الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن صحابي (1).
ومن ثم صارت فتاواه إمامًا وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم، حتى إن المخالفين لمذهبه في الاجتهاد والمقلدين لغيره ليعظمون نصوصه وفتاواه ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوى الصحابة.
مرتبة الأخذ بفتوى الصحابي عنده في الأصول:
فتوى الصحابي عند الإمام أحمد في المرتبة الثانية بعد النص -الكتاب والسنة- وقد ادعى بعض العلماء أن الإمام أحمد إذا وجد فتوى الصحابي لا يلتفت إلى النصوص ولا يتجه إليها، لأن فتوى الصحابي أغنته عن الاستنباط، أي لا يجتهد إلا حيث لم يجد فتوى الصحابي، وهذا زعم خاطئ فقد قال الإمام في رواية الأثرم: إذا كان في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث لم نأخذ فيها بقول أحد من الصحابة ولا بقول من بعدهم. ويرد ذلك الزعم أيضًا ما ذكرناه عن ابن القيم في الأصل الأول حيث قال: فإذا وجد النص -يعني الإمام- أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس .. (2)، وذكر أمثلة كثيرة لذلك.
*
الأصل الثالث: الاختيار من أقوال الصحابة إذا اختلفوا
فتاوى الصحابة عند الإمام أحمد كانت على درجتان:
أولاهما: إذا لم يعرف خلاف بينهم في تلك الفتوى، أو وجد قول لأحدهم ولم يهده استقراؤه إلى قول آخر.
وثانيهما: إذا اختلفوا فيما بينهم، ووجد قولان أو ثلاثة، كما كان في
(1)"أحمد بن حنبل" لأبي زهرة، صـ 245 - 246.
(2)
"إعلام الموقعين" 1/ 29.
مسألة ميراث الأخوة الأشقاء، أو لأب مع أبي الأب، فإنهم اختلفوا في ذلك على أقوال، فأبو بكر اعتبر أبا الأب كالأب يحجب الأخوة، وزيد اعتبره كأخ بشرط ألا يقل عن الثلث، وعلي اعتبره كالأخ بشرط ألا يقل عن السدس، وهكذا.
أما في المرتبة الأولى، فإنه يأخذ بقول الصحابي، ولا يسمى ذلك إجماعًا خلافًا للحنفية، وقد وافق في ذلك الشافعي، ومن أمثال ذلك أخذه برأي أنس في قبوله شهادة العبد. فاعتبره أحمد قولا واحدًا لا يعلم خلافه.
وأما المرتبة الثانية، فإنه قد اختلف النقل عن أحمد فيها، فقيل إنه يعتبر أقوالهم جميعًا، وتعتبر تلك الأقوال أقوالا له، فيكون في المسألة عنده قولان، أو ثلاثة على حسب اختلاف أقوال أولئك، وذلك لأنه يتحرج من أن يقدم برأيه بعض هذِه الأقوال على بعض، إذ كلهم من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ملتمس نورًا وهداية، وهم الذين شاهدوا التنزيل، وعاينوا الرسول، وساعة مع الرسول أخير من اجتهاد سنين (1).
قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ: قيل لأبي عبد اللَّه: يكون الرجل في قومه فيسأل عن الشيء فيه اختلاف؟ قال: يفتي بما وافق الكتاب والسنة، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه. قيل له: أفيجاب عليه؟ قال: لا. (2)
وهذِه الرواية تتفق مع المنصوص عليه في رسالة الشافعي رضي الله عنه، فإنه كان يتخير من أقوال الصحابة ما يجده أقرب إلى النصوص، كما اختار من أقوال الصحابة في المسألة ميراث الإخوة على الجد الصحيح قول زيد ورجحه بالقياس الفقهي، وقرر أنه لولا الأقوال المأثورة لكان يقتضي
(1)"ابن حنبل" لأبي زهرة، صـ 286 - 287.
(2)
"مسائل ابن هانيء"(1922).
القياس أن يحجب الأخوة الجد.
وأبو حنيفة كان يسلك مثل ذلك المسلك فكان يتخير من أقوال الصحابة إن اختلفوا، وكان لا يخرج عن أقوالهم إلى غيرها، ولكنه يأخذ بما شاء، ويدع ما شاء.
وهناك رواية ثالثة عن الإمام أحمد، وهي أنه: إذا اختلف الصحابة لا يتخير من أول الأمر من بين الأقوال أقربها إلى النصوص، بل يرجح أولا أقوال الخلفاء.
وقد روى هذِه الرواية أيضًا ابن القيم في موضع آخر من كتابه "إعلام الموقعين" فقد جاء فيه ما نصه: إذا قال الصحابي قولا، فإما أن يخالفه صحابي آخر، أو لا يخالفه، فإن خالفه مثله لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر، وإن خالفه أعلم منه، كما إذا خالف الخلفاء الراشدون أو بعضهم غيرهم من الصحابة في حكم، فهل يكون الشق الذي فيه الخلفاء الراشدون أو بعضهم حجة على الآخرين، فيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أن الشق الذي فيه الخلفاء أو بعضهم أرجح وأولى أن يؤخذ به من الشق الآخر، فإن كان الأربعة في شق، فلا شك أنه الصواب، وإن كان أكثرهم في شق، فالصواب فيه أغلب، وإن كانوا اثنين فشق أبي بكر وعمر أقرب إلى الصواب؛ فإن اختلف أبو بكر وعمر، فالصواب مع أبي بكر، وهذِه جملة لا يعرف تفصيلها إلا من له خبرة واطلاع على ما اختلف فيه الصحابة وعلى الراجح من أقوالهم (1).
وتقديم أقوال الخلفاء على هذِه الرواية له وجهة، لأن قول الخلفاء قد
(1)"إعلام الموقعين" 4/ 119.
صادف عملا ارتضاه جمهور المسلمين وقبلوه، بل آثروه، لأنه لو كان مخالفًا لكتاب اللَّه وسنة رسوله، أو كان غيره أقرب منها، لقوموا آراء الخليفة ونهوه وله من دينه وقوة عقله، وهدايته ما يجعله يستسيغ رأي مخالفه، إن ثبت له أنه أقرب إلى الدين وكتاب اللَّه وسنة رسوله ومصلحة المصلحين والدارس لحياة الخلفاء الأولين، وخصوصًا أبا بكر وعمر، يرى أن رأيهما كان مزكى في أكثر الأحوال بموافقة جمهور المؤمنين، فهو رأي يقارب الإجماع، فكان تقديمه له وجهة قوية.
ويظهر أن أحمد رضي الله عنه كان إذا وجد آراء للخلفاء الراشدين أو لبعضهم اختارها دودن غيرها، وإن لم يجد اختار أقرب الآراء إلى كتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإن لم يبد له وجه من القرب ترك الأمر وتوقف، أو كان له في الموضوع قولان، فجاء الذين من بعده فوجدوا هذِه الأحوال وروى بعضهم الفتوى التي اختار فيها قول الخلفاء، وجاء راو آخر فلم يرو إلا واقعة التخير بالقرب من الأصول، وجاء ثالث، فروى واقعة ترك الأقوال جملة، ونسبتها كلها إليه فكل رواية صادقة لأنها روت واقعة صحيحة، ومن مجموع هذِه الروايات، وهذِه الوقائع يستبين رأيه، وهو الترجيح أولا بقائل القول، ثم بدليله، ثم ترك الأقوال بعدها (1).
ومما تقدم يمكن تلخيص رأي الإمام أحمد في قول الصحابي -الأصلين الثاني والثالث- في النقاط التالية:
1 -
إذا كان قول الصحابي مما لا مجال للرأي فيه، فإن له حكم المرفوع عند أحمد. واختار أبو الخطاب، وابن عقيل: أنه ليس له حكم المرفوع، بل
(1)"أحمد بن حنبل" لأبي زهرة، صـ 287 - 290.