الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول التعريف بمذهب الإمام أحمد ومراحل نشأته وتطوره
*
مقدمة في مكانة مذهب الإمام أحمد
قد جَعَلَ اللَّهُ أهلَ الحديثِ والعلمِ أركانَ الشريعةِ، وهدمَ بهم كلَّ بدعةٍ شنيعة، فإنَّ الكتابَ عدَّتُهم، والرَّسول صلى الله عليه وسلم حجَّتُهم، وهم أوعيةُ العلمِ وحملته، وحَفَظة السُّنة وخزنتها، طريقهم قويم، وسبيلهم مستقيم، فإذا أُضيف إلى ذلك تَحمل البلاء المُبين، وردّ شُبه المبتدعة أصحاب الجاه المُتمكنين، والوقوف سدًّا منيعًا في وجْهِ الانحراف العقائدي، ودرْء الفتنة عن جموعِ المسلمين، يظهر لك مكانةُ الإمام أحمد وعلمه وأثره في جيله وما بعده مِنْ أجيال إلى أنْ يقومَ النَّاسُ بين يدي ربِّ العالمين.
قال الإمام الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي في "المناقب": اعلم وفقك اللَّه أنه مما يتبين الصواب في الأمور المشتبهة لمن أعرض عن الهوى والتفت عن العصبية وقصد الحق بطريقه ولم ينظر في أسماء الرجال ولا في صيتهم فذلك الذي ينجلي له غامض المشتبه فأما من مال به الهوى فعسير تقويمه. واعلم أننا نظرنا في أدلة الشرع وأصول الفقه وسبرنا أحوال الأعلام المجتهدين فرأينا هذا الرجل -يعني الإمام أحمد- أوفرهم حظًّا من تلك العلوم فإنه كان من الحافظين لكتاب اللَّه عز وجل وقرأه على أساطين أهل زمانه وكان لا يميل شيئا في القرآن، ويروي قوله صلى الله عليه وسلم:"أنزل القرآن فخما ففخموه"(1)، وكان لا يدغم شيئا في القرآن إلا {اتخذتم} وبابه،
(1) رواه الطبراني "المعجم الكبير" 2/ 1426، ولفظه:"أنزل القرآن بالتفخيم".
كأبي بكر، ويمد مدًّا متوسطًا، وكان رضي الله عنه من المصنفين في فنون علوم القرآن من التفسير والناسخ والمنسوخ والمقدم والمؤخر إلى غير ذلك. وأما النقل فقد سلَّم الكل له بانفراده فيه بما لم ينفرد به سواه من الأئمة من كثرة محفوظه منه ومعرفة صحيحة من سقيمه وفنون علومه وقد ثبت أنه ليس في الأئمة الأعلام قبله من له حظ في الحديث كحظ مالك ومن أراد مقام معرفة أحمد في ذلك من مقام مالك فلينظر فرق ما بين المسند والموطأ. وقد كان أحمد يذكر الجرح والتعديل من حفظه إذا سئل عنه كما يقرأ الفاتحة ومن نظر في كتاب "العلل" لأبي بكر الخلال عرف ذلك ولم يكن هذا لأحد من بقية الأئمة.
وكذلك انفراده في علم النقل بفتاوى الصحابة وقضاياهم وإجماعهم واختلافهم لا تنازع في ذلك.
وأما علم العربية، فقد قال أحمد: كتبت من العربية أكثر مما كتب أبو عمرو الشيباني. وأما القياس فله من الاستنباط ما يطول شرحه (1).
قال أبو القاسم ابن الجبلي: أكثر الناس يظنون أن أحمد إنما كان أكثر ذكره لموضع المحبة وليس هو كذلك كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن المسألة كان علم الدنيا بين عينيه.
وقال إبراهيم الحربي: أدركتُ ثلاثةً لن يرى الناس مثلهم أبدا وتعجز النساء أن يلدن مثلهم رأيت أبا عبيد القاسم ابن سلام فما مثلته إلا بجبل نفح فيه روح، ورأيتُ بِشر بن الحارث فما شبهته إلا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلا، ورأيتُ أحمد بن حنبل فرأيته كأن اللَّه جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء.
(1)"المناقب" ص 599 - 600.
وقال أحمد بن سعيد الرازي: ما رأيت أسود رأس أحفظ لحديث رسول اللَّه ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أحمد.
وروى ابن الجوزي عن عبد اللَّه بن أحمد قال: سمعت أبي يقول: قال لي الشافعي: أنتم أعلم بالحديث منا فإذا صح الحديث فقولوا لنا حتى نذهب إليه (1).
قال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي البغدادي: ومن عجيب ما نسمعه عن هؤلاء الجهال أنهم يقولون أحمد ليس بفقيه لكنه محدث، وهذا غاية الجهل؛ لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم، وخرج عنه من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم، وانفرد بما سلموه له من الحفظ وشاركهم وربما زاد على كبارهم، ثم ذكر ابن عقيل مسائل دقيقة مما استنبطه الإمام.
ثم قال: ومما وجدنا من فقه الإمام أحمد ودقة علمه أنه سُئل عن رجلٍ نذر أن يطوف بالبيت على أربع؟ قال: يطوف طوافين ولا يطوف على أربع. فانظروا إلى هذا الفقه كأنه نظر إلى المشي على أربع فرآه مثله وخروجا عن صورة الحيوان الناطق إلى التشبيه بالبهائم، فصانه وصان البيت والمسجد عن الشهرة، ولم يبطل حكم القضية في المشي على اليدين، بل أبدلها بالرجلين اللتان هما آلة المشي.
ثم قال: ولقد كانت نوادر أحمد نوادر بالغة في الفهم إلى أقصى طبقة.
قال: ومَنْ هذا فقهه واختياراته لا يحسن بالمنصف أن يغض منه في هذا العلم وما يقصد هذا إلا مبتدع قد تمزق فؤاده من خمول كلمته وانتشار علم أحمد حتى إن أكثر العلماء: يقولون أصلي أصل أحمد، وفرعي فرع فلان،
(1)"المناقب" ص 601.
فحسبك ممن يرضى به في الأصول قدوة.
قال ابن الجوزي: إن أحمد ضم إلى ما لديه من العلم ما عجز عنه القوم من الزهد في الدنيا وقوة الورع ولم ينقل عن أحد من الأئمة أنه امتنع من قبول أوقاف السلاطين وهدايا الإخوان كامتناعه ولولا خدش وجوه فضائلهم رضي الله عنهم لذكرنا عنهم ما قبلوا ورخصوا بأخذه (1).
وقال قتيبة: لولا أحمد لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا (2).
واعلم أن اختيار العلماء للمذهب المراد به: السلوك على طريقة أصوله في استنباط الأحكام وليس تقليده في الفروع، وكيف يظن بمثل أحمد بن جعفر ابن المنادي وأبي بكر النجاد، ومحمد بن الحسن أبو بكر الآجري، والحسن بن حامد، والقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفرا، وأبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي، وأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني، وعلي بن عبيد اللَّه الزاغواني، وموفق الدين عبد اللَّه بن قدامة المقدسي، وشيخ الإسلام المجد ابن تيمية، وحفيده الإمام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، والمحقق شمس الدين محمد بن القيم، وغيرهم أنهم مقلدون في الفروع وكتبهم الممتلئة بالأدلة طبقت الآفاق ومداركهم ومسالكهم سارت بمدحها الركبان وكتبهم ملأت قلب كل منصف من الإيمان والإيقان (3).
(1)"المناقب" ص 600.
(2)
"سير أعلام النبلاء" 11/ 195.
(3)
انظر "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" لابن بدران ص 111 وما بعدها.