الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني أصول مذهب الإمام أحمد والأصحاب من بعده
كانت حياة الإمام أحمد على نهج النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده وتابعيهم، وهكذا كانت أصوله الفقهية، لم يتعد طريقة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يجاوزها إلى غيرها.
قال الشيخ أبو زهرة: أما أحمد ابن حنبل، فكانت له مدرسة تجاوز بها الحقب، وعلا إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد أصحابه، فتخرج في الفقه على المجموعة الفقهية التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أقضيته، والأحكام المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم، ورويت عن أصحابه عليهم السلام في أقضيتهم وفتاويهم، سواء في ذلك ما رجعوا فيه إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اجتهدوا فيه من آراء، فكانت تلك المجموعة التي رواها، والتي رحل إلى الأقطار الإسلامية في سبيل جمعها هي المدرسة الفقهية التي تخرج عليها (1).
وحيث علمت ذلك فاعلم أنه قد صرح المجتهدون من أهل مذهبه التابعين له في الأصول أن فتاواه رضي الله عنه مبنية على خمسة أصول:
1 -
النصوص.
2 -
ما أفتى به الصحابة.
3 -
إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة.
4 -
الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف.
(1)"أحمد بن حنبل: حياته وعصره وآراؤه الفقهية" لأبي زهرة صـ 244.
5 -
القياس: يستعمله للضرورة.
وهناك من الأصول الملحقة بهذِه الأصول المتفق عليها بين الأئمة أصول أخرى مختلف فيها بينهم من آخذ بالواحد منها، ومن لا يعتبره أو مقدم له، أو مؤخر أو من منكر على عد الآخرين له أصلا، ومن معول عليه بأولية في الاعتبار. وهي:
- الاستحسان.
- الاستصحاب.
- سد الذرائع وإبطال الحيل.
- الأخذ بالمصالح المرسلة.
- شرع من قبلنا.
- العرف.
وسنفصل في الصفحات التالية إن شاء اللَّه ما أجملناه، وقبل أن نخوض في ذلك، نبين موقف الامام أحمد من الإجماع ودعوى إنكاره له:
قال القاضي أبو يعلى: الإِجماع حجة مقطوع عليها، يجب المصير إليها، وتحرم مخالفته، ولا يجوز أن تجتمع الأمَّةُ على الخطأ (1). وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية عبد اللَّه وأبي الحارث: في الصحابة إذا اختلفوا لم يُخْرَج من أقاويلهم، أرأيت إن أجمعوا، له أن يخرج من أقاويلهم؟ هذا قول خبيث، قول أهل البدع، لا ينبغي أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا.
(1) هذا ما هو متفق عليه عند عامة الحنابلة انظر "التمهيد" 3/ 224 لأبي الخطاب، "الروضة" 1/ 315 - 316 لأبي محمد، "المسودة" 2/ 615 لأبي البركات، "مجموع الفتاوى" لابن تيمية 20/ 10/ 247 - 248، 19/ 271.
وقد علق القول في رواية عبد اللَّه فقال: من ادعى الإِجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذِه دعوى بشر المَرِّيسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم، لعل الناس اختلفوا ولم يبلغه. وكذلك نقل المروذي عنه: أنه قال: كيف يجوز للرجل أن يقول: أجمعوا؟ ! إذا سمعتهم يقولون: أجمعوا فاتهمهم، لو قال: إني لم أعلم لهم مخالفًا جاز.
وكذلك نقل أبو طالب عنه: أنه قال: هذا كذب، ما علمه أن الناس مجمعون؟ ! ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافًا، فهو أحسن من قوله: إجماع الناس. وكذلك نقل أبو الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدعي الإِجماع، لعل الناس اختلفوا.
وظاهر هذا الكلام أنه قد منع صحة الإِجماع، وليس ذلك على ظاهره، وإنما قال هذا على طريق الورع، نحو أن يكون هناك خلاف لم يبلغه. أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف؛ لأنه قد أطلق القول بصحة الإِجماع في رواية عبد اللَّه وأبي الحارث.
وادعى الإِجماع في رواية الحسن بن ثواب، فقال: أذهب في التكبير من غداة يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، فقيل له: إلى أي شيء تذهب؟ قال: بالإِجماع عمر وعلي وعبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن عباس. وهذا قول جماعة الفقهاء والمتكلمين (1).
قال ابن القيم: ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا ويقدمونه على الحديث الصحيح وقد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت وكذلك الشافعي أيضا نص
(1)"العدة في أصول الفقه" 1/ 1056 - 1059.
في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له إجماع، ولفظه: ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا. وقال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول ما يدعي فيه الرجل الإجماع، فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا ما يدريه! ولم ينته إليه فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا هذِه دعوى بشر المرسى والأصم، ولكنه يقول: لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغني ذلك. هذا لفظه.
ونصوص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف، ولو ساغ لتعطلت النصوص وساغ لكل من لم يعلم مخالفا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص، فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده (1).
قال ابن بدران: فلا يتوهمن متوهم أن الإمام أنكر الإجماع إنكارا عقليا وإنما أنكر العلم بالإجماع على حادثة واحدة انتشرت في جميع الأقطار وبلغت الأطراف الشاسعة ووقف عليها كل مجتهد ثم أطبق الكل فيها على قول واحد وبلغت أقوالهم كلها مدعى الإجماع عليها، وأنت خبير بأن العادة لا تساعد على هذا كما يعلمه كل منصف تخلى عن الجمود والتقليد، نعم يمكن أن يعلم هذا في عصر الصحابة دون ما بعدهم من العصور لقلة المجتهدين يومئذ وتوفر نقل المحدثين على نقل فتاواهم وأرائهم.
فلا تتهمن أيها العاقل الإمام بإنكار الإجماع مطلقا؛ فتفترى عليه (2).
(1)"إعلام الموقعين" 1/ 30. وانظر: "شرح أصول فتاوى الإمام أحمد للإمام ابن القيم" من تصنيف الأخ الشيخ مجدي حمدي.
(2)
"المدخل" لابن بدران صـ 285.