الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{كَيْفَ} يكون لهم عهد، تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، وحذف الفعل لكونه معلوما. {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} يظفروا بكم ويغلبوكم. {لا يَرْقُبُوا} لا يراعوا، ومنه: فلان لا يرقب الله في أموره، أي لا ينظر إلى عقابه. {إِلاًّ} الإل: الحلف، وقيل: القرابة، واشتقاق الإلّ بمعنى الحلف؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا، رفعوا به أصواتهم وشهروه، من الإل: وهو الجؤار.
وسميت به القرابة لأن القرابة عقدت بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق. {وَلا ذِمَّةً} الذمة والذمام:
العهد، الذي يلزم من ضيّعه الذمّ. {فاسِقُونَ} المراد به هنا ناقضون للعهد والميثاق، متجاوزون ما يوجبه الصدق والوفاء. والعهد: ما يتفق طرفان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة، فإن أكداه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به سمي ميثاقا، وإن أكداه باليمين خاصة سمي يمينا.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى براءة الله ورسوله من عهود المشركين، وإعلان الحرب عليهم بعد أربعة أشهر إلا من يستجير أو يستأمن لسماع كلام الله أو للرسالة أو للتجارة، أبان سبب البراءة من المشركين وإمهاله إياهم أربعة أشهر، ثم مناجزتهم بكل أنواع القتال، وهو نقضهم العهود ومعاملتهم بالمثل.
التفسير والبيان:
كيف يكون للمشركين الناكثين للعهد عهد محترم عند الله وعند رسوله؟ وهذا استفهام بمعنى الإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد، وهم في الواقع أعداء الداء حاقدون مضمرون الغدر، مشركون بالله، كافرون به وبرسوله، يعني محال أن يثبت لهم عهد، فلا تطمعوا في ذلك. وهذا بيان حكمة البراءة وسببها.
ثم استدرك واستثنى الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، وهم بنو بكر وبنو ضمرة الذين لم ينقضوا عهودهم المعقودة معهم يوم الحديبية، أي ليس العهد إلا لهؤلاء الذين لم ينقضوا ولم ينكثوا، وهم المستثنون من قبل في قوله:{إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} .
والمراد بالمسجد الحرام: جميع الحرم كما هي عادة القرآن، إلا ما استثني، فالعندية فيه على حذف مضاف أي قرب المسجد الحرام.
فهؤلاء حكمهم أنهم ما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، أي فما أقاموا على الوفاء بعهدكم، فأقيموا لهم على مثل ذلك. فأما من لا عهد له فقاتلوه حيث وجدتموه إلا أن يتوب. وهو كقوله:{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ} غير أن الكلام هنا مطلق، والآية النظير مقيدة. وأعيد ذكرهم هنا لبيان أنه يجب أن تكون الاستقامة على العهد مرعية من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية المدة، وأما غيرهم فينبذ عهدهم.
ثم أكد الله تعالى ضرورة الوفاء لهم بالعهد بقوله: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي يرضى عن الذين يوفون بالعهد، ويتقون الغدر ونقض العهد. وهذا تعليل لوجوب الامتثال، وتبيين بأن مراعاة العهد من باب التقوى، وإن كان المعاهد مشركا.
ثم كرر الله تعالى قوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا} لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، أي كيف يكون لغير الذين يوفون بعهدهم عهد مشروع محترم واجب الوفاء عند الله وعند رسوله؟ والحال أنهم إن يظفروا بكم، لم يراعوا حلفا ولا قرابة ولا عهدا. وهذا تحريض للمؤمنين على معاداتهم والتبري منهم، وتبيان أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد، لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسوله، ولأنهم إن تغلبوا على المسلمين لم يبقوا ولم يذروا، ولا يراعوا فيهم إلاّ ولا ذمة أي حلفا وعهدا.
ومن خبثهم وضغينتهم أنهم قوم مخادعون يظهرون الكلام الحسن بأفواههم، وقلوبهم مملوءة حقدا وحسدا وكراهية:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح 11/ 48] وأكثرهم فاسقون أي متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردعهم،
خارجون من أصول الدين والمروءة والأخلاق، متجاوزون حدود الصدق والوفاء، متحللون من قيود العهد والميثاق. وقال:{أَكْثَرُهُمْ} لأن نقض العهد كان من الأكثرين، وهناك أقلية حافظت على الوفاء بالعهد، استثناهم تعالى وأمر بالوفاء بعهدهم.
ثم ذكر تعالى سببين آخرين للبراءة والقتال وهما:
1 -
إنهم اشتروا أي اعتاضوا واستبدلوا بآيات الله الدالة على الحق والخير والتوحيد ثمنا قليلا حقيرا من متاع الدنيا، وهو اتباع الأهواء والشهوات، والالتهاء بأمور الدنيا الخسيسة، فصدوا عن سبيله، أي عدلوا بسبب هذا الشراء الخسيس أنفسهم عن الإسلام وأخلاقه، وصرفوا أيضا غيرهم عنه، فمنعوا الناس من اتباع الدين الحق، إنهم ساء ما كانوا يعملون، أي بئس العمل عملهم، وقبح ما ارتضوه لأنفسهم من الكفر والضلالة والصدّ عن دين الله، بدلا من الإيمان والهدى، واتباع شرع الله. روي أن أبا سفيان لما أراد إقناع قريش وحلفائها بنقض عهد الحديبية، صنع لهم طعاما استمالهم به، فأجابوه إلى ما طلب.
2 -
وهم من أجل كفرهم لا يراعون في شأن مؤمن قدروا على الفتك به حلفا ولا قرابة ولا عهدا على الإطلاق، وأولئك هم المعتدون، أي المجاوزون الغاية في الظلم والشر، فهم لا يفهمون بغير لغة السيف، والخضوع للقوة لا للعهد والذمة، وقد أثبت التاريخ أنهم كذلك في الواقع. وقد أجمل القرآن صفاتهم بأنهم أولا هم الفاسقون، وثانيا بأنهم المعتدون، فكيف يحترمون العهود؟ وقوله هنا:{لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً} ليس تكرارا؛ لأن الأول لجميع المشركين، والثاني لليهود خاصة، بدليل قوله:{اِشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً} يعني اليهود، فلو أريد بالثاني المشركون كان تكرارا للتأكيد والتفسير.