الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب {ذلِكَ} إشارة إلى ما وعد الله، أو إلى الرضوان {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وحده دون ما يعدّه الناس فوزا.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى صفات المنافقين الذميمة وما أعده لهم من العذاب، أعقبه بذكر صفات المؤمنين المحمودة وما أعده لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم.
وهكذا الشأن في الأسلوب القرآني يذكر المتقابلات والأضداد، للعبرة والعظة، وبيان الفروق، لاختيار الإنسان ما فيه المصلحة. وهنا يتجلى الفرق الواضح بين أفعال المنافقين الخبيثة وما يستحقونه من العذاب، وبين أفعال المؤمنين الحميدة وما يلاقونه من ثواب، ليعلم المنافقون أنهم غير مؤمنين في الحقيقة، وأن ما يظهرونه من إيمان نفاق وخداع، سرعان ما ينكشف، ولا يفيدهم مطلقا.
وأما السبب في ذكر لفظ {مِنْ} في المنافقين: {الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} وفي المؤمنين لفظ {أَوْلِياءُ} : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} : فهو أن تجمع المنافقين على النفاق إنما هو بسبب التقليد والميل والعادة، وأما تجمع المؤمنين على الإيمان فهو بسبب المشاركة في القناعة والاستدلال والتوفيق والهداية.
التفسير والبيان:
إن أهل الإيمان من الذكور والإناث متناصرون متعاضدون، كما
جاء في الحديث الصحيح: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه،
وفي الصحيح أيضا: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» .
وقد كان التعاون بين المسلمين والمسلمات قائما في الميادين والمواقف الحاسمة كلها كالهجرة والجهاد، مع اعتصام الرجال بالعفة وغض البصر، واعتصام النساء بالأدب الجم والحياء والتعفف وغض البصر والاحتشام في الحديث واللباس والعمل. فقد كان للمرأة دور بارز في إنجاح الهجرة كأسماء ذات النطاقين، وكانت النسوة في المعارك والحروب مع الأعداء يسقين الماء، ويجهزن الطعام، ويحرضن على القتال، ويرددن المنهزم من الرجال، ويواسين الجرحى، ويعالجن المرضى.
وقوله في أهل الإيمان: {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} في مقابلة قوله في المنافقين: بعضهم من بعض؛ لأن المؤمنين إخوة تسودهم المحبة والمودة والتعاون والتعاطف، وأما المنافقون فلا رابطة قوية بينهم ولا عقيدة تجمعهم، وإنما هم أتباع بعضهم بعضا في الشكوك والجبن والبخل والانهزام والتردد؛ لأن قلوبهم مختلفة.
وقد ذكر الله تعالى هنا للمؤمنين أوصافا خمسة غير الولاية مع بعضهم يتميز بها المؤمن عن المنافق، وهي في قوله:{يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} .
فالمؤمنون يأمرون بالمعروف، والمنافقون يأمرون بالمنكر كما في الآية المتقدمة.
والمؤمنون ينهون عن المنكر، والمنافقون ينهون عن المعروف كما تقدم.
والمؤمنون يقيمون الصلاة على أكمل وجه وفي خشوع لله، والمنافقون لا يقومون إلى الصلاة إلا وهم كسالى، يراءون الناس.
والمؤمنون يؤتون الزكاة المفروضة عليهم مع التطوع بالصدقات، والمنافقون يبخلون ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في سبيل الله، كما في الآية السابقة.
والمؤمنون يطيعون الله ورسوله، بفعل ما أمرا به، وترك ما نهيا عنه، والمنافقون فاسقون متمردون خارجون عن الطاعة.
وبسبب هذه الصفات التي يتصف بها أهل الإيمان استحقوا الرحمة:
{أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ} أي سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات، ويتعهدهم برحمته في الدنيا والآخرة، وذكر حرف السين في قوله {سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ} للتوكيد والمبالغة، ويقابل هذا نسيانه تعالى المنافقين من رحمته:{نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} فهو تعالى كما وعد المنافقين نار جهنم، فقد وعد المؤمنين الرحمة المستقبلة وهي ثواب الآخرة.
إن الله عزيز لا يمتنع عليه شيء من وعد ولا وعيد، حكيم لا يضع شيئا في غير موضعه، فلا حائل يحول بينه وبين عباده من رحمة أو عقوبة، وهو الحكيم المدبر أمر عباده على وفق العدل والحكمة والصواب، فيخص المؤمنين بالجنة والرضوان، ويخص المنافقين بالنار والعذاب والغضب.
ثم فصل الله تعالى ما وعد به المؤمنين من الرحمة، فأبان أن تلك الرحمة تشمل خيرات كثيرة ونعيما مقيما في جنات: بساتين مشجرة تغطي ما تحتها، تجري الأنهار من تحت أشجارها، فتزيدها جمالا، وهم خالدون ماكثون فيها أبدا، ولهم فيها مساكن طيبة أي حسنة البناء طيبة القرار، كما جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال:«جنتان: من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن» ثم
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا في السماء، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم، لا يرى بعضهم بعضا» .
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه: «إن في الجنة مائة
درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن».
وجنات عدن: اسم مكان ومنزل من منازل الجنة كالفردوس، بدليل قوله تعالى:{جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم 61/ 19] وبدليل حديث أبي الدرداء المتقدم في شرح المفردات. وقيل: العدن: الإقامة والاستقرار، فجنات عدن: هي جنات الإقامة والخلود، كقوله تعالى:{جَنَّةُ الْخُلْدِ} [الفرقان 15/ 25] و {جَنَّةُ الْمَأْوى} [النجم 15/ 53] فالجنات كلها جنات عدن.
وللمؤمنين أيضا رضوان من الله أكبر وأعظم من الجنان، أي رضا الله عنهم أجل مما هم فيه من النعيم، وذلك دليل قاطع على أن السعادة الروحية أكمل وأشرف من السعادة الجسدية. ويؤيده
ما رواه الإمام مالك والشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبّيك ربنا وسعديك، والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون:
يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا».
وقيل: إن الرضوان هو رؤية الله يوم القيامة، كما قال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} [يونس 26/ 10].
ولما ذكر تعالى هذه الأمور الثلاثة (الجنات، والمساكن الطيبة في جنات عدن، والرضوان الإلهي الأكبر) قال: {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي ذلك