الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهي أن يظهر اعتقادا مباحا يريد به محرما مخادعة وتوصلا إلى فعل ما حرم اللَّه واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب أو دفع حق (1).
قال ابن تيمية: وقد بسطنا الكلام على قاعدة إبطال الحيل وسد الذرائع في كتاب كبير مفرد، وقررنا فيه مذهب أهل المدينة بالكتاب والسنة، وإجماع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار (2).
وتابع ابن القيم شيخه واستدل على وجوب سد الذرائع بتسعة وتسعين دليلًا ذكرها في كتابه "إعلام الموقعين"(3).
والخلاصة: أن الإمام أحمد وأصحابه يرون وجوب سد الذرائع وإبطال الحيل، وأن الأمر فيه نكير شديد على من توسع فيها، وتتبعها، وأفتى بها؛ ليحل الحرام ويحرم الحلال. قال عبد الخالق بن منصور: سمعت أحمد بن حنبل يقول: من كان عنده كتاب "الحيل" في بيته يفتي به فهو كافر بما أنزل اللَّه على محمد صلى الله عليه وسلم (4).
*
رابعًا: المصالح المرسلة
كان منهج الإمام أحمد التمسك بما عليه السلف الصالح، يأخذ بفتاواهم المنصوص عليها، فإذا لم يجد نصًّا لهم أخذ بمناهجهم، واتبع مثل طريقهم، حتى يكون دائمًا مستضيئًا بمشكاتهم، وقد أخذوا بالمصلحة سبيلًا من سبل الفتوى، فحق عليه أن يأخذ بها. وقد أخذ بها في كثير من المسائل (5)، ومن الأمثلة على ذلك: جمع القرآن الكريم في المصحف، تضمين الصانع،
(1)"المغني" 4/ 63.
(2)
"مجموع الفتاوى" 20/ 349.
(3)
3/ 149.
(4)
"الطبقات" 2/ 105 - 106، "بيان الدليل على بطلان التحليل"186.
(5)
"ابن حنبل" لأبي زهرة صـ 347 بتصرف يسير.
قتل الجماعة بالواحد، ومنع بيع أمهات الأولاد.
وقد أخذ بها رحمه الله في السياسة الشرعية بشكل عام -وهي ما ينهجه الإمام لإصلاح الناس، وحملهم على ما فيه مصلحة، وإبعادهم عما فيه مفسدة- وفتاويه التي هي من قبيل السياسة الشرعية كثيرة، منها: نفي أهل الفساد والدعارة إلى بلد يؤمن فيه من شرهم، ومنها تغليظ الحد على شرب الخمر في نهار رمضان، ومنها عقوبة من طعن في الصحابة، وقرر أن ذلك واجب، وليس للسلطان أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستنيبه، فإن تاب وإلا كرر العقوبة (1).
هل يعتبر الأصحاب من بعد الإمام المصلحة المرسلة دليلًا من الأدلة الشرعية أو لا؟
قال ابن بدران: واختلف في حجية المصالح المرسلة فذهب أصحابنا إلى اعتبارها (2)، وقال ابن قدامة رحمه الله: إنها ليست بحجة (3)، وتبعه على ذلك أبو البركات، فقال: المصالح المرسلة لا يجوز بناء الأحكام عليها، قاله ابن الباقلاني وجماعة المتكلمين وهو قول متأخري أصحابنا أهل الأصول والجدل، وقال مالك: يجوز ذلك (4).
وأما ابن القيم رحمه الله فإنه حينما عدّ أصول فتاوى الإمام أحمد، رحمه الله، لم يذكر المصالح المرسلة (5) مثها، ولكننا حينما نقرأ في
(1)"المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة" صـ 231.
(2)
"المدخل" لابن بدران صـ 300.
(3)
"روضة الناظر" 2/ 54، تحقيق: الدكتور عبد الكريم النملة.
(4)
"المسودة" 2/ 830.
(5)
لأنه يرى أنه داخل في باب القياس الصحيح.
كثير من كتبه نجده يذكر المصالح، وأن الشريعة جاءت لتحقيقها، وهو من مجتهدي الحنابلة وأئمتهم (1)، وقد قال: فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها (2).
كما يستدلون بما جاء عنه في "الطرق الحكمية" وفي أثناء كلامه على جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية، نقل كلام ابن عقيل، مقرًّا له ومستدلًا به، ثم يعلق على ذلك ابن القيم رحمه الله بأن قال: فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع اللَّه ودينه (3).
وجاء عنه قوله: وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات بالشروط، أمر قد تدعو إليه الضرورة، أو الحاجة، أو المصلحة، فلا يستغني عنه المكلف (4).
أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد جاء عنه في "الفتاوى" في إجاباته: بأن اللَّه بعث الرسل لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها (5).
وأما ابن بدران في تعليقه على "الروضة" فقد قال: والمختار عندي اعتبار أصل المصالح المرسلة، ولكن الاسترسال فيها وتحقيقها يحتاج إلى نظر
(1)"أصول الإمام أحمد" د. عبد اللَّه التركي ص 473.
(2)
"إعلام الموقعين" 3/ 14، وانظر:"شرح أصول فتاوى الإمام أحمد للإمام ابن القيم" من تصنيف الأخ الشيخ مجدي حمدي.
(3)
"الطرق الحكمية" ص 13.
(4)
"إعلام الموقعين" 3/ 399.
(5)
"مجموع الفتاوى" 29/ 271.
سديد وتدقيق (1).
وخلاصة الأمر: أن الحنابلة لا يهدرون المصالح في فتاواهم ودراساتهم، ولكن ما دامت مصالح شهد لها الشرع بعمومات، أو قواعد كلية وأصول عامة، أو اعتبر جنسها، فهي في الواقع غير مستقلة ببناء الأحكام عليها.
هذا، وقد اشترط الحنابلة للعمل بالمصالح المرسلة شروطًا، هي:
1 -
أن تكون المصلحة متفقة مع مقاصد الشارع الإسلامي، بأن تكون ملائمة للمصلحة التي أخذ بها السلف الصالح، رضي الله عنهم، وبالأولى لا تنافي أصلًا ولا دليلًا من أدلته، بل تكون متفقة مع المصالح التي قصد الشارع إلى تحصيلها، بأن تكون من جنسها، وليست غريبة عنها، وإن لم يشهد لها دليل خاص.
2 -
أن يكون بالأخذ بها رفع حرج لازم في الدين، فلو لم يؤخذ بالمصلحة في موضعها لكان الناس في حرج، واللَّه تعالى يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
3 -
يشترط أن تكون معقولة في ذاتها، جرت على المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على أهل العقول تلقوها بالقبول.
4 -
أن لا تكون فيما نص عليه، ولا يعارض التشريع بها نصًّا ولا إجماعًا. ويمكن أن نشير إلى نقطة أخرى قد تطرق إليها علماء الأصول وهي المصالح والنصوص (2).
(1) انظر "روضة الناظر مع الشرح" 1/ 416.
(2)
"المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة" ص 234.