الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفداء من الأسارى، فأنزل الله:{عَفَا اللهُ عَنْكَ، لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} . وهذا مروي أيضا عن قتادة.
قال بعض العلماء: إنما بدر منه ترك الأولى، فقدّم الله العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب.
وهو عتاب تلطف؛ إذ قال: {عَفَا اللهُ عَنْكَ} . وكان صلى الله عليه وآله وسلم أذن من غير وحي نزل فيه.
المناسبة:
بعد أن بالغ الله تعالى في ترغيب المؤمنين في الجهاد في سبيل الله، ووبخ المتثاقلين عنه بقوله:{ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ: اِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين، وبيّن أن أقواما، مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد، تخلفوا عن غزوة تبوك، وأما الأكثر فكان يلبي نداء الجهاد بسرعة ونشاط؛ لأنهم ينتظرون إحدى الحسنيين: إما الشهادة، وإما النصر.
فهذه الآيات نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وهي أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال، لذا سميت سورة براءة كما بينت آنفا «الفاضحة» لأنها فضحت أحوال المنافقين، قال ابن عباس: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة أي لم يعرف شؤونهم مفصلة، فلما رجع من غزوة تبوك أظهر الله نفاق قوم.
التفسير والبيان:
وبخ الله تعالى في هذه الآيات المتخلفين عن غزوة تبوك، الذين استأذنوا
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التخلف، مظهرين أنهم ذوو أعذار، ولم يكونوا كذلك، فقال:
أي لو كان الأمر الذي دعوتهم إليه غنيمة أو منفعة قريبة المنال، أو سفرا سهلا قريبا لا عناء فيه، لاتبعوك أي لجاؤوا معك، وسارعوا إلى الذهاب، ولكنهم تخلفوا حينما رأوا أن السفر شاق إلى مسافة بعيدة إلى الشام، وأن القتال لأكبر قوة في العالم وهم الروم حينذاك، فآثروا الجبن والراحة والسلامة، والتفيؤ في الظلال وقت الحر والقيظ، فدل ذلك على انهم جماعة نفعيون ماديون دنيويون، كما
قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: «لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا-أي عظما عليه لحم-سمينا أو مرماتين
(1)
حسنتين، لشهد العشاء» أي لو علم أحدهم أنه يجد شيئا ماديا حاضرا معجّلا يأخذه، لأتى المسجد من أجله.
ثم أخبر الله تعالى عن شيء سيقع منهم فقال: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ} أي سيقسمون بالله اليمين الكاذبة عند رجوعك من غزوة تبوك، كما قال:{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة 94/ 9]{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} [التوبة 96/ 9] قائلين: {لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ} ، أي لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا معكم.
{يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} في العذاب باليمين الكاذبة أو بالكذب والنفاق،
كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه خيثمة بن سليمان: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع» .
{وَاللهُ يَعْلَمُ، إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} في الاعتذار والاعتلال وحلفهم بالله، وقولهم: لو استطعنا الخروج لخرجنا معكم، فإنهم لم يكونوا ذوي أعذار، وإنما كانوا أقوياء الأجسام، وأصحاب يسار. قال قتادة: لقد كانوا يستطيعون الخروج، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم وزهادة في الجهاد.
(1)
المرماتان: تثنية مرماة: وهي ظلف الشاة، أو ما بين ظلفها من اللحم.
ثم عاتب الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في إذنه لطائفة ممن تخلف من هؤلاء المنافقين، فقال:{عَفَا اللهُ عَنْكَ..} . أي سامحك الله بإذنك لهم، لم أذنت لهم بالتخلف، وهلا استأنيت بالإذن وتوقفت عنه حتى تظهر لك الحقيقة، ويتبين لك الفريقان: الذين صدقوا، والذين كذبوا في إبداء الأعذار، وهلا تركتهم لما استأذنوك لتعلم الصادق منهم من الكاذب، فإنهم كانوا مصرين على التخلف وإن لم تأذن لهم فيه. على أن الله كره انبعاثهم، وكان في خروجهم ضرر وخطر على المسلمين.
قال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
لهذا أخبر الله تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله، فقال:{لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ..} . أي لا يستأذنك في القعود عن الغزو المؤمنون بالله واليوم الآخر في أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، بل يقدمون على الجهاد من غير استئذان؛ لأنهم يرون أن الجهاد قربة وسبيل إلى الجنة، كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} [الحجرات 15/ 49].
فليس من شأن المؤمنين ولا من عادتهم أن يستأذنوك في الجهاد، وكان أكابر المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجهاد، فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى، فأي فائدة في الاستئذان؟ والله عليم بالمتقين خبير بمن خافه فاتقاه، باجتناب ما يسخطه، وفعل ما يرضيه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال فيما رواه مسلم وابن ماجه عن