الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والوعيد على الكنز لا يقتصر عليهم في الحقيقة، وإنما يشمل المسلمين أيضا، فبعد أن وصفهم الله تعالى بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل، أردفه بوعيد كل من امتنع عن إخراج الحقوق الواجبة من ماله.
التفسير والبيان:
هذه الآيات بيان لسيرة الأحبار (علماء اليهود) والرهبان (عبّاد النصارى) وكشف لقبائحهم، حتى يعرف أهل الكتاب حقيقتهم، ويتبينوا خطأهم في الاقتداء بهم والثقة فيهم، وليعلم المسلمون سبب عنادهم وبقائهم على كفرهم، ويكون الهدف من الآيات التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم.
يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، اعلموا {إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ} ليأخذون أموال الناس بالباطل، لا بحق شرعي، ونسب ذلك لكثير منهم لا لكلهم إحقاقا للحق، وإنصافا للقلة الصالحة منهم.
وأمثلة أخذهم الأموال بالباطل كثيرة منها: قبول الرشاوى في الأحكام القضائية، وأخذ الربا وهو محرم عليهم، وأخذ الهدايا والنذور والأوقاف المخصصة لقبور الأنبياء والصالحين، وأخذ الأرثوذكس والكاثوليك مقابل صكوك الغفران التي شاعت في القرون الوسطى، أو في مقابل الدعاء والشفاعة للمخطئين عند الله. وبيع الفتاوى بالمال لتحليل الحرام وتحريم الحلال، بقصد إرضاء الملوك والأمراء والحكام، كما قال تعالى في حق اليهود:{قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ، تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً، وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ: اللهُ} [الأنعام 91/ 6].
ومنها: استباحة اليهود أخذ أموال كل من عداهم ولو بالخيانة أو السرقة، كما قال تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً، ذلِكَ} بأنهم {قالُوا: لَيْسَ عَلَيْنا
فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران 3/ 75].
ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من قبائح رؤساء الدين اليهودي والنصراني، وهو صدهم عن سبيل الله، أي وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس ويمنعونهم عن اتباع الحق، إما بتكذيب رسالة الإسلام، أو التشكيك في مبادئها وأحكامها في العبادة والعقيدة والمعاملة، أو الطعن في النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أو في القرآن الكريم.
وبه يتبين أن ما يحرص عليه الناس في الدنيا وهو المال والجاه، شغف به الأحبار والرهبان، فأخذوا المال بالباطل، ومنعوا الناس من معرفة الله معرفة صحيحة، وعبادته عبادة قويمة، وأمعنوا في المنع من متابعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حفاظا على مراكزهم الأدبية ومكاسبهم المادية.
ثم وصفهم الله بصفة أخرى هي البخل الشديد ومنع أداء حقوق الله في أموالهم، فقال:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ..} . أي والذين يجمعون المال ويدخرونه في بيوتهم ولا يخرجون منه الحقوق الواجبة شرعا كالزكاة، ولا ينفقون منه في سبيل الله، فيستحقون العذاب الشديد المؤلم في نار جهنم. وهذا الوعيد كما هو موجه للأحبار يشمل المسلمين أيضا، فكان المراد به الكل. كما وأن المراد بالنفقة:
الواجب؛ لقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} ولا يتوجه العذاب إلا على تارك الواجب.
ولا يكون الكنز حراما إلا إذا لم تؤد زكاته، فإن أديت الزكاة فلا يحرم.
قال مالك عن ابن عمر رضي الله عنه في الكنز: هو المال الذي لا تؤدى زكاته.
وروى الثوري والشافعي وغيرهما عن ابن عمر قال: ما أدّي زكاته، فليس بكنز، وإن تحت سبع أرضين؛ وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز. وهذا مروي أيضا عن عمر وابن عباس وجابر وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا.
أخرج ابن عدي
والخطيب عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أيّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز» .
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} كبر ذلك على المسلمين، وقالوا:
ما يستطيع أحد منا ألا يبقي لولده مالا بعده، فقال عمر: أنا أفرّج عنكم، فانطلق وتبعه ثوبان، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية، فقال:
«إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم» فكبّر عمر رضي الله عنه، ثم قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
وورد في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منها أحاديث كثيرة منها ما رواه عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تبّا للذهب والفضة» فقال الصحابة:
يا رسول الله، فأي المال نتخذ؟ قال:«لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وزوجة تعين أحدكم على دينه» .
ثم أخبر الله تعالى عن نوع العذاب الذي يطبق على أصحاب الكنوز، وهو أنه يحمى على ما جمعوه من الأموال المكنوزة في النار، أي توضع ويوقد عليها في النار حتى تحمى، ثم يحرق بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، وخصت هذه الأعضاء بالذكر؛ لأنهم بالوجوه يستقبلون الناس مغتبطين بالثروة، ويعبسون في وجوه الفقراء كيلا يعطوهم شيئا، ويتنعمون على جوانبهم وظهورهم في أوساط النعمة، ثم إن الكي على الوجه أشهر وأشنع، وعلى الجنب والظهر آلم وأوجع، ويقال لهم