الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار، في غير ما آية في كتابه، لتضامنهم وتناصرهم، فقال:{وَالسّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ} [التوبة 100/ 9] وقال تعالى: {لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة 117/ 9] وقال عز وجل: {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} [الحشر 8/ 59 - 9] أي لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم.
وظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء لا يختلفون في ذلك، كما ذكر ابن كثير. ولهذا روى أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة قال: خيرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الهجرة والنصرة، فاخترت الهجرة».
وأما الصنف الثالث
وهم المؤمنون الذين لم يهاجروا فقد ذكرهم الله بقوله:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا، ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا} أي أن الذين صدّقوا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يهاجروا من مكة إلى المدينة، وظلوا مقيمين في أرض الشرك تحت سلطان المشركين أي في دار الحرب والشرك، لا يثبت لهم شيء من ولاية (نصرة) المؤمنين الذين في دار الإسلام. أما من أسره الكفار من أهل دار الإسلام، فله حكم أهل هذه الدار. إن الولاية منقطعة بين أهل الدارين إلا في حالة واحدة ذكرها تعالى بقوله:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ..} . وهي مناصرتهم على الكفار إذا قاتلوهم أو اضطهدوهم لأجل دينهم، إلا إذا كان هؤلاء الكفار معاهدين، فيجب الوفاء بعهدهم؛ لأن الإسلام لا يبيح الغدر والخيانة بنقض
العهود. وهذا أصل من أصول أحكام الإسلام وسياسته الخارجية العادلة الرفيعة المستوى.
وحذر الله تعالى من نقض العهد بقوله: {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي إن الله مطلع على جميع أعمالكم، فالزموا حدوده، ولا تخالفوا أمره، ولا تتجاوزوا ما حدّه لكم، كيلا يحل بكم عقابه.
والخلاصة: ليست المقاطعة تامة، كما في حق الكفار، بين المؤمنين في دار الإسلام وبين المؤمنين الذين لم يهاجروا، فلو استنصروكم فانصروهم ولا تخذلوهم.
ومن أجل دعم الولاية (التناصر والتعاون) بين المهاجرين والأنصار، ذكر الله تعالى حال الكفار في مواجهة المؤمنين، ليكونوا صفا واحدا تجاههم، وليعلموا قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، فقال:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} أي أن الكفار في جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين، يوالي بعضهم بعضا في النصرة والتعاون على قتال المسلمين، وإن تعددت مللهم، وعادى بعضهم بعضا، وقد أكد التاريخ ذلك، فكان اليهود مناصرين المشركين في حربهم ضد المؤمنين، حتى إنهم نقضوا عهودهم مع المسلمين، مما استوجب حربهم وإجلاءهم من خيبر، والتاريخ يعيد نفسه، فترى المشركين والماديين الملحدين واليهود والنصارى في كل عصر في خندق معاد للإسلام والمسلمين.
وجعل الكفار في صف والمسلمين في صف آخر مواجه لهم اقتضى امتناع الإرث بسبب اختلاف الدين باتفاق المذاهب الأربعة، فلا يرث المسلم كافرا، ولا الكافر مسلما،
لما رواه الحاكم في مستدركه عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما» ثم قرأ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ}
وروى الجماعة إلا النسائي عن أسامة بن زيد: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» .
أما توارث الكفار بعضهم من بعض فجائز في رأي الجمهور؛ لأن الكفر ملة واحدة في الإرث؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} . وقال المالكية: لا يرث كافر كافرا إذا اختلف دينهما من اليهودية والنصرانية؛ لأنهما دينان مختلفان، ولا يرثان من مشرك ولا يرثهما مشرك؛ لعموم
الحديث السابق: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» ولأنه لا موالاة بينهم.
وأما اختلاف الدار فهو مانع للإرث عند الحنفية فقط إذا كان بين الكفار، دون المسلمين، لثبوت التوارث بين أهل البغي وأهل العدل (دار الإسلام) فيكون هذا المانع خاصا بغير المسلمين.
وليس اختلاف الدار لدى الشافعية مانعا من موانع الإرث، لكنهم قالوا:
لا توارث بين حربي ومعاهد، وهو يشمل الذمي والمستأمن؛ لانقطاع الموالاة بينهما.
وليس اختلاف الدار مطلقا مانعا للميراث لدى المالكية والحنابلة، فيرث أهل الحرب بعضهم من بعض، سواء اتفقت ديارهم أو اختلفت.
ثم قال تعالى: {إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ..} . أي إن لم تفعلوا ما شرع لكم من موالاة المسلمين وتواصلهم وتناصرهم وتعاونهم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض، وتجنب موالاة المشركين وعدم الاختلاط بهم، تحصل فتنة عظيمة في الأرض هي ضعف الإيمان وقوة الكفر، وفساد كبير وهو سفك الدماء، فتعم الفتنة وهي التباس الأمر، واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين الناس فساد زائد في الدين والدنيا.
وفي هذا دلالة على حرص الإسلام على الحفاظ على شخصية المسلمين الذاتية، واستقلالهم في ديارهم، وعدم إقامتهم في أوطان الكفار.
روى ابن جرير عن