الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الانقطاع عن الآباء والأولاد والإخوان واجب بسبب الكفر، وهو قوله:{إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ} .
ثم جاءت الآية التالية: {قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ} مؤكدة لمضمون الآية السابقة، وأبان تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية، ليبقى الدين سليما، إذ سلامة الدين تكون بمباينة الكفار وعدم موالاتهم.
والخلاصة: أن الدين يغير المفاهيم، فيجعل رابطة الدين أعلى وأقوى وأولى من رابطة العصبية الجنسية، وصلة القرابة، والانتماء للأسرة، ويقرر أن ثمرة الهجرة والجهاد لا تظهر إلا بترك ولاية المشركين، وإيثار طاعة الله والرسول على كل شيء في الحياة.
التفسير والبيان:
يا أيها المصدقون بالله ورسوله، لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم في القتال، وتؤيدون الكفار لأجلهم، أو تطلعونهم على أسرار المسلمين العامة أو الحربية، إن اختاروا الكفر على الإيمان، وآثروا الشرك على الإسلام، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون لأنفسهم وأمتهم؛ لأنه خالفوا الله ورسوله، بموالاة الكافرين بدلا من التبرؤ منهم.
فبعد أن نهى عن مخالطتهم، أوضح أن هذا النهي للتحريم لا للتنزيه، بقوله:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم؛ لأنه رضي بشركهم، والرضا بالكفر كفر، كما أن الرضا بالفسق فسق.
ويؤيد ذلك آية أخرى هي {إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} [الممتحنة 9/ 60].
ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وجهاد في سبيله، مصدرا ذلك بكلمة {إِنِ} المفيدة للشك؛ لأن حب الكافرين مشكوك فيه من المؤمنين، والمقصود هو تفضيل حبهم على حب الله، أما أصل الحب فهو أمر فطري طبعي لا لوم عليه، ولا مؤاخذة فيه؛ لأن التكليف يتوجه على الأمور المقدورة للإنسان، لا على الأمور الجبلية الفطرية كالحب والبغض.
فقال له: قل: إن كنتم تؤثرون هذه الأشياء الثمانية، وتفضلون الآباء، والأبناء، والإخوان، والأزواج، والعشيرة (القرابة القريبة) والأموال، والتجارة، والمساكن، على حب الله ورسوله، أي طاعتهما، والجهاد في سبيله الذي يحقق السعادة الأبدية في الآخرة، فانتظروا حتى يأتي الله بعقابه العاجل أو الآجل.
ويمكن تصنيف هذه الأنواع الثمانية بأربعة: وهي مخالطة الأقارب، وذلك يشمل الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، ثم بقية العشيرة، والميل إلى إمساك الأموال المكتسبة، والرغبة في تحصيل الأموال بالتجارة، والرغبة في المساكن.
وهذا ترتيب حسن، يبدأ بالأشد تعلقا والأدعى إلى المخالطة وهو القرابة، ثم الحرص على المال، ثم طريق اكتسابه بالتجارة، ثم الرغبة في البناء في الأوطان والدور المخصصة للسكنى. ولكن الله تعالى أبان أن رعاية الدين خير من رعاية جملة هذه الأمور.
ومن المعروف أن محبة هذه الأمور الثمانية بالطبيعة، فمحبة الآباء غريزة عند الأبناء؛ لأن الولد بضعة من أبيه، والولد يشعر أن أباه سبب في وجوده، والعرب قديما وحديثا يفخرون بالآباء، لهذا حث الله على ذكره في الحج مثل ذكر الآباء أو أشد، فقال:{فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة 200/ 2].
ومحبة الأبناء غريزة أيضا، بل هي أشد من محبة الآباء؛ إذ الولد فلذة من الكبد، وهو محط الأمل، ومفخرة الأهل، كما قال تعالى:{الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا} [الكهف 46/ 18].
والأخ يتقوى بأخيه، ويربطهما الانتماء للأصول من الأب والأم، قال تعالى لموسى:{سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص 35/ 28].
وحب الزوجة أمر فطري أيضا، وكل من الزوجين يكمل الآخر، وسكينة له، وبينهما الود والتراحم:{وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم 21/ 30].
وحب العشيرة قائم على الحاجة للتعاون والتناصر، وهو شديد التأثير في المجتمعات القبلية.
وحب المال المكتسب قوي عند الإنسان؛ لأنه ثمرة عنائه وجهده، وكذلك حب التجارة أصيل في النفس البشرية؛ لأنه مصدر التمويل، لذا يحرص الشخص على تنمية تجاراته، لتنمو موارده، وتكثر أرباحه، فيستفيد منها.
وحب المساكن الطيبة أمر مستكن في النفوس؛ لأنها مهد الراحة والطمأنينة والاستقرار، ووسيلة التفاخر والتظاهر بالنعمة، وربما كانت من المقومات الاجتماعية في الأعراف والعادات.
وبالرغم من مظاهر الحب وحقائقه لهذه الأنواع الثمانية، أمر الله تعالى بإيثار حب الله والرسول وطاعتهما والجهاد في سبيله على هذه الأشياء؛ لأن الله تعالى مصدر جميع النعم، وملجأ لدفع كل الكروب والمحن، لذا وصف تعالى المؤمنين بقوله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ} [البقرة 165/ 2].
وكذلك حب الرسول واجب بعد محبة الله؛ لأنه صاحب الفضل في إنقاذنا من الضلالة إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ولأنه القدوة الحسنة والمثل الأعلى للمؤمنين في تطبيق الشريعة والأخلاق.
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» .
وروى أحمد والبخاري عن عبد الله بن هشام، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله:«الآن يا عمر» .
وأما الجهاد، وإن كان مكروها لدى بعض الناس:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة 216/ 2] فإنه السبيل للحفاظ على كرامة الأمة ومنعة البلاد واستقلالها ومصالح الأفراد، وسبب للذود عن الحرمات والأموال والأعراض، وطريق لدفع العدوان وقمع الأطماع، وأساس لتوفير عزة الأمة ومجدها، وبدونه تكون المصالح العامة والخاصة مهددة بالزوال. لذا فرضه تعالى للضرورة من أجل الحفاظ على هذه المقاصد، ولمنع الفتنة في الدين، وحماية المستضعفين، والتمكين لحرية انتشار الإسلام بالطرق السلمية، وكانت محبته أمرا مطلوبا لحياة المسلمين، لذا
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم-فيما أخرجه الترمذي عن معاذ بن جبل-: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد»
وقال فيما يرويه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أنس: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها» .
ثم ختم الله تعالى الآية بوعيد المخالفين وتهديد المعرضين بعقوبة عاجلة أو