الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن ابن عباس قال: لما افترض الله عليهم أن يقاتل الواحد عشرة، ثقل ذلك عليهم وشق، فوضع الله ذلك عنهم إلى أن يقاتل الواحد رجلين، فأنزل الله:
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ..} . الآية وما بعدها.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بإعداد العدة لإرهاب الأعداء، أمر هنا بالصلح القائم على العزة والكرامة، وأنه عند توافر الرهبة إذا مالوا إلى الصلح، فالحكم قبول الصلح؛ لأن الحرب ضرورة لرد العدوان، وتحقيق حرية نشر الإسلام، ومنع الظلم والطغيان، والضرورة تقدر بقدرها، فلا يلجأ إليها إلا إذا استعصت الحلول السلمية.
التفسير والبيان:
بعد توافر الإعداد الحربي والاستعداد التام للجهاد إن مال العدو إلى طلب الصلح، وآثر السلم على الحرب والقتال، فالحكم قبول الصلح حسبما يرى الإمام من المصلحة، قال الزمخشري: والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله، من حرب أو سلم، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا
(1)
.
ومعنى الآية: وإن جنح، أي مال الأعداء إلى السلم أو الهدنة والصلح، فمل إليها؛ لأنك أولى بالسلم منهم، وصالحهم وتوكل على الله أي ثق به، وفوّض الأمر إليه، ولا تخف من مكرهم وغدرهم في جنوحهم إلى السلم، فإن الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم، والله سميع لما يقولون، عليم بما يفعلون.
(1)
الكشاف: 22/ 2
وإن يريدوا بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا، فالله يكفيك أمرهم وينصرك عليهم، فهو كافيك وحده.
وهذا دليل واضح على إيثار السلم وتفضيله على الحرب؛ لأن الإسلام دين السّلام والهداية والمحبة، ولا يلجأ في شرعه إلى القتال إلا عند وجود الظروف القاهرة، والضرورات الملجئة.
ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسع سنين، أجابهم إلى ذلك، مع ما اشترطوا من شروط مجحفة في حق المسلمين.
روى عبد الله ابن الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنه سيكون اختلاف أو أمر، فإن استطعت أن يكون السلم فافعل» .
وأما ما نقل عن ابن عباس وجماعة آخرين من التابعين: أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [29] ففيه نظر، كما ذكر ابن كثير؛ لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفا، فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص
(1)
.
ثم ذكر الله تعالى نعمته عليه بما أيده من المؤمنين: المهاجرين والأنصار، فقال:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} أي لا تأبه بمكرهم وخديعتهم، فإن الله أيدك بنصره ومعونته، وأيدك بالمؤمنين، وجعلهم أمة متآلفة واحدة على الإيمان بك وعلى طاعتك، وعلى مناصرتك ومؤازرتك، فكان التأييد على
(1)
تفسير ابن كثير: 322/ 2 - 323
قسمين: تأييد مباشر من الله من غير توسط أسباب معلومة، وتأييد معتمد على أسباب معتادة معلومة.
ثم أبان الله تعالى كيفية تأييده بالمؤمنين وتوحيد صفوفهم، فقال:
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ..} . أي إنه تعالى جعلهم أمة واحدة متآلفة، متعاونة في مناصرتك، بعد ما كان بينهم من العداوة والبغضاء إثر منازعات وحروب طويلة في الجاهلية، كما كان الحال بين الأوس والخزرج من الأنصار، ثم أزال الله كل تلك الخلافات بنور الإيمان، كما قال تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها..} . [آل عمران 103/ 3].
ولو أنفقت جميع ما في الأرض من أموال، ما استطعت تأليف قلوبهم، وجمع كلمتهم، ولكن الله بهدايتهم للإيمان، وتوحيدهم على صراط مستقيم سوي، أمكنه بقدرته وحكمته التأليف بينهم.
وهذا دليل واضح على أن من أهم أسباب النصر هو التآلف واتحاد الكلمة.
ولم يقتصر التأليف على تسوية المنازعات الجاهلية القديمة، وإنما شمل تسوية المنازعات الجديدة التي حدثت بعد الإسلام، كما وقع من خلاف بين المهاجرين والأنصار، حين قسمة الغنائم في حنين، جاء
في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلاّلا، فهداكم الله بي، وعالة
(1)
فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي» كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمنّ.
ولهذا قال تعالى: {وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي إنه تعالى
(1)
أي فقراء.
قوي غالب على أمره، لا يغلبه خداع الخادعين، ولا مكر الماكرين، ولا يخيب رجاء من توكل عليه، حكيم في أفعاله وأحكامه.
وذكر الحافظ أبو بكر البيهقي عن ابن عباس قال: «قرابة الرحم تقطع، ومنة النعمة تكفر، ولم ير مثل تقارب القلوب» يقول الله تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} .
وبعد أن وعد تعالى رسوله بالنصر عند مخادعة الأعداء، وعده بالنصر والظفر في جميع الحالات في الدين والدنيا، فلا تكرار، فقال:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ..} . أي إن الله كافيك ما يهمك من شؤونهم وناصرك ومؤيدك على عدوك، وإن كثرت أعداده، وتزايدت أمداده، ولو قلّ عدد المؤمنين، وحسبك وكافيك من تبعك وآمن بك من المؤمنين.
لكن وإن كان يكفيك الله بنصره وبنصر المؤمنين، فلا يعني ذلك تعطيل الأسباب والأخذ بالوسائل المطلوبة عادة للقتال، فلا تتكل على ذلك وحده، وإنما عليك أن تحرض المؤمنين على القتال، فإنه تعالى يكفيك بشرط أن يبذلوا النفس والمال في المجاهدة. والتحريض: الحث على الشيء.
ثم قال: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وليس المراد منه الإخبار، بل المراد الأمر، كأنه قال:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ} فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} أي إن يوجد منكم عشرون صابرون ثابتون في مواقعهم، يغلبوا بإيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الكفار ليست عندهم هذه الخصال الثلاث، لذا قال تعالى:{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} أي أن السبب في هزيمة الكفار أنهم قوم جهلة لا يدركون حكمة الحرب كما تدركونها، فهم إنما يقاتلون بقصد مجرد التفوق والاستعلاء، وأنتم تقاتلون لإعلاء كلمة الله، من إصلاح العقيدة، والتطهر من الوثنية، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، وإظهار
العبودية لله عز وجل بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ} [النساء 76/ 44] وقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ} [الحج 41/ 22].
ثم إنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء، وأما أنتم فتنتظرون إحدى الحسنيين من الغنيمة والنصر أو الشهادة في سبيل الله والظفر بالجنة.
وفي الآية عدة من الله وبشارة بأن جماعة المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده. وفيها أيضا أن من شأن المؤمنين أن يكونوا واعين لأهداف القتال، يعملون لما يرضي الله عز وجل، وأن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يصلح حياة البشر وارتقاء الأمم. أما الكفار والمشركون واليهود والنصارى فهم قوم ماديون يبغون من حروبهم مجرد التسلط والشهرة وإذلال الشعوب الأخرى.
ووقوف المسلم أمام عشرة من الكفار كان في مبدأ الأمر حيث كان المسلمون قلة، فطولبوا بالمرتبة العليا من الأفعال الكريمة وهي مرتبة العزيمة، وأما بعد أن كثر المسلمون، فلم يطالبوا إلا بما هو رخصة وتيسير وسهولة، لذا جاءت الآية التالية مخففة نوع التكليف، فقال تعالى:{الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ} أي لما أوجب الله على المسلم الواحد مقاومة العشرة والثبات لهم، وثقل ذلك عليهم، خفف عنهم إلى مرتبة أقل منها، هي مقاومة الواحد الاثنين، فإن يكن منكم مائة صابرة، بعد أن علم فيكم ضعفا في البدن من كثرة الجهاد والعمل، يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف صابرون يغلبوا ألفين بإذن الله وقوته ومشيئته، والله دائما مع الصابرين بالمعونة والتأييد والرعاية. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شقّ ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفرّ الواحد من عشرة،