الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكرهوا الغدر وعاره وشرّ عواقبه في الدنيا والآخرة، فأمسكوا عن ذلك وكرهوه.
فغضب المنصور وقرأه على القوّاد والجند [105 أ] فعادوا لأشدّ ما كانوا عليه وكانوا يأتون بابه فيمنعون من أن يدخل إليه أحد، ويمشون حوله ويسيرون إذا ركب ويقولون: أنت البقرة التي قال الله فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71].
فشكاهم إلى المنصور فقال: إنّ هؤلاء قوم قد غلب عليهم حبّ هذا الفتى حتى شيط بدمائهم واجتمعت عليه آراؤهم. وأنا والله يا ابن أخي وحبيب قلبي أخافهم عليك وعلى نفسي. فلو قدّمته بين يديك حتى يكون بيني وبينك لكفّوا، وأنا لك ناصح وأنت أعلم.
ويقال إنّه دسّ إليه شربة سمّ فأفلت منها.
ودخل سلم بن قتيبة عليه فقال له: أيّها الرجل، بايع هذا الأمير وقدّمه، فإنّك لن تخرج من الأمر، وأرض عمّك.
فقال: أو ترى أن أفعل؟
قال: نعم.
قال: فإنّي أفعل.
فأتى سلم المنصور فأعلمه ذلك فسرّ به وعظم له قدر سلم عنده. ودعا المنصور الناس إلى البيعة. فتكلّم عيسى وسلّم الأمر إلى المهديّ وصار بعده. وخطب المنصور فشكر عيسى على ما كان منه، وذكر أنّه التالي للمهديّ عنده في موقعه من قلبه وحاله عنده، ووهب له مالا عظيما، وأقطعه قطائع خطيرة نفيسة، وولّاه الأهواز والكوفة وطساسيجها (1).
ويقال إنّ المنصور أمر بعيسى فخنق بحمائل
سيفه حتى خلع نفسه. وضمن له المنصور رضاه فوفى له به.
[حزمه ووقاره]
وكان محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن قدم البصرة مستخفيا، ثم خرج عنها وبلغ المنصور ذلك فقدم البصرة. ويقال بل قدم في أمر القطائع والمسالح، وكان على البصرة عمر بن حفص فولّاه السند، وولّى شهاب بن عبد الملك بن مسمع البحر، وولّى عبد العزيز بن عبد الرحمن الأزديّ البصرة، وولّى سوّار بن عبد الله بن قدامة بن عنترة العنبريّ القضاء، ثم ولّاه صلاة البصرة.
وكان المنصور لا يرى شاربا نبيذا، ولم يعط مغنّيا شيئا قطّ ولا أجرى عليه رزقا يثبت في ديوان أو يخرج به أمر أو كتاب. وكان أعطى الناس في حقّ وأعملهم بحزم وأشدّهم شكيمة على عدوّ.
وأقبل المهدي من داره يريد المنصور، والمنصور جالس في الخضراء في قصره بالمدينة ببغداد. فلمّا وقعت عينه عليه جعل يعوذه ويدعو له حتّى إذا تبيّنه غضب وقال:[105 ب] ردّوه! أما رأيتم عليه خفّا أحمر كأنّه من عبيد الروم؟ أهذا لبس من كان مثله؟
فألزمه منزله أيّاما ثم دعا به وعاتبه. وكان أمر المنصور جدّا كلّه.
وقال المدائنيّ: كاتب العبسيّون محمد بن عبد الله بن حسن، وكاتبهم محمد. وكان ممّن كاتبه أبو ذفافة. فلمّا شخص المنصور إلى بيت المقدس في سنة أربع وخمسين ومائة، وغزا الصائفة، وتتبّع الأجناد والكور، أقدم أبا ذفافة معه فأصحبه المهديّ فخصّ به. وكان يطلعه على أسراره وأموره. فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين،
(1) الطّسّوج ج طساسيج: الناحية.
قد غلب أبو ذفافة على المهديّ، ورأيه ما تعلم.
فقال: يا بنيّ، إنّ المهديّ قدم من الريّ في زيّ أهل خراسان، فجهدت أن أنقله عن ذلك بكلّ حيلة يحتال بها في مواجهة وتعريض فلم ينتقل عنه. فلمّا صحبه أبو ذفافة لم أشعر به ذات يوم إلّا وقد طلع عليّ معتمّا على قلنسوته، وفي رجله خفّان أسودان. فو الله لو ضمّ إليّ ملك مثله ما كان ذلك بأسرّ إليّ من هيئته. وإنّما أبو ذفافة رجل أراد أن ينال شيئا من الدنيا، فقد ناله وأكثر منه. وهو رجل شريف، وللشّريف شكر، فلا يسوءنّكممكانه.
ودخل عليه الربيع الحاجب يوما وفي رجليه خفّ أبيض محكوك مكعّب، فقال له: لولا أنّي لم أتقدّم إليك لأدّبتك! ما لك ولخفاف الزفّانين؟ (1)
ودخل عليه المبارك بن فضالة وهو بالجسر الأكبر، فقال: يا أمير المؤمنين، حدّثني الحسن قال: بلغني عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان له على الله حقّ، فليقم! فما يقوم إلّا العافون عن الناس.
فقال المنصور: «قد عفوت» . ولم يدخل البصرة.
وكان المنصور وهو بالبصرة قبل أمر المسوّدة يجلس في حلقة فيها أزهر السمّان. فلمّا أفضت إليه الخلافة وفد إليه أزهر، فقال له: ما جاء بك يا أزهر؟
قال: يا أمير المؤمنين، داري مستهدمة، وعليّ دين مبلغه أربعة آلاف درهم، وأريد أن أزوّج ابني محمّدا.
فقال: قد أمرت لك باثني عشر ألف درهم، فخذها ولا تأتنا طالبا.
فأخذ وانصرف. فلمّا كان العام المقبل أتاه.
فلمّا رآه قال: ما جاء بك يا أزهر؟
فقال: أتيتك يا أمير المؤمنين مسلّما.
فقال: إنّه ليقع في خلد أمير المؤمنين أنّك أتيت طالبا.
قال: ما أتيت إلّا مسلّما.
فقال: قد [106 أ] أمرنا لك باثني عشر ألفا، فخذنا ولا تأتنا طالبا ولا مسلّما!
فلمّا كانت السنة الثالثة عاد إليه، فقال: ما جاء بك يا أزهر؟
قال: أتيتك عائدا.
فقال: قد أمر لك أمير المؤمنين باثني عشر ألف درهم، فخذها ولا تأتنا طالبا ولا مسلّما ولا عائدا.
فلمّا كانت السنة الرابعة قدم عليه فقال: ما جاء بك يا أزهر؟
قال: سمعتك تدعو بدعاء فجئت لأكتبه عنك.
قال: إنّه غير مستجاب: قد دعوت به أن لا أراك فلم يجب!
وأمر له باثني عشر ألفا وقال: تعال متى شئت، فقد أعيت فيك الحيل!
وبعث المنصور إلى مسعر بن كدام الهلاليّ (1*) فقال له: يا أبا سلمة هل لك في أن أوّليك؟
فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أرضى نفسي لأن أشتري لأهلي حاجة بدرهم حتّى أستعين بغيري، على أنّ الثّقات قليل. فكيف أغرّك عن عملك، وأنا إلى أن تصل قرابتي ورحمي أحوج منّي إلى الولاية؟ فقد قال النابغة الجعديّ [الوافر]:
(1) الزفّانون هم أهل الرقص والملاهي.
(1*) في جمهرة ابن حزم، 274، أضيف: الفقيه.
وشاركنا قريشا في تقاها
…
وفي أنسابها شرك العنان
بما ولدت نساء بني هلال
…
وما ولدت نساء بني أبان
يعني لبابة جدّتك، فإنّها هلاليّة- فأمر له بأربعة آلاف درهم، وكساه. ولم يزل يتعهّده ويصله (1).
وبلغ المنصور أنّ عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسين بن علي بالبصرة، فخرج إلى البصرة، وأظهر أنّه يريد أن يقطع ابنه صالحا المسكين بانقيا ويقطع سليمان الهنيئة (2). وكان عيسى مستخفيا عند رجل يقال له يزيد. فبينا المنصور يخطب في يوم جمعة [106 ب] إذ وقعت عينه على عيسى، وعرف عيسى أنّه قد عاينه. فلمّا دخل المنصور في الصلاة انسلّ عيسى ويزيد صاحبه. فاستعرض الناس بعد الفراغ من الصلاة فلم يوجدا. ثم إنّعيسى مات عند يزيد. فأتى يزيد الربيع فقال له:
«اطلب لي الأمان من أمير المؤمنين وأدخلني إليه حتى أخبره من أمر عيسى بما يسرّ به» . فطلب له الربيع الأمان فأمّنه المنصور. فلمّا دخل عليه قال:
«يا أمير المؤمنين، قد مات عيسى بن زيد وأراحك الله منه» . فخرّ المنصور ساجدا، ووجّه من نظر إليه ميتا فوفّى ليزيد بأمانه.
وحجّ المنصور فكان يأتي الطواف ليلا فيطوف
مستخفيا متنكرا لا يعلم أحد من هو، فإذا طلع الفجر عاد إلى دار الندوة، فإذا حضرت الصلاة خرج فصلّى بالناس. فسمع رجلا يقول في بعض الليالي:«اللهمّ إنّي أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحقّ وأهله من الطمع» . فوقف على الرجل ثم خلا به وسأله عمّا قال. فقال له: أتؤمنني؟
قال: نعم، لك الأمان.
فقال: ما عنيت سواك.
فقال: كيف تنسبني إلى الطمع، والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض بيدي؟
قال: وهل دخل أحدا من الطّمع ما دخلك؟
احتجبت عن الضعفاء فلم يصلوا إليك، ثمّ أوعيت الأموال وجمعتها فلم تقسمها في أهلها، ورآك القوم الذين استعنت بهم خائنا فخانوك، وأنت متغافل عن الأمور كأنّك لا تعلم، وعملك حجّة عليك. ثمّ أنت تطمع في السلامة في [107 أ] دينك ودنياك.
ووعظه فاحتمل له ذلك وقال: «جزيت عن النصيحة خيرا» . وأقيمت الصلاة فصلّى المنصور بالناس فطلب الرجل فلم يوجد.
وسمع مرّة في داره جلبة فقال: «ما هذا؟ » فإذا خادم له قد جلس وغلمة حوله وهو يضرب لهم بطنبور، وهم يضحكون منه.
فأخبر بذلك فقال: «وما الطنبور؟ » فوصفه له حمّاد التركيّ، فقال له: وأنت فما يدريك ما الطنبور؟
قال: رأيته بخراسان.
فدعا بنعله وقام يمشي رويدا حتى أشرف على الغلمان فرآهم. فلمّا أبصروه تفرّقوا. فقال:
(1) حاشية في المخطوط: وكانت صفيّة بنت حزن عمّة أمّ الفضل- وهي لبابة الصغرى أمّ عبد الله بن عبّاس.
وصفيّة هي أمّ أبي سفيان بن حرب، وهي هلاليّة.
وكانت آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة أمّ الأعياص، بني أميّة بن عبد الشمس.
وانظر الجمهرة، 280. والنابغة الجعديّ هو قيس بن عبد الله بن عمرو بن عدس
…
بن عامر بن صعصعة (الجمهرة، 289).
(2)
في المخطوط: بابقليا. وبانقيا: من نواحي الكوفة (ياقوت). أمّا الهنيئة فلم نعرفها.
قال: «يا ربيع، أخرجه من قصري وابعث به إلى حمدان النخّاس حتّى يبيعه» . فوجّه به الربيع من ساعته فبيع بالكرخ.
وقال حمّاد التركي: ولّاني المنصور المدائن، ثمّ عزلني، فقال لي ذات يوم:«يا ابن الخبيثة، كم عندك من المال؟ » فقلت: أصدقه فإنّه لا ينفعني عنده إلّا الصدق. وأخبرته بمبلغ المال، فقال:
«ادفعه إلى الربيع» ففعلت. ثمّ رحت بالعشيّ.
فإنّي بين يدي المنصور واقف لا أشكّ في ذهاب المال إذ دخل الربيع فقال له: يا ربيع، أحمل حمّاد إليك ذلك المال؟
قال: نعم.
قال: أفعرفت وزنه؟
قال: نعم.
قال: احتفظ به. فإذا تزوّج حمّاد فادفعه إليه.
وكان المنصور يقسم على مواليه الأرزاق حتى الفانيد (1) والترياق. وكان مشايخ أهله يدخلون عليه بالعشيّات في النعال والأردية.
وخرج يوما سائرا فأساء بعض أحداث مواليه الأدب وسار في ناحية أمر أن لا يسير فيها أحد كراهة للغبار. فالتفت إلى عيسى بن عليّ وهو يسايره فقال: والله ما ندري يا أبا العبّاس ما نصنع بهؤلاء الأحداث؟ لئن حملناهم على الأدب وأخذناهم بما يجب ليقولنّ [107 ب] جاهل إنّا لم نحفظ آباءهم فيهم. ولئن تركناهم وركوب أهوائهم ليفسدنّ علينا غيرهم.
ولمّا خرج عليه محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن، وجاءه فتق من ناحية أخرى، جعل ينكت بقضيب معه ويقول [الكامل]:
ونصبت نفسي للرماح دريئة
…
إنّ الرئيس لمثل ذاك فعول
وقال في آل أبي طالب [طويل]:
فلولا دفاعي عنكم إذ عجزتم
…
وبالله أحمي عنكم وأدافع
لضاعت أمور منكم لا أرى لها
…
كفاة، وما لا يحفظ الله ضائع
وما زال منّا، قد علمتم، عليكم
…
على الدهر إفضال يرى ومنافع
وما زال منكم أهل غدر وجفوة
…
وبالله مغترّ وللرحم قاطع
وركب مرّة وأهله حوله فقال عثمان بن عمارة المرّي: إنّ حشو أثواب هذا الرجل لمكر ودهاء نكر، وما هو إلّا كما قال [ابن] جذل الطعان [الوافر]:
فكم من غارة ورعيل خيل
…
تداركها وقد حمي اللقاء
فردّ رعيلها حتّى ثناها
…
بأسمر ما يرى فيه التواء
وقال إسحاق بن مسلم: لقد سبرته فوجدته بعيد الغور، وعجمت عوده فوجدته مرّ المذاق، وإنّه ومن حوله لكما قال ربيعة بن مكدّم [الطويل]:
سما لي فرسان كأنّ وجوههم
…
مصابيح تبدو في الظلام زواهر
يقود [هم] كبش أخو مصمئلّة
…
عبوس السّرى قد لوّحته الهواجر
وقال عبد الله بن الربيع الحارثيّ (1*): هو والله
(1) الفانيد: نوع من السكّر السجستانيّ، فيقال: سجزيّ.
(1*) في إسحاق بن مسلم [العقيليّ] وعبد الله بن الربيع [المدنيّ] يقول الطبريّ 7/ 447 و 609: وكانا من صحابة المنصور.