الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصورة الأولى
فى ذكر بيعة السابقين من الأنصار للإسلام وفى دعوة مصعب بن عمير أهل
المدينة إلى الإسلام
.
بينما كان الأوس والخزرج يحاربون بعضهما كان النبى صلى الله عليه وسلم رئيس الذاكرين لنعم الله يتلاقى مع الحجاج الواردين من أقطار العالم إلى مكة المعظمة ويدعوهم إلى الإسلام الذى فيه خيرهم فى حياتهم ومعادهم ويبلغهم أحكام الشريعة، وفى السنة الحادية والخمسين من ولادته السعيدة ذهب إلى صحراء منى حتى يلتقى مع الحجاج الواردين وفق عادته وتقابل مع بعض الأشخاص من قبيلة الخزرج الذين يطلبون الهداية فى سفح جبل «ثبير» .ولما عرف أنهم من قبيلة الخزرج أخذهم إلى ركن ليحدثهم قليلا ثم أخذ يبين الدين الحنيف ويعرفهم به وفق رجائهم وتلى لهم بعض الآيات الكريمة أيضا، وكان الخزرجيون يرغبون فى الدخول من قديم فى حصن الإسلام المتين، وقالوا لابد أن يكون نبى آخر الزمان الذى ينتظر اليهود ظهور نوره وأرادوا أن يسبقوا اليهود فى يثرب فى التصديق وأسلموا بلا تردد وعادوا إلى المدينة وأخذوا يذكرون اسم النبى صلى الله عليه وسلم وأوصافه فأسعدوا كل بيت وقصر.
إن الذين يقال عنهم الأنصار السابقون يعنى أول من أسلم من أهل المدينة هم هؤلاء الأشخاص الذين ذكرناهم؛ ولكن اختلف فى عددهم، بناء على أشهر الروايات تقدم فى الإسلام أسعد بن زرارة وستة أشخاص معه، ولكن عند البعض سبعة أشخاص
(1)
خمسة منهم من الخزرج واثنان من الأوس، رغّبهم فى سبق اليهود فى الإسلام ما سمعوه من اليهود:«إننا نبايع نبى آخر الزمان قبلكم» ،لأن يهود يثرب كلما كانوا ينهزمون فى المناقشة والجدال مع قبائل
(1)
انظر: تاريخ الطبرى 353/ 2،ابن هشام 69/ 2،ابن سعد 145/ 1/1،ابن عبد البر (الدرر) ص 67. وهى بيعة العقبة الأولى.
الأوس والخزرج يقولون: «قد اقترب زمن ظهور سيد البشر صلى الله عليه وسلم وإننا سنجعلكم علفا للسيف بمعيته» ويعلقون انتقامهم إلى ظهور نور نبوة محمد-عليه وعلى آله صلوات الله الستار.
وفى العام المقبل أى فى السنة الثانية والخمسين من ولادة السلطان الجديد الذى سخرت له الرسالة صلى الله عليه وسلم شرف أيضا صحراء «منى» حتى يدعو الحجاج الواردين إلى الإسلام وليهديهم إلى طريق النور المستقيم ويرحب بحجاج القبائل، وتلا الآيات البينات للذين رأى فيهم استعدادا لقبول الإسلام وتلاقى فى هذه المرة مع عشرة أنفار من قافلة المدينة عند العقبة عرضوا بيعتهم عليه بالشروط الآتية:«ألا يشركوا بالله، ألا يسرقوا وألا يقتلوا وألا يزنوا، وألا يفتروا على أحد وألا يرموه بالبهتان فى الحال والمستقبل، وألا يعصوا أوامر الشارع وأن يمتثلوا لأوامر النبى المطاعة فى العسر واليسر فى المنشط والمكره، وإن يحبوا النبى صلى الله عليه وسلم بأن يقدموه على أنفسهم وألا ينازعوه فى أى شئ وأنه يقول الحق فى جميع الأحوال وألا يخافوا لومة لائم فى إظهار الأمر الحق» .
وعقب هذه البيعة
(1)
فتح النبى صلى الله عليه وسلم فمه الشريف ناصحا وقال: «إذا ثبتم فى أقوالكم موفين بعهدكم لكم الجنة، أما إذا تركتم أحد هذه الأمور فالله-سبحانه وتعالى-إما يعفو أو يعذب ويعاقب» .
عاد الذوات الكرام الذين قبلوا الإسلام وفق الشروط المحررة وبعد أن ودعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وعندما وصلوا إلى المدينة المنورة أخذوا يظهرون شعار الإسلام وبادروا فى أداء الصلاة هنا وهناك.
وبعث معهم بناء على رجاء الأنصار السابقين مصعب بن عمير
(2)
حتى يصلى مع المسلمين وليعلمهم أحكام الشريعة الغراء وتلاوة القرآن الكريم على طريقة صحيحة، وأمروا بأن يختاروا أسعد بن زرارة من بينهم لإمامة صلاة الجمعة.
ونزل مصعب بن عمير فى الدار التى يسكن فيها أسعد بن زرارة ونال شرف الإمامة الغالية للأنصار الذين قبلوا الإسلام بجهود مصعب بن عمير وترغيبه.
(1)
إن مصعب بن عمير أول من أطلق عليه لقب المقرى من الأصحاب الكرام.
(2)
وهى بيعة العقبة الثانية: انظر سيرة ابن هشام 73/ 2،ابن سعد 147/ 1/1،وتاريخ الطبرى 355/ 2، وغيرها.
وقد أخذ أسعد بن زرارة مصعب بن عمير عقب أداء صلاة الجمعة الأولى
(1)
إلى بيوت الأنصار فى قرية بنى عبد الأشهل ومن هناك أخذه إلى قرية بنى ظفر القريبة من القرية السابقة وطلب من حضرة مصعب أن يدعو أهالى القريتين المذكورتين إلى مائدة الإسلام ذات الفوائد العميمة بينما هو جلس فى ركن من الأركان، وأخذ الناس يقبلون على قبول الإسلام بجهود أسعد بن زرارة وغيرته، واجتمعوا حول مصعب وأقبلوا على استماع القرآن الكريم منه؛ إلا أن سعد بن معاذ وأسيد بن حضير من أشراف بنى عبد الأشهل غارا من استجابة أهالى القرتين إلى دعوة مصعب ودخولهم إلى الإسلام فرادى وولوجهم فى دائرة الإيمان الباهرة ذات الفيوضات وأخذا بفكران فى أسباب إخراج أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير (رضى الله عنهما) من القريتين سالفتى الذكر.
وكان سعد بن معاذ ابن أخت أسعد بن زرارة، وأحنى سعد رأسه مدة مفكرا قال رافعا رأسه: «يا أسيد! إنك شريف بين القبائل ورجل مع علية القوم! فإنك ترى أن مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة (رضى الله عنهما) يحسبان نفسيهما من يمثلان الحق وبهذا يغفلان سادة رجال القرية! عليك أن تزجرهما وتزعجهما وتخرجهما من حدود قريتنا وتطردهما! إن أسعد بن زرارة ليس منا بعد الآن وهكذا شجع رفيقه أسيد بن حضير.
وأخذ أسيد بن حضير حربته وتوجه بكل شدة وحدة إلى المنزل الذى شرفه مصعب بالإقامة فيه، وكان أسعد بن زرارة قد ركز أنظاره إلى الأطراف والأكناف حتى يعرف كيف سيتحرك سعد بن معاذ، ولم يعجبه وجهة توجه أسيد، ولما أطلع أسعد بن زرارة مصعبا على شأن أسيد قال مصعب بن عمير: إذا ما ألقى الله سبحانه وتعالى حب الإسلام فى قلبه تتيسر مهمتنا!! وبعد فترة وصل أسيد وقال وهو فى أشد غضبه ما غرضك من جلب مصعب بن عمير إلى قريتنا يا أسعد بن زرارة؟ وما هو قصدك من إضلال وخداع ضعفاء قومنا؟ إذا كانت لكم
(1)
أول صلاة الجمعة التى صليت فى المدينة هى التى كانت الإمامة فيها لمصعب وكانت فى هزم حرّة بنى بياضة فى بقيع يقال له بقيع الخضمات-ويقال نقيع بالنون-وكانوا أربعين رجلا.
انظر: الدر فى اختصار المغازى والسير لابن عبد البر، ص 69.
حاجة خاصة بكم بينها، وإلا فقوما وانصرفا من هنا وأراد أن يكدر أسعد بن زرارة بهذه الطريقة، إلا أن مصعب بن عمير قال له:«يا أسيد!! اجلس قليلا واستمع إلى الأقوال التى سأقولها فإذا ما رأيتها معقولة تقبلها وإذا رأيتها كريهة ترفضها!!» فأجابه قائلا: «فى الواقع إن قولك هذا حق» وجلس فى ركن من الأركان وآثار البشاشة التى شوهدت على بشرته كانت تدل قطعيا على أنه سيقبل الإسلام ويرضى به دينا.
وحينما رأى ابن عمير جلوس أسيد بن حضير تلا عدة آيات كريمة ودعاه إلى مائدة الإسلام عميم النوال، وظهرت فى قلب أسيد بن حضير آثار المحبة والقبول، وقال:«ما أحسنها من أقوال! وما أوضحه من طريق هذا الطريق الحق! يا ترى ما التكاليف الشرعية التى يكلف بها الذين يريدون أن يدخلوا فى هذا الدين المختار؟» فأجابه مصعب قائلا: «يجب على الذين يريدون الإسلام أن يغتسلوا أولا ثم يطهروا ملابسهم، ثم يعترفوا بوحدانية الله تعالى المطلقة ثم يصلوا» .
وقد تأثر أسيد بن حضير من الإجابة الصحيحة وابتدر بتجديد ثيابه وفق تعليمات حضرة مصعب بن عمير وأقر بقلب نقى طاهر بتوحيد الله وتعلم أركان الصلاة ثم قال: «هناك بين قبائل الخزرج رجل شريف! إذا ما استطعتم أن تدخلوه فى دائرة الإسلام المنجية فثقوا تماما أن قبائل الخزرج كلها ستسلم. ها أنا ذاهب لأرسله إليكم، إن هذا الشخص ذات صفات مشحونة بالهداية هو سعد بن معاذ» قال هذا وقام وذهب.
ولما رأى سعد بن معاذ عودة أسيد بشوش الوجه ونور الإيمان يلمع فى وجهه أحس أنه صدق بالنبوة المحمدية وأدرك ذلك وقال لمن بجانبه من الأشراف: «إن الشخص القادم يشبه أسيد بن حضير، وإن مجيئه بهذا الشكل لا يسرنى، لا أظن إلا أنه قد عرض البيعة لمصعب بن عمير!! فليجعل الله-سبحانه وتعالى ألا يخفى أمره هذا منا عندما يأتى، لننتظر حتى يصل إلينا» وقد وصل أسيد بمجرد ما انتهى من أقواله فاستجوبه قائلا: «يا أسيد! ماذا فعلت؟ وكيف تعاملت
مع هذين الشخصين؟ فمنذ أن فارقتنا فأنا قلق» وتلقى من جانب أسيد الإجابة الآتية: «إننى لم أتنسم من أقوالهم رائحة الفساد والغاية السيئة، وأقسم بالله إن قوليهما لا يتعدى التعريف بالإله الواحد واجب الوجود ووصف صدق النبوة المحمدية وبيانها!!» وحينما أخذ سعد بن معاذ هذه الإجابة فتحول إلى قطعة من نار تحرق العالم من شدة حدته ووثب من مكانه وخطف حربته وتوجه إلى مكان المشار إليهما.
وقد ارتعد أسعد بن زرارة واضطرب حينما رأى سعد بن معاذ مقبلا وهو ينشر إلى أطرافه شرارة الدهشة فأراه لمصعب قائلا: «إن هذا الشخص المقبل هو من يسمى بسعد بن معاذ الأشهلى وإنه آت بغضب شديد! إذا كان هذا أيضا يقبل الدين الحق ويصدق بنبوة النبى صلى الله عليه وسلم لا شك فى أن القبائل الخزرجية كلها ستسلم كما قال أسيد بن حضير» ،وعقب ذلك وصل سعد بن معاذ رافعا قامته وقال:
«يا أسعد! قد غضبت من جنبك شيئا ننفر منه وهو منكر عندنا بدرجة لو لم تكن بيننا نسبة القرابة لكنت أهلكتك ورميتك فى حفرة الدمار بهذه الحربة السامة» ، ثم كدر مصعب بن عمير بذكر ألفاظ غير لائقة، فرد عليه مصعب بن عمير دون أن يضطرب قائلا: يا سعد! كان يجب عليك أن تجلس قليلا حتى تسمع ما سأتلوه من الآيات الكريمة ثم ترد على وتجرحنى وتقبح كلامى، إلا أنك عاتبتنى وكدرتنى بأقوالك دون أن تعرف ما سوف أقوله لك وجرحت الأقوال الشرعية على العمى وقبحتها وعاتبتنى وقلت عن النبوة أنها ليست حقا وقلت أننا نكره الأوامر، وهذا التصرف مناف لأحكام قانون المناظرة» وخجل سعد بن معاذ واستحيى مما قاله وقال:«فعلا هذا ما كان يجب أن يكون! إننى لم أفكر فى هذه الأشياء وتجاوزت دائرة الأدب فأرجو أن تعفو عنى وأن تغفر لى سلوكى ثم جلس فى جهة ما» وقد ظهرت عليه دلائل قبول الإسلام إذ أخذ نور الإيمان يتلألأ فوق بشرته ويلمع. واطمأن مصعب بن عمير من حركات سعد بن معاذ الملائمة ثم تلا آية أو آيتين مناسبتين للموقف.
ثم دعاه إلى دار ضيافة الإسلام وكلفه أن يطهر جسمه وثيابه حتى يدخل فى الطريق المستقيم، فما كان من سعد بن معاذ إلا أن غير ملابسه واغتسل وفق
الصورة المسنونة ودخل فى حصن الإسلام المتين، ثم جمع أبناء قبيلته وقال لهم:
«يا بنى عبد الأشهل إننى اقتنعت بصحة الإسلام وقبلته! بعد هذا يقتضى أن تسلموا كلكم!!!» وبهذه الطريقة رغب جميع بنى عبد الأشهل فى قبول الإسلام، وبناء على إلحاح سعد بن معاذ المتكرر وتشويقه دخل بنو عبد الأشهل جميعا رجالا ونساء فى دائرة الإسلام المنجية وبناء على هذا ترك مصعب بن عمير القرى المذكورة وانتقل إلى دار أسعد بن زرارة رضى الله عنهما منزل الهداية وظل هناك حتى أسلم جميع قبائل الأنصار.
وفى الوقت الذى دخل فيه بنو عبد الأشهل إلى دائرة الإسلام المنجية باغت أفراد بنى النجار دار أسعد بن زرارة (رضى الله عنه) وأخرجوا منها مصعب بن عمير، وهكذا أرادوا أن يزعجوا ويقلقوا مصعب بارتكاب هذه الشرور، إلا أن سعد بن معاذ أخذه تحت حمايته حيث ظل إلى أن أسلم صناديد القبائل مثل عمرو بن الجموح وإلى أن كسروا أوثانهم وأهانوها وأصبح مصعب وهو فى حماية سعد بن معاذ مشعلا منيرا يهدى إلى طريق النجاة والسلامة وفى هذه الفترة دخل الأنصار الكرام كلهم فى حصن الإيمان المتين وظلوا ينتظرون الهجرة النبوية.
وقبل الهجرة النبوية المشحونة بالبركة أسلم قبائل الأنصار كلهم وكسروا أصنامهم وزاد عددهم بالنسبة لليهود، كما أنهم اكتسبوا شرفا من الناحية الأخلاقية والتقاليد والمدنية وانتظموا وأصبحوا يعدون من أعيان أهالى أرض يثرب عامة وأشرافها إلا أن القبائل التى كانت تحت إدارة الشاعر «أبو قيس بن صيفىّ ابن الأصلت» ترددت فى قبول الدين المبين دين الإسلام وتلك القبائل هى: «بنو أمية بن زيد، وبنو خطمة، وبنو وائل، وبنو واقد
(1)
«وظل أفرادها على دينهم القديم قرب وقائع بدر، أحد، والخندق» وذلك لعدم تخلى الشاعر المذكور عن ذم الدين الحنيف الأحمدى وتقبيحه، ولوم الذين أرادوا أن يسلموا وتوبيخهم.
(1)
وفى ابن هشام «واقف» ،وهنا «وافق» ،وفى الدرر لابن عبد البر «واقد» .