الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلمّا ولي السفّاح سأله أن يشتريه فاشتراه بمائة ألف درهم، فكان حاجب المنصور حتى ظهر منه على تشيّع فعزله عن حجابته. وكان مع عيسى بن روضة مرزوق أبو الخصيب مولاه أيضا. فلمّا نحّى ابن روضة صيّر أبا الخصيب مكانه. وكان الربيع مع أبي الخصيب. فلمّا مات أبو الخصيب صار الربيع مكانه. وكان من خبر الربيع أنّ يونس بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة وقع على جارية لجدّته فاشتملت منه على الربيع. ولمّا ولدته جحده يونس فباعته جدّته لمّا شبّ، فاشتراه زياد بن عبيد الله الحارثيّ خال أبي العبّاس السفّاح في خمسين غلاما بالمدينة، وهو عامل المنصور عليها، وأهداهم إليه، وقيل: بل أهداهم إلى أبي العبّاس. ثمّ صار الربيع إلى المنصور فصيّره مع أبي الخصيب، ثم ضمّه إلى ياسر صاحب وضوءه، والربيع يومئذ ابن ثماني عشرة سنة.
وحجّ المنصور في تلك السنة، وكان ياسر إذا وضع المنصور [97 أ] الماء عند نزوله لحاجته لم يرم حتى يفرغ المنصور من الاستنجاء. فاعتلّ ياسر فصيّر الربيع يقوم مقامه في الخدمة، فكان إذا وضع الماء للمنصور تنحّى عنه، فإذا تحرّك صار إلى الإبريق فأخذه. فقال له:«ويحك يا غلام، ما أكيسك وأخفّك على قلبي! » وسأله عن سنّه فزاد فيها ليتكبّر بذلك، فأعجبه ما رأى منه.
ورأى المنصور في طريقه كتابا على حائط فقرأه فإذا هو [الطويل]:
وما لي لا أبكي وأنشد ناقتي
…
إذا صدر الرعيان عن كلّ منهل
وفي أسفله: آه! آه! فجعل المنصور يردّد نظره في ذلك فينكره. فقال الربيع: إن أذن لي أمير المؤمنين تكلّمت.
فقال: تكلّم!
قال: أتبع البيت تأوّها وحكاية للبكاء.
فأعجبه ما رأى من فطنته فقال: «قاتلك الله! » وأعتقه وصيّره مكان ياسر. ثم رأى تقليده أمر حجابته فكان مع أبي الخصيب. فلمّا مات صيّره مكانه. فدخل بعض الهاشميّين على المنصور يوما فذكر أباه فترحّم عليه. فقال له الربيع: مه! أتترحّم على أبيك وأنت تخاطب أمير المؤمنين؟
فقال: إنّك لو عرفت حلاوة الآباء ومواقعهم من القلوب لم تنكر عليّ ما قلت!
وأمر المنصور رجلا ولّاه عملا بالقصد فقال:
عليك بالقصد والسداد فإنّه كان يقال: الظمأ الفادح خير من الريّ الفاضح!
[نوادر أبي دلامة مع المنصور]
ومرّ المنصور في بعض السكك وكانت مضيّقة بالبناء فأمر بهدم ما ضيّقت به من ذلك البناء وبلغ الهدم دار أبي دلامة، فدخل على المنصور وأنشده [الخفيف]:
يا ابن عمّ النبيّ زارك زور
…
قد دنا هدم داره وبواره
فهو كالماخض التي اعتادها الطّل
…
ق فقرّت وما يقرّ قراره
كيف يخشى البوار شاعر قوم
…
هرمت في مديحهم أشعاره؟
لكم الأرض كلّها فأعيروا
…
عبدكم ما احتوى عليه جداره
وأمر المنصور الربيع أن يحضر أبا دلامة القصر ويأخذه بصلاة الظهر والعصر والمغرب. فأنشأ يقول [الطويل]:
ألم تريا أنّ الإمام ألزّني
…
بمسجده والقصر، ما لي وللقصر؟
يكلّفني الأولى جميعا وعصرها
…
فويلي من الأولى، وويلي من العصر!
لقد كان في أهلي مساجد جمّة
…
ولكنّ هذا الأمر قدر من القدر [97 ب]
ويحبسني عن مجلس أستلذّه
…
وأكرم فيه بالسماع وبالخمر
وماذا عليه، أرشد الله أمره
…
لو أنّ خطايا العالمين على ظهري؟ (1)
فقال: صدق لعنه الله! دعوه!
وماتت ابنة (2) للمنصور فرأى أبا دلامة عند قبرها، فقال له: ما أعددت لهذا المضجع؟
قال: التي حفر لها يا أمير المؤمنين.
فقال: ويلك، هلّا قلت كما قال الفرزدق حين سأله الحسن البصري ورآه عند قبر النوار امرأته عن مثل ما سألتك فقال: شهادة أن لا إله إلّا الله مذ ثمانون سنة؟
فقال أبو دلامة: إنّا لا نحبّ المعاد من الكلام!
ودخل عليه أبو دلامة فأنشده [البسيط]:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
…
قوم لقيل: اقعدوا يا آل عبّاس
ثمّ ارتقوا في شعاع الشمس كلّكم
…
إلى السماء، فأنتم أكرم الناس
فقال المنصور: لقد غدا بك أمر.
قال: نعم! ولدت لي البارحة ابنة وقد قلت فيها [الوافر]:
وما ولدتك مريم أمّ عيسى
…
ولم يكفلك لقمان الحكيم
ولكن قد تضمّك أمّ سوء
…
إلى لبّاتها وأب لئيم
فتبسّم المنصور وأمر له بأربعة آلاف درهم.
وأنشده أبو دلامة يوما قوله [البسيط](1*):
قالت: تبغّ لنا نخلا ومزدرعا
…
كما لجيراننا نخل ومزدرع
خادع خليفتنا عن ذاك في لطف
…
إنّ الخليفة للسّؤال ينخدع
فقال: يا عبد الملك بن حميد، أقطعه ألف جريب نصفها عامر ونصفها غامر.
فقال: بأبي أنت! وما الغامر؟
قال: الذي لا يناله الماء إلّا بالكلفة والنفقة.
قال أبو دلامة: فإنّي قد أقطعت عبد الملك بن حميد بادية بني أسد وصحراء برتقيا وصحراء أنقف!
فضحك المنصور وأمر أن تجعل له الألف الجريب عامرة كلّها. فقال: جعلني الله يا أمير المؤمنين فداك! ائذن لي في تقبيل رجلك!
فقال: لست أفعل.
فقال: والله أصلحك الله، ما منعت عيالي شيئا أهون عليهم من هذا (2*)! .
وأشار أبو عبيد الله الكاتب على المهديّ بنزول الرافقة (3*) وأراد أن يبعده من المنصور. فكتب أبو دلامة [البسيط]:
إنّ الخليفة والمهديّ إن نأيا
…
فنحن في حيث لا ماء ولا شجر
(1) الأغاني، 10/ 259، وفي البيت الأوّل: ألم تعلما أنّ الإمام
…
(2)
في الأغاني 10/ 273: ابنة عمّه.
المقفى ج 4* م 5
(1*) طبقات ابن المعتزّ، 62.
(2*) النادرة في العقد، 2/ 128، وهي مع المهديّ لا المنصور.
(3*) الرافقة قرب الرّقّة، بناها المنصور سنة 155 (ياقوت).