
(1)
قال الواحدي: المؤتفكات: جمع مؤتفكة، ومعنى الائتفاك في اللغة: الانقلاب، وتلك القرى ائتفكت بأهلها، أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها، فالمؤتفكات صفة القرى.