الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
خامسًا: شرع من قبلنا
قال ابن بدران: أما شرع من قبلنا فإنه يجوز أن يتعبد نبي بشريعة نبي قبله عقلا لأنه ليس بمحال ولا يلزم منه محال وكان نبينا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة متعبدا في الفروع بشرع من قبل عند القاضي والحلواني، وأومأ إليه أحمد، واختار ابن عقيل والمجد أنه كان متعبدا بشريعة إبراهيم عليه السلام ولم يكن صلى الله عليه وسلم على ما كان عليه قومه.
قال حنبل: قال أحمد: من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه، فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟ !
وبعد البعثة تعبد بشرع من قبله.
ونقل في "التحرير" هذا القول عن أحمد والشافعي وأكثر أصحابهما والحنفية والمالكية (1)، ومن ثم كان شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ عند أكثر أصحابنا وغيرهم.
قال القاضي وغيره: بمعنى أنه موافق لا متابع انتهى.
وخلاصة الأمر: أن جمهور الحنابلة يرجحون أن شرع من قبلنا شرع لنا إما بكتاب أو بخبر الصادق أو بنقل متواتر فأما الرجوع إليهم أو إلى كتبهم فلا، وقال الشيخ تقي الدين وغيره ويثبت أيضا بأخبار الآحاد عن نبينا صلى الله عليه وسلم (2).
*
سادسًا: العرف
الحنابلة يلاحظون العرف في كثير من فتاواهم وأحكامهم، وبخاصة في باب المعاملات، لأنهم يتوسعون فيها، ويعتبرون المعاني والمقاصد، ولا يقفون عند الألفاظ فقط، وفي صيغ العقود ينظرون كثيرا إلى ما تعارف
(1)"تيسير التحرير" 3/ 130.
(2)
"المدخل" لابن بدران ص 294 بتصرف.
عليه الناس، وفي الشروط في المعاملات والأنكحة يعتبرون المشروط عرفا، كالمشروط شرعا، ولذلك يجرون العرف مجرى الشرط (1).
ويكثر تطبيق العرف لدى الحنابلة في مسائل الأيمان والحنث فيها، فإن مرجعها عندهم إلى العرف (2).
قال ابن القيم: وقد أجرى العرف مجرى النطق في أكثر من مائة موضع منها نقد البلد في المعاملات وتقديم الطعام إلى الضيف. . إلخ (3).
وخلاصة الأمر: أن الحنابلة يعتبرون العرف، ويستخدمونه في التطبيق فيما تختلف فيه أعراف الناس وبيئتهم، ولا يعد ذلك اختلافًا في الأحكام الشرعية ولا أصل الخطاب، كما أن العرف لا يعد دليلًا مستقلًا من الأدلة الشرعية، وإنما هو قاعدة من القواعد الفقهية يظهر أثرها في مجال التطبيق فقط (4).
هذِه هي أصول مذهب الإمام أحمد وأصحابه من بعده، وكلها ينتهي إلى السنة، وهي كيفما تنوعت، وتفرعت، تنبع من معين واحد، وهو الآثار، فهو إما أن يستقى من الآثار نصًا فإن لم يجد أثرًا يسعفه في قضيته، حاكى الأثر في طريقته، فهي مأخوذة منها بالمنهاج، كما أخذت فروع كثيرة من الآثار بالنص، وهو في كلا الأمرين متبع ينهج منهاج السلف، أو يقول مقالة السلف.
ولو استقريت الأصول أصلا أصلا لوجدت أنه ينهج المنهاج السلفي لا يعدوه ولا يسلك غير سبيله، فقد وجد السلف يقيسون الأشباه بالأشباه،
(1)"أصول الإمام أحمد" ص 593.
(2)
"القواعد" لابن رجب ص 295.
(3)
"إعلام الموقعين" 2/ 393 - 394.
(4)
"المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة" ص 261.
ويعطون حكم النظير لنظيره، فأخذ بالقياس إن لم يجد نصًا.
ووجد الصحابة يبقون الشيء على ما هو عليه من حكم، حتى يتغير الموضوع أو تتغير الحال، فأفتى بما سماه العلماء من بعده استصحاب الحال وأبقى الأحكام الثابتة على ما هي عليه، حتى يقوم الدليل على التغيير الموجب لحكم آخر، غير الذي ثبت في الماضي، لزوال ما كان يقتضيه ويثبته.
ووجد الصحابة في عصر الراشدين قد أخذوا بالمصالح المرسلة، واعتبروها وحدها مسوغا للحكم إن لم يكن ثمة نص، فوجد الصحابة جمعوا القرآن في المصاحف وجمعوا الناس على مصحف واحد، ووجدهم قتلوا الجماعة بالواحد، وضمنوا الأجير العام، لأنهم رأوا المصالح في ذلك، وسنوا بذلك لمن يتبعهم في طرق الاجتهاد أن يتبعهم فاتبعهم أحمد في ذلك، وأفتى بالمصالح المرسلة كما أفتوا، واختارها أصلا من أصول الاستدلال، إذ قد فتحوا له عين الطريق، فسلكه متبعًا لهم، مهتديًا بهديهم سالكًا سبيلهم.
ووجدهم قد أعطوا الوسيلة حكم الغاية، والمقدمة حكم النتيجة، فجعلوا وسيلة المطلوب مطلوبة، ووسيلة الممنوع ممنوعة، فأفتى بما سمى من بعد بالذرائع، سدًا وطلبًا.
وبذلك كان في فقهه كله سلفيًا تابعًا سواء في ذلك ما اجتهد فيه وما نقل حكمه؛ فكان من مشكاة السلف دائمًا في فقهه، وإن ذلك لم يجعل فقهه جامدًا، بل جعله خصبًا نيرًا (1).
(1)"ابن حنبل" لأبي زهرة صـ 383.