الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب النّزول:
نزول الآية (30):
{وَقالَتِ الْيَهُودُ} :
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلاّم بن مشكم، ونعمان بن أبي أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصّيف، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا؟ وأنت لا تزعم أن عزيزا ابن الله، فأنزل الله في ذلك:{وَقالَتِ الْيَهُودُ} الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى في آية الجزية المتقدمة أن اليهود والنّصارى لا يؤمنون بالله، أوضح ذلك في هذه الآية، فنقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا، وهذا شرك، ومن جوّز ذلك فهو في الحقيقة قد أنكر الإله، وأنهم اتّخذوا علماءهم {أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ} في التّحليل والتّحريم، وأنهم يسعون في إبطال الإسلام وهديه.
وهذه الآيات دليل واضح في بيان سبب قتال المؤمنين لأهل الكتاب.
التفسير والبيان:
قالت اليهود أي بعضهم: عزيز ابن الله، وعزيز: كاهن يهودي سكن بابل حوالي سنة 457 ق. م، وأسّس المجمع الكبير، وجمع أسفار الكتاب المقدّس، وألّف أسفار: الأيام، وعزرا، ونحميا، وهو يعدّ ناشر اليهودية، بعد أن نسيت، فقدّسه اليهود ووصفوه بأنه {اِبْنُ اللهِ} .
والثابت عند المؤرّخين حتى اليهود أنفسهم أن التوراة التي كتبها موسى، ووضعها في تابوت العهد قد فقدت عند ما تغلّب العمالقة على بني إسرائيل، أو بختنصّر قبل عهد سليمان عليه السلام، فإنه لما فتح التّابوت، لم يجد فيه غير لوحي الوصايا العشر، كما جاء في سفر الملوك الأوّل، وأنّ عزرا هو الذي كتب
التّوراة بعد السّبي بالحروف الكلدانية مع بقايا العبرانية. ويرى النقّاد-كما جاء في دائرة المعارف البريطانية-أن أسطورة عزرا اختلقها الرّواة اختلاقا.
{وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ} ، وكان قدماؤهم يريدون بالنبوّة معنى مجازيا لا حقيقيا، يعنون به أنه المحبوب المكرّم عند الله، ثم تأثروا بوثنية الهنود، فصاروا يعنون بالبنوّة معنى حقيقيا، وأن ابن الله هو الله، وهو روح القدس، إذ اندمجت هذه الأقانيم الثلاثة وصارت واحدا حقيقة، وكان أول من أعلن ذلك مجمع نيقية 325 م أي بعد المسيح بثلاثة قرون، وصارت كلمة (الثّالوث) وهي الأب والابن وروح القدس تطلق على هذه الأقانيم الثّلاثة، التي حلّت في اللاّهوت. وكتبت الأناجيل بعد المسيح عليه السلام في مدّة تتراوح بين قرن وثلاثة قرون، وقد تأثّرت بوثنية الرّومان، بعد أن فقد الإنجيل الأصلي الذي نزل على عيسى عليه السلام.
وبما أنّ كلاّ من اليهود والنّصارى لا يعتمدون على أصل صحيح لديانتهم، وأن المكتوب لديهم مخترع موضوع من قبل علمائهم، لذا كذّبهم الله تعالى بقوله:
{ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ} أي لا مستند لهم فيما ادّعوه سوى افترائهم واختلاقهم، كما قال تعالى:{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا: اِتَّخَذَ اللهُ وَلَداً، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً} [الكهف 4/ 18 - 5].
{يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} أي يشابهون في كفرهم قول من قبلهم من الأمم، ضلّوا كما ضلّ هؤلاء، وهم الوثنيّون البراهمة والبوذيون في الهند والصين واليابان، وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرّومان. كما أن مشركي العرب كانوا يقولون: الملائكة بنات الله.
{قاتَلَهُمُ اللهُ} أي لعنهم الله، كيف يصرفون عن الحق وهو توحيد الله
وتنزيهه إلى غيره وهو الشّرك الباطل، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان عبدان لله، ولا يعقل أن يجعل المخلوق خالقا، مع أنه يأكل ويشرب ويتعب ويألم، لذا قال تعالى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ، كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ..} . [المائدة 75/ 5]، وقال تعالى عن المسيح:
{إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ} [الزّخرف 59/ 43]، وقوله تعالى:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ} [النساء 172/ 4].
ثم أوضح تعالى وجه مضاهاة من كفروا قبلهم، فقال:{اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ} أي اتّخذوا اليهود والنصارى رؤساء الدّين فيهم {أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ} ، يقومون بحقّ التّشريع، فيحلّون الحرام، ويحرّمون الحلال، ويطيعونهم في ذلك، تاركين حكم الله.
أما اليهود فقد أضافوا لأحكام التّوراة ما شرعه رؤساؤهم، وأما النّصارى فقد غيّروا أحكام التّوراة وأوجدوا شرائع أخرى في العبادات والمعاملات.
ويوضح ذلك قصة إسلام عدي بن حاتم، روى الإمام أحمد والتّرمذي وابن جرير الطّبري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرّ إلى الشّام، وكان قد تنصّر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أخته، وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، فرغّبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقدم عدي إلى المدينة، وكان رئيسا في قومه طيء، وأبوه حاتم الطّائي المشهور بالكرم، فتحدّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم-وفي عنق عدي صليب من فضة-وهو يقرأ هذه الآية:{اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ} .
قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: بلى، إنّهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام، فاتّبعوهم، فذلك عبادتهم إيّاهم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عدي ما تقول؟ أيضرّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يضرّك؟ أيضرّك أن يقال: لا إله إلا الله، فهل تعلم إلها غير الله؟» .
ثم دعاه إلى الإسلام، فأسلم وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال:«إن اليهود مغضوب عليهم، والنّصارى ضالّون» .
ثم أبان الله تعالى ترك أولئك الرؤساء دينهم، فقال:{وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً} أي والحال أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى إلا أن يعبدوا إلها واحدا، وهو الله الذي شرّع لهم أحكام الدّين، وهو ربّهم وربّ كلّ شيء، فهو الذي إذا حرّم الشيء فهو الحرام، وما حلّله فهو الحلال، وما شرعه اتّبع، وما حكم به نفذ.
{لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} أي أنه تعالى شرعا وعقلا لا يوجد إله غيره، وأنه تعالى تنزّه وتقدّس عن الشّركاء والنّظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلا هو، ولا ربّ سواه.
ولكن هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب يريدون أن يطفئوا نور الإسلام الذي بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، ويطفئوا شعلة الحقّ ومصباح الهداية، فيضلّ الناس أجمعون.
{وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} بتثبيته وحفظه والعناية به وإكماله وإتمامه، ولو كره الكافرون ذلك بعد تمامه، كما كرهوه حين بدء ظهوره. والكافر: هو الذي يستر الشيء ويغطيه. أما اليهود فكانوا أشدّ الناس عداوة للمؤمنين، فهم كمشركي العرب.
وأما النّصارى الرّوم فبدؤوا عدوانهم على المسلمين، ثم استمرّ الأوربيون في عدوانهم على الشرق الإسلامي، ثم جاءت الحروب الصّليبيّة التي مثّلت قمّة
العدوان على المسلمين، وما زالت السّياسة الاستعمارية والتّبشيرية تحتضن المخططات الرّهيبة لتفريق المسلمين وإبعادهم عن دينهم بمختلف الوسائل الإعلامية والمواقف الحاقدة المتحيّزة ضدّ مصالحهم في أي مكان.
وأما النّور الإسلامي فهو الذي أرسل الله به {رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ} الذي لا يغيّره ولا يبطله شيء آخر. والهدى: هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع. ودين الحق: هو الأعمال الصحيحة النافعة في الدّنيا والآخرة.
والهدف من ذلك أن يعلي تعالى هذا الدّين على جميع الأديان، ولو كره المشركون ذلك الإظهار. وقد وصفوا بالشّرك بعد الوصف بالكفر للدّلالة على أنهم جمعوا بين الكفر بالرّسول والشّرك.
وقد تحقّق وعد الله ونصره، كما ثبت
في الصّحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الله زوي لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» .
وروى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام، يعزّ عزيزا، ويذلّ ذليلا، إما يعزّهم الله، فيجعلهم من أهلها، وإما يذلّهم فيدينون لها» .
وفي مسند أحمد أيضا عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «فوالذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الدّين حتى تخرج الظّعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد» .