الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع تعدد الروايات عند الإمام أحمد: أسبابه، وكيف تعامل أصحابه معها
القارئ لفتاوى الإمام أحمد يجد جواباته تنقسم إلى أربعة أقسام:
1 -
جوابات أقسم عليها الإمام أحمد: وقد ألف في ذلك ابن القاضي أبي يعلى (ت 526 هـ) مصنفًا بعنوان: "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد".
2 -
جوابات لم يختلف فيها قول الإمام أحمد: وقد جمع أحد الباحثيين، وهو إبراهيم جالو محمد، تلك المسائل وقام بدراستها، وقدمها لنيل درجة الماجستير في الجامعة الإسلامية سنة 1419 هـ.
3 -
جوابات ورد فيها روايتين عن الإمام أحمد في المسألة الواحدة: وأول من صنف في ذلك القاضي أبي يعلى (ت 458 هـ) في كتابه "الروايتين والوجهين"، جمع فيه ما يقارب من ألف مسألة، وذكر في كل مسألة روايتين أو وجهين، مع الاستدلال لكل رواية أو وجه بدليل أو أكثر من الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة أو التابعين، أو ذكر وجه ذلك من قياس أو تعليل مع بيان ما يرى أنه الراجح أو المذهب.
4 -
جوابات ورد فيها أكثر من روايتين عن الإمام أحمد في المسألة الواحدة: وصنف ابن القاضي أبي يعلى في ذلك كتابه "التمام لما صح في الراويتين والثلاث والأربع عن الإمام والمختار من الوجهين عن أصحابه العرانين الكرام".
والحق أن تعدد الروايات عنه ترجع إلى عدة أسباب من أهمها ما يلي:
1 -
أن الإمام رضي الله عنه قد يجد للصحابة في المسألة قولين، ولم يجد حديثًا يرجح به أحد القولين على الآخر، فيترك المسألة، وفيها القولان المأثوران عن الصحابة. وقد تكون الأقوال أكثر من اثنين.
قال ابن القيم رحمه الله: إذا اختلفت الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب، والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول (1). أهـ.
2 -
أن الإمام رضي الله عنه كان متورعًا يكره البدعة في الدين، وأن يقول فيه من غير علم، ولما اضطر إلى الفتوى، وكثر استفتاؤه كان يتردد في القول أحيانًا، فقد يفتي بمقتضى الرأي، ثم يعلم الأثر في الموضوع، وقد يكون مغايرًا لما أفتى، فيرجع إليه مؤثرًا الرجوع عن أن يقول بغير الحديث، وربما لا يعلم من نقل عنه الرأي الأول الرجوع، فينقل عنه القولان في موضوع واحد، وبذلك نجد الرأي مختلف عند الرواة، أما الإمام فله رأي واحد في نفسه، وفي الواقع، ونفس الأمر.
3 -
أن الإمام قد يفتى في إحدى الواقعات بما يتفق مع الأثر، ثم يفتي في واقعة أخرى تقارب الأولى، ولكن اقترنت بأحوال، وملابسات جعلت الأنسب أن يفتي فيها بما يخالف الأولى، فيجيء الرواة، فيروون الاثنين، وهم يحسبون أن بينهما تضاربًا؛ لعدم نظرهم إلى الملابسات التي اقترنت بكل واقعة منهما، والحقيقة أن لا تضارب؛ لأن كل واحدة جاءت في حال، وأحاطت بها ملابسات فصلتها عن الأخرى.
(1)"أعلام الموقعين" 1/ 35.
4 -
أن الإمام أحمد كان يضطر إلى استعمال الرأي، ومعلوم أن أوجه الرأي مختلفة متضاربة، وقد يتعارض في نظره وجهان من أوجه الرأي، أو يذكر الاحتمالين، أو الوجهين فتنسب الأصحاب إليه قولين (1).
5 -
تفاوت أصحاب الإمام الذين نقلوا عنه مسائله في مراتب الفهم والفقه ودقة النقل عن الإمام.
وأمثلة ذلك كثير، ومثاله: ما نقله الخلال عن حنبل: قال حنبل: قال أحمد: إن نسي التسمية على الذبيحة والكلب أبيح.
قال الخلال: سها حنبل في نقله فإن في أول مسألته: إذا نسي وقتل لم يؤكل (2).
ونقل حنبل أيضًا عن الإمام أحمد أنه قال في تكفين المحرم: لا تُغطى رجلاه.
قال الخلال: لا أعرف هذا في الأحاديث، ولا رواه أحد عن أبي عبد اللَّه غير حنبل، وهو عندي وهم من حنبل، والحمل على أنه يغطي جميع المحرم، إلا رأسه، لأن إحرام الرجل في رأسه، ولا يمنع من تغطية رجليه في حياته، فكذلك في مماته (3).
6 -
اختلاف الأصحاب والمصنفين في المذهب في تفسير ألفاظ الإمام أحمد في جواباته ودلالتها.
(1) راجع: "أحمد بن حنبل" لأبي زهرة ص 200، و"تاريخ المذاهب الإسلامية" له أيضًا ص 539.
(2)
"المغني" 13/ 258.
(3)
"الروايتين والوجهين" 1/ 217، "المغني" 3/ 479.
عمل الأصحاب عند تعدد الروايات عن الإمام أحمد:
1 -
إذا وجدوا عن الإمام في مسألة قولين عدلوا أولًا إلى الجمع بينهما بطريقة من طرق الأصول: إما يحمل عام على خاص أو مطلق على مقيد فإذا أمكن ذلك كان القولان مذهبه، وإن تعذر الجمع بينهما وعلم التاريخ فاختلف الأصحاب، فقال قوم: الثاني مذهبه، وقال آخرون: الثاني والأول، وقالت طائفة: الأول ولو رجع عنه.
وصحح القول الأول المرداوي في "تصحيح الفروع".
فإن جهل التاريخ فمذهبه أقرب الأقوال من الأدلة أو قواعد مذهبه ويخص عام كلامه بخاصه في مسألة واحدة (1).
2 -
إن أفتى في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين في وقتين؛ قال بعضهم: وبَعُدَ الزمن، ففي جواز النقل والتخريج -ولا مانع- وجهان.
أحدهما: لا يجوز، ذكره أبو الخطاب في "التمهيد" وغيره، واقتصر عليه المجد، وجزم به الشيخ الموفق في "الروضة"، وقدمه ابن مفلح في أصوله، والطوفي في مختصره، وشرحه، وصاحب "الحاوي الكبير" وغيرهم.
والوجه الثاني: يجوز ذلك، ذكره ابن حامد عن بعض الأصحاب، وجزم به في "المطلع"، وقدمه في "الرعايتين"، واختاره الطوفي في مختصره، وقال: إذا كان بعد الجد والبحث.
وصحح المرداوي القول الأول، وقال: وكثير من الأصحاب على ذلك، وقد عمل به الشيخ الموفق، والمجد وغيرهما، وهو الصواب. فعلى الأول
(1) راجع نص كلام ابن مفلح في ذلك، وتعليق المرداوي عليه في "الفروع"، و"تصحيح الفروع" المطبوعان مع "حاشية ابن قندس" نشر مؤسسة الرسالة 1/ 45 وما بعدها. ونقله ابن بدران أيضًا عنهما في "المدخل" صـ 136 وما بعدها.
يكون القول المخرج وجها لمن خرجه، وعلى الثاني يكون رواية مخرجة، ذكره ابن حمدان، وغيره.
وقال ابن حمدان أيضا: قلت: إن علم التاريخ ولم يجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهبا له؛ جاز نقل حكم الثانية إلى الأولى في الأقيس، ولا عكس، إلا أن يجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهبا له مع معرفة التاريخ، وإن جهل التاريخ جاز نقل حكم أقربهما من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو أثر، أو قواعد الإمام ونحوه إلى الأخرى في الأقيس، ولا عكس، إلا أن يجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهبا له مع معرفة التاريخ، وأولى، لجواز كونها الأخيرة دون الراجحة (1).
واعلم أن الخلاف في هذِه المسألة مبني على مسألة هل ما قيس على كلام الإمام أحمد مذهب له، أم لا؟ فيها قولان:
الأول: أن ما قيس على مذهبه هو مذهب له.
قال ابن مفلح: وهو الأشهر (2). وهو مذهب الأثرم، والخرقي، وغيرهما من المتقدمين، وقاله ابن حامد وغيره في "الرعايتين"، و"آداب المفتي"، و"الحاوي"، وغيرهم. وصححه المرداوي.
الثاني: ليس بمذهب له.
قال ابن حامد: عامة مشايخنا مثل الخلال، وأبي بكر عبد العزيز، وأبي علي، وإبراهيم، وسائر من شاهدناهم لا يجوزون نسبته إليه، وأنكروا على الخرقي ما رسمه في كتابه من حيث إنه قاس على قوله انتهى، ونصره الحلواني.
(1)"تصحيح الفروع" مع "الفروع" و"حاشية ابن قندس" 1/ 42.
(2)
"الفروع" مع "تصحيح الفروع" و"حاشية ابن قندس" 1/ 42.
وقيل: إن جاز تخصيص العلة فهو مذهبه، وإلا فلا.
قال الموفق في "الروضة"، والطوفي في مختصرها، وغيرهما: إن بين العلة فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة، كمذهبه فيما نص عليه، وإن لم يبين العلة فلا وإن أشبهتها، إذ هو إثبات مذهب بالقياس، ولجواز ظهور الفرق له لو عرضت عليه (1).
(1) انظر: "تصحيح الفروع" مع "الفروع" و"حاشية ابن قندس" 1/ 44.
.
الباب الخامس مراحل تطور كتب الفقه الحنبلي وأصوله (1) أو العلاقات بين نصوص الفقه الحنبلي
(1) من المصادر الأساسية التي اعتمدنا عليها في هذا الباب كتاب "المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة" للشيخ عبد الملك بن دهيش.