الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة. أي إما أن يستعار الهلاك للكفر، والحياة للإسلام، بمعنى ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة، وإما أن يكون اللفظان على الحقيقة. والمراد بمن هلك ومن حيّ: المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله وقضائه.
{فِي مَنامِكَ} نومك. {قَلِيلاً} أي عددا قليلا، فأخبرت به أصحابك فسرّوا.
{لَفَشِلْتُمْ} جبنتم. {وَلَتَنازَعْتُمْ} اختلفتم. {فِي الْأَمْرِ} أمر القتال. {وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ} أي سلمكم من الفشل والتنازع {بِذاتِ الصُّدُورِ} بما في القلوب.
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} أيها المؤمنون. {قَلِيلاً} نحو سبعين أو مائة، لتقدموا عليهم.
{وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} ليقدموا ولا يرجعوا عن القتال. وهذا قبل بدء المعركة، أما بعد بدئها فأراهم إياكم مثليهم، كما في آل عمران. {تُرْجَعُ} تصير.
المناسبة:
الحديث ما يزال عن وقعة بدر، فالله تعالى بعد أن أبان حكم قسمة الغنائم، وصف مشاهد من يوم الفرقان ومواقع الصفين، ومعسكر الجيشين، لتذكير المؤمنين بالنعم العظمى التي أنعم بها عليهم، وامتنانه عليهم حيث نصرهم على من هو أقوى منهم.
التفسير والبيان:
اذكروا أيها المؤمنون ذلك اللقاء الحاسم بينكم وبين المشركين، واشكروه على نصره إياكم فيه، حينما كنتم في مواجهة رهيبة مع الأعداء، إذ كنتم في جانب الوادي القريبة من المدينة وهي أرض رملية تسيخ فيها الأقدام، والمشركون نازلون في جانب الوادي الأخرى البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة، وهي قريبة من الماء، والركب أي العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة أسفل منكم أي مما يلي جانب البحر أو ساحله، حينما كان أبو سفيان قادما بقافلته من الشام، في أربعين من قريش، وهم مع أهل مكة يدافعون عنه دفاع المستميت، مما يقوي روحهم المعنوية.
ولو تواعدتم أنتم والمشركون في مكان للقتال، لاختلفتم في الميعاد، خوفا من القتال؛ لقلتكم وقوة عدد أعدائكم، ولأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن تلاقيكم عن غير موعد ولا رغبة في القتال، ليقضي الله ما أراد بقدرته وحكمته وعلمه من إعزاز الإسلام ونصر أهله، وإذلال الشرك وخذلان أهله، ولينفذ أو يحقق أمرا كان مبرما وواجبا أن يفعل، وهو نصر أوليائه المؤمنين، وقهر أعدائه الكافرين بعد ذلك اللقاء، فيزداد المؤمنون إيمانا، وامتثالا لأمر الله ويظهروا الشكر له.
وكان لهذا اللقاء أثر آخر على المدى البعيد، وهو أن يموت من يموت من الكفار عن حجة بيّنة عاينها بالبصر تثبت حقيقة الإسلام، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة شاهدها بإعزاز الله دينه، لئلا يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة التي ترسخ الإيمان، وتدفع إلى صالح الأعمال، وتحقق قوله تعالى:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر 45/ 54].
ويصح تفسير {لِيَهْلِكَ} و {يَحْيى} بالاستعارة، وهي استعارة الهلاك والحياة للكفر والإسلام، والمعنى: ليكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه وظهور الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك، أي بعد الحجة لما رأي من الآية والعبرة، وبه حقا كانت موقعة بدر فرقانا بين الحق والباطل، قامت بها الحجة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم نبيهم، والحجة على الكافرين بهزيمتهم؛ لأنهم جند الباطل.
وتوضيح المعنى: أنه تعالى يقول: إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد، لينصركم عليهم، ويرفع كلمة الحق على الباطل، ليصير الأمر ظاهرا، والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره:
بأنه مبطل، لقيام الحجة عليه. وهذا برهان عملي محسوس، والمحسوسات أو التجارب أوقع أثرا في الاستدلال من البراهين النظرية أو العقلية المجردة.
وإن الله لسميع عليم، أي لا يخفى عليه شيء من أقوال الكافرين والمؤمنين، ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو سميع لما قاله الكافرون، وعليم بأحوالهم، وسميع لدعاء المؤمنين وتضرعهم واستغاثتهم، وعليم بهم وبأنهم يستحقون النصر على أعدائهم، ويجازي كلا بما يسمع ويعلم.
واذكر أيها النبي إذ يريك الله الكفار في منامك قليلا أي ضعفاء، فتخبر أصحابك بذلك، فتثبت قلوبهم، وتطمئن نفوسهم.
ولو أراكهم كثيرا أي أقوياء في الواقع لجبنتم عنهم، واختلفتم فيما بينكم، وتنازعتم في شأن القتال؛ إذ منهم قوي الإيمان والعزيمة، ومنهم الضعيف الذي يحسب للأمر ألف حساب.
ولكن الله سلّم من ذلك الفشل (الجبن) والتنازع، بأن أراكهم قليلا، إنه تعالى عليم بذات الصدور أي بما تخفيه الصدور، وتنطوي عليه النفوس من شعور الضعف والجزع الذي يؤدي إلى الانثناء عن القتال.
واذكروا أيها الرسول والمؤمنون الوقت الذي يريكم الله الكفار قبل القتال عددا قليلا، في رأي العين المجردة، حتى تجرأتم وارتفعت معنوياتكم، ويجعلكم بالفعل قلة في أعين الكفار، فيغتروا، ولا يعدوا العدة لكم، حتى قال أبو جهل:
«إنما أصحاب محمد أكلة جزور، خذوهم أخذا، واربطوهم بالحبال» أي أنهم عدد قليل يكفيهم جزور واحد في اليوم، ويشبعهم لحم ناقة.
ليقضي الله أمرا كان مفعولا، أي فعل كل ذلك ليمهد للحرب، فتكون سبيلا في علمه تعالى لنصرة المؤمنين وإعزاز الإسلام، وهزيمة الكافرين وإذلال الكفر والشرك.