الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيفية إعاشة أصحاب الصفة:
تعرضت أشجار النخيل فى أواخر عهد السعادة لنوع من الآفات وأشجار النخيل التى أصابها الآفة عندما أشرفت على إظهار ثمارها ذبلت أزهارها وبليت وسقطت على الأرض وأصابت الآفة خمسة وتسعين فى المائة من النخيل، وبهذا الشكل كان رأسمال الملاك وثروتهم قد ذهبا هباء ومحيا تماما. وقام الزراع للقضاء على هذه الآفة بآلاف المحاولات حتى يجدوا حلا سريعا لهذه الآفة، وقاموا فى سبيل ذلك ببعض التضحيات إلا أن سعيهم وجهودهم ذهبت هباء، وإذا ما دامت هذه الحالة أصبح احتمال الحصول على المحاصيل من حدائق المدينة مستحيلا، ومن هنا راجعوا طبيب الكائنات-عليه أسبغ التحيات-راجين أن يجد دواء لدائهم. فما كان من النبى صلى الله عليه وسلم الواقف على أسرار الحكمة إلا أن اتخذ قرارا بأن يأتى كل من أصابت الآفة نخيله بعنقود من البلح صدقة خالصة لأصحاب الصفة وبنية صحيحة، وامتثل للأمر النبوى معاذ بن جبل من سادات الأصحاب وكان أول من امتثل وأسرع بقطف عنقود من البلح الطازج وأتى به إلى مسجد السعادة وبما أن الآفة انقطعت من حديقة معاذ بن جبل إثر هذا العمل وأبلغ الأهالى الرسول صلى الله عليه وسلم أصدر النبى صلى الله عليه وسلم تعليماته أن يأتى كل من ابتلى بالآفة بعنقود بلح لتوزيعه على أصحاب الصفة وأعلن ذلك على الزراع.
ومن هنا اتخذ أصحاب الحدائق عادة ألا يطعموا أولادهم وعيالهم قبل أن يقدموا عنقودا من البلح لأصحاب الصفة، واستمر أصحاب اليسار والثروة بعد زوال الآفة فى تقديم البلح إلى مسجد السعادة كصدقة لأهل الصفة متبركين وعدوا هذا العمل كنفع عام ومن هنا تنافسوا فى هذا العمل المبارك.
وتولى معاذ بن جبل بحفظ ما يقدم من البلح وأخذ يوزعه على أصحاب الصفة فى أوقات معينة مخصوصة، وكان محمد بن مسلمة من أكابر الصحابة معروفا بالسماحة والسجايا السامية وكان رجلا فاضلا يسلك دائما أحسن المسالك، إذ كان فى باكورة مواسم البلح يأتى بعناقيد البلح التى يجمعها ويضعها
بين عمودين من أعمدة المسجد ومن رأى ذلك اتخذ عادة الإتيان ببعض عناقيد البلح ويضعها بجانب عناقيد البلح المشار إليه، ولما كان هذا النظام الحسن سببا فى إعاشة أصحاب الصفة وتسهيل حياتهم فقد تعمم تقديم البلح حتى أصبح كقانون البلد، وعمل زراع البلد بهذا القانون ذو الفرائد واستمروا على ذلك فى عصر السعادة وهكذا أطعموا حضرات أصحاب الصفة.
وعندما كثرت عناقيد البلح فى مسجد السعادة ربط معاذ بن جبل بين الأعمدة التى تراكمت فيها العناقيد حبلا وعلق عليه العناقيد وكان الأصحاب الكرام يهزون العناقيد بعصيهم ويدعون أصحاب الصفة وبعد تناول البلح كان أصحاب الصفة ينصرفون إلى الأروقة التى صنعت من أجلهم فى نهاية مسجد السعادة من جهة الشمال حيث يمضون أوقاتهم فى الطاعة والعبادة.
واستمر توزيع البلح بهذه الصورة إلى أزمنة الخلفاء الراشدين، ولكن فيما بعد كثرت حقول البلح وكثر الغرباء من الوافدين إلى المدينة حيث أصبحت الصفة الخاصة بأصحاب الصفة لا تتسع لإيوائهم ومن هنا أخذ ولاة المدينة المنورة ما يتبرع به الزراع من بلح التبرك وباعوا بعضه واشتروا بعض قرب الماء والنعال وأشياء أخرى وأخذوا يطعمون الفقراء الوافدين فى مواسم الحج طول إقامتهم حسب النظام السابق وأسعدوهم عند عودتهم بإعطاء كل واحد منهم قربة ماء ومقدارا من البلح، وقد ألغى الولاة المتأخرون النظام السابق وأحالوا إدارة الزوار الفقراء إلى دار الضيافة النبوية، وبما أنه لم يبق الآن فى المدينة المنورة، لا الزراع الذين يقدمون البلح لإطعامهم ولا القادرون الذين يعنون بإطعام الفقراء ويفكرون فيه ومن هنا فالفقراء الذين نفدت نقودهم وطعامهم لم يجدوا إلا صاحب الرسالة عليه أكمل التحية يعرضون عليه حاجتهم وهكذا ينالون مطالبهم كما سيفصل فى المقال الذى فى خاتمة الكتاب.
ومكان المظلة والرواق اللذان صنعا خصيصا من أجل أصحاب الصفة الذين يعيشون كما سبق ذكره فى الجهة الشمالية من محراب التهجد وتقع هذه الصفة
المسعودة بين محراب التهجد الشريف إلى باب جبريل تظل مقصورة محراب التهجد فى الجهة اليمنى ومقصورة صفة أصحاب الصفة المباركة فى الجهة اليسرى.
وأراد الأسلاف الكرام أن يحافظوا على مكان الصفة الشريف إلى يوم القيامة وبهذا التفكير المصيب رفعوا الصفة عن سطح المسجد الشريف بمقدار ذراع واحد وأحاطوا أطرافها بسور خشبى فى ارتفاع نصف ذراع وخصصوها لجلوس أغوات حجرة السعادة، ويقيم الزوار الأفاضل وشيخ الحرم والآخرون من الذوات الكرام ليصلوا الصلوات المفروضة فى صفة أصحاب الصفة كما أن حراس الحجرة المعطرة يمضون أوقات نوبتهم فى هذا المكان الجميل بقراءة أورادهم الخاصة، إن هذا المكان موضع مبارك فى غاية اللطف والروحانية ولا ينكر أهمية الصلوات التى تؤدى فى هذا المكان لشرفه إلا أن أداء الصلاة فى الروضة المطهرة ما دام يجد الإنسان مكانا خاليا أفضل من الصلاة فى الصّفّة. ولكن فى حالة ازدحام الروضة المطهرة بالمصلين وعدم وجود مكان للصلاة تؤدى الصلاة فى مقصورة أصحاب الصفة، وإذا ما تذكر الإنسان تراحم أحوال أصحاب الصفة ومناقبهم وفضائلهم فلابد أن يقدر أهمية موقع ذلك المكان.
وكيف لا يبعث هذا المكان صفاء وسكونا للقلب؟ فمحراب التهجد أمامه ودار السيدة فاطمة الزهراء-رضى الله عنها-خلف محراب التهجد والروضة المطهرة فى الجهة الشرقية القبلية منه وحجرة النبى صلى الله عليه وسلم المعطرة فى التقاء الروضة المقدسة من الجهة الغربية.