الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصورة الثامنة
فى ذكر وبيان المقام واجب الاحترام الذى يطلق عليه «الصفّة»
وأين تقع هذه الصفة فى مسجد السعادة ومما تتكون ومن هم الأشخاص الذين يطلق عليهم «أصحاب الصفّة» .
كانت الصفة الشريفة التى كانت محل إقامة أصحاب الصفة بناء على تحقيق المرحوم القاضى عياض وروايته فى نهاية مسجد المدينة السعيد الشمالى، وكان الصحابة الفقراء الذين يردوا إلى المدينة المنورة المهجر النبوى يسكنون فى الصفة الشريفة، وكانوا يعبدون الله ليلا ونهارا، لما كانت الصلاة تؤدى فى اتجاه البيت المقدس كان محراب المسجد الشريف مكان الصفة المسعودة، وبعد أن تحولت القبلة إلى مكة المعظمة أصبح ذلك المكان وقفا لإقامة المهاجرين الغرباء، وبما أنه بعد تحويل القبلة لم يبق فى ذلك المكان محراب مخصوص فعقب تحويل القبلة صنع فى ذلك المكان مظلة لإقامة الأصحاب الغرباء واعتاد بناء على ذلك أن يقيم فى هذه المظلة من لا مأوى ولا سكن ولا عيال ولا أولاد لهم.
وكما أوضحنا فى الصورة الأولى من الوجهة السادسة عند ما تكاثر المهاجرون الكرام الذين لا صلة لهم بأهالى المدينة رأى النبى صلى الله عليه وسلم الذى يطيب خاطر أمته أن يؤوى هؤلاء الضعفاء فى هذا المكان المبارك ويحدثهم ويخفف عنهم كربهم ويرفع من معنوياتهم إلى أعلى مكانة، ولما زاد إحسان النبى صلى الله عليه وسلم لمهاجرى دار ضيافة المدينة ولسكان الصفة المباركة ساعة بعد ساعة حتى تمنى أهالى المدينة وأغنياء المهاجرين أن يكونوا من أصحاب الصفة، وأخذ فقراء المدينة يداومون على الإقامة مع أهل الصفة حتى يشاركوا أهل الصفة فيما يتناولونه من آيات الغفران، وهكذا عدوا من أصحاب الصفة وبناء على ذلك كان العبيد الذين يحررهم النبى صلى الله عليه وسلم ويعتقهم والذين كانوا يفتخرون بخدمة النبى يصرون على ألا ينفصلوا عن قرب النبى لأجل ذلك يفضلون أن يصبحوا من أصحاب الصفة كما كان يعد
أقرباء سلطان الدين والسادات والأنصار والمهاجرون وأشخاص آخرون أن يجلسوا ويحادثوا أصحاب الصفة من أقصى آمالهم، وبهذا أدخلوا ضمن الجماعة السعيدة من أصحاب الصفة وعدوا منهم.
وكان فقر أصحاب الصفة وشدة حاجاتهم فى حالة تجل عن الوصف، وبناء على ما يرويه الصحابى أبو هريرة كان بينهم بعض الأشخاص الذين كادوا أن يكونوا عراة من شدة حاجتهم وإنهم استطاعوا أن يتداركوا بعد آلاف المشقات والصعوبة قطعة من قماش لا تكاد تستر محال عوراتهم، ولم تكن قطعة القماش التى اتخذوها ملابس على طول واحد إذ كان بعضها أميل إلى الطول وكان بعضها قصير، وكانوا يسترون بها ما تحت خصورهم، وكان الذين لهم أقمشة قصيرة يغطون بها جسمهم من خصورها إلى ركبهم فقط ومن كان قطع أقمشتهم أطول كانوا يغطون إلى سيقانهم، وكان أداء الصلاة بهذه الحالة وفقا للآداب الشرعية يكاد أن يكون مستحيلا لأجل ذلك كانوا يدخلون قطع القماش ما بين سيقانهم بصعوبة كالإزار وبهذا ينقذون صلواتهم من الكراهة وبعد أداء الصلاة كانوا يلفون بهذه الأقمشة خصورهم.
وكانت أقوات أصحاب الصفة اليومية من الأشياء الرخيصة مثل البلح، إلا أنهم عند ما تقوم الحروب كانوا يشاركون فيها غالبا وكانوا يقاتلون فى منتهى الشجاعة.
قال أحد فضلاء الأصحاب وهو فضالة بن عبد الله: كنت أصلى يوما فى زاوية من الزوايا الشمالية من المسجد، وفجأة قام أصحاب الصفة على أرجلهم ووقفوا وقفة الاحترام والتعظيم وفى سكوت تام، إذ كان سلطان عرش الدين- عليه صلوات الله المعين قد شرف المكان، وقال فريد العالم صلى الله عليه وسلم فى أثناء تقربه من صفوف أهل الصفة، «لو وقفتم على مدى حب الله لكم لتمنيتم أن تزدادوا فقرا وحاجة» .
وكان أصحاب الصفة فى غاية الفقر وكانوا فى حاجة إلى نصف لقمة من الخبز ومن هنا كان معدن السخاء-عليه وعلى آله أصفى التحايا-يطعمهم صباحا
ومساءا وكان الأصحاب الأغنياء يمتثلون لأوامر النبى صلى الله عليه وسلم التى يطيعها العالم كله ويصحبون معهم اثنين أو ثلاثة من هؤلاء إلى منازلهم لإطعامهم كل على قدر ثروته.
وإن كان ما يرويه حضرة فضالة كافيا لإيضاح مدى فقر أصحاب الصفة وشدة جوعهم وشدة تحملهم للحاجة والفقر إلا أن أبا هريرة بما أنه كان معينا للاطلاع على أحوالهم وشئونهم من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذا فهو يعرف أحوالهم أكثر من الأصحاب الآخرين.
يتفضل حضرة أبو هريرة قائلا: «رأيت أن بين رفقائى سبعين نفرا كانوا عراة تمام العرى إذ لم يكن معهم إزار أو رداء وإن كان بعضهم قد وجد قطعة من القماش وستروا أماكن عوراتهم إلا أن أكثرهم لم يستطيعوا العثور على قطعة قماش قديمة فغطوا أمامهم بأيديهم وستروا عوراتهم بهذا الشكل.
أقسم بالله الذى لا إله غيره-تعالى شأنه عما يقولون-إننى لم أستطع أن أتحمل يوما الجوع وأسندت بطنى على الأرض متصورا أنه يساعدنى على الصبر والتحمل ومع مرور الزمن اشتد جوعى وزاد اضطراب جسمى فالتقطت من الأرض حجرا وشددت به بطنى، كان غرضى أن أجد حلا للجوع وقد وصلت حالتى لدرجة أنى يئست من الحياة، وخرجت إلى الطريق لعلى أجد أحدا من أهل المروءة يمر من الطريق، وبعد وقت قصير ظهر الصديق الأكبر وبعده ظهر الواقف على أسرار البشر، ونظر إلى بابتسامة تبعث الحياة وأجال نظره ثم قال:
«تعال يا أبا هريرة» فمشيت خلفه ودخلت بيته بعد الاستئذان ووجد قدحا من اللبن وسأل عن الذى أتى بهذا اللبن فقيل له إن أحد خدم الحرم أهداه وقدمه، ثم توجه إلى بالحديث قائلا:«إن هذا اللبن من حق أصحاب الصفة! اذهب وائت بجميع إخوانك إلى هنا، إنكم ضيوف المسلمين الأعزاء والمحترمين؛ إنكم لا تملكون أهلا ولا عيالا ولا أموالا وليس لكم مأوى ولا مسكن!» وكان جوعى قد تجاوز حده ورأيت اللبن فى القدح قليلا ومن هنا قلت يا رسول الله كيف يشبع قدح من اللبن هؤلاء! إنهم سبعون رجلا بالتمام والكمال وأردت بهذا أن
أشير إلى عدم كفاية اللبن، إلا أننى قد أخذت منه الجواب المعجز إذ قال:«ما عليك إلا أن تأتى بهم فالله-سبحانه وتعالى-ينعم بالبركة للبن» فذهبت إلى أصحاب الصفة وسحبتهم خلفى حتى عفرت وجهى بتراب أرجل الرسول صلى الله عليه وسلم وشربنا من ذلك اللبن حتى شبعت بطوننا وقدح اللبن ينتقل من يد إلى يد ولم تنقص قطرة من لبن القدح، إلا أننا لم نستطع أن نشرب أكثر مما شربنا وقد شبعنا إلى درجة أنه بعد أن شربنا بحرص الجائع أصبحنا نتنفس بصعوبة.
يفهم من تعريف أبى هريرة هذا أن فقر أصحاب الصفة وشدة حاجتهم لم يكونا ينقصان من قدرهم لدى النبى صلى الله عليه وسلم بل كان يزيد قدرهم عنده كلما زاد فقرهم وحاجتهم وكلما كان حامى دين الإسلام-عليه الصلاة والسلام-يشرف مسجد السعادة كان يلاطف المشار إليهم ويطيب خاطرهم بالحديث إليهم وعقب الصلوات كان يستدعى كل واحد منهم على حدة إلى مجلسه مجلس الملائكة ويستفسر عن أحوالهم.
فى الوقت الذى أخذت القبائل ترسل سفراءها لغرض قبول الإسلام، وعندما كثر القرشيون فى المدينة دار السكينة متحيرين بين قبول الإسلام ورده، حسد أشراف قريش ما يظهره النبى صلى الله عليه وسلم نحو أهل الصفة من آيات المودة وأخذوا يتقولون فى طرد المشار إليهم من المجلس النبوى وإبعادهم منه، حتى إن الأقرع بن حابس التميمى وعيينة بن حصن الفزارى والآخرين نالوا شرف حضور المجلس النبوى ورأوا أن ثلاثين من أصحاب بدر الفقراء يحيطون بالنبى صلى الله عليه وسلم كهالة القمر فأخذتهم العزة والغرور بالإثم وخرجوا عن شعورهم ووعيهم وقالوا: «يا رسول الله أبعد عن مجلسك العالى ابن مسعود، وبلال الحبشى ومقداد بن الأسود وسلمان الفارسى وصهيب بن سنان الربيعى وأمثالهم من الغرباء! إننا من العظماء الذين يرعى جانبهم بين الأقوام القرشية فيجب رعاية جانبنا، نحن نتحادث مع ذاتك الكريمة ونستفسر عن الإسلام ونستمع إلى الأحاديث والقرآن، إن الوفود العربية تأتى وتذهب بكثرة ويروننا بين أسافل الناس، وإن هذه الحالة تجلب لنا العار!! إننا ذوو قدر وتوقير بين الناس، فإذا ما