الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقوية له. فلمّا قتل محمد صار مع أخيه إبراهيم بالبصرة حتى إذا قتل إبراهيم أتى المدينة فاستخفى بها. فأمّنه عبد الصمد بن عليّ. وقدم المنصور المدينة فأخذ عبد الصمد بإحضار سديف حتى جاء به فجعله المنصور في جوالق ثمّ خيّط عليه، وضرب بالخشب حتى كسر، ثم رمي في بئر وبه رمق حتى مات. وقيل غير ذلك.
وكان أحبّ الطيب إلى المنصور المسك فكان يبتاع له منه في كلّ سنة اثنا عشر ألف مثقال من غلّة ضياعه فيستعمل منه في كلّ يوم عشرين مثقالا ينفخ منها في ثيابه ويغيّر شيبه ويمسح جسده، ويصرف باقي المسك فيما يهبه.
وقال المنصور: ما رأيت ابن هرمة قطّ فذكرت أبياته في عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك (1) إلّا هممت بأن آسره. والأبيات [المتقارب]:
إذا قيل: من خير من يرتجى
…
لمعترّ فهر ومحتاجها
ومن يعجل الخيل عند اللقا
…
بإلجامها قبل إسراجها
أشارت نساء بني مالك
…
إليك به قبل أزواجها
فقال عيسى بن عليّ: يا أمير المؤمنين، فهو الذي يقول فيك [الطويل]:
كريم له وجهان: وجه لدى الرضى
…
أسيل، ووجه في الكريهة باسل
له لحضات عن حفافي سريرة
…
إذا كرّها فيها عقاب ونائل
يقاتل عنه الناس مجلود رأيه
…
على الحقّ، والرأي الجليد مقاتل
[ابن هرمة والرخصة في الخمر]
ومدح إبراهيم بن علي بن هرمة المنصور فأعطاه عشرة آلاف درهم فاستقلّها وقال: لي حاجة يا أمير المؤمنين، فإن قضيتها كنت قد كافأتني.
قال: وما هي؟
قال: تأذن لي في شرب النبيذ بالمدينة فإنّ بي هذه الأرواح وألما يضرّني.
فقال: وكيف أفعل ذلك، وأنت تعرف كراهة أهل الحجاز للشرب؟
فقال احتل لي يا أمير المؤمنين.
فأمر الوالي هناك أنّ من أتاه بابن هرمة وهو سكران ضربه مائة وضرب [99 أ] ابن هرمة ثمانين.
فكان الشرطيّ يراه بالمدينة سكران فيقول: من يشتري الثمانين بالمائة؟ ويدعه. وفي رواية: لم يجبه المنصور إلى الإذن له في شرب النبيذ، ولكنّ بعض عمّال المدينة كان أمر فيه بهذا.
ووعظ سوّار المنصور فوصله، فأبى قبول صلته. فقيل له في ذلك فقال: كرهت أن أكون مثل سعيد بن الفضيل: وعظ هشاما ثمّ سأله فأعطاه فقال هشام: إلى هذا أجرى الحديث!
[بعض الخارجين على المنصور]
وكان أبو مسلم قد استخلف على خراسان حين سار للحجّ أبا داود خالد بن إبراهيم الذهليّ. فلمّا مات أبو العبّاس السفّاح بايع أبو داود لأبي جعفر المنصور بغير أمر أبي مسلم، ولم يكتب إليه بالبيعة إلّا بعد حين خوفا منه. فلمّا قتل أبو مسلم وأتاه البريد بقتله أنكر قتله وذكر المنصور ذكرا قبيحا ونسبه إلى الغدر. وكتب المنصور إليه يأمره بغزو ما وراء النهر. ثم كتب إليه في القدوم عليه، ووجّه بكتابه إليه رسولا مفردا فقال: «ما يقدمني
(1) ولي المدينة من 127 إلى 130. والأبيات في ديوان ابن هرمة، 16.
عليه إلّا لمسألتي عن أمور أبي مسلم وأمواله، ثمّ قتلي بعد ذلك». ثم قام يفرقع أصابعه ويرقص ويقول:«يا أبا جعفر، غرّ غيري! » والرسول يراه.
فرجع إلى المنصور فأخبره بما عاين، ولم يجب [أبو داود] المنصور على كتابه. فكتب المنصور إلى أبي عصام عبد الرحمن بن سليم، مولى عبد الله بن عامر بن كريز: إن قتلت أبا داود، فأنت أمير خراسان!
فخرج أبو عصام إلى كشماهن [99 ب] وقد دسّ إلى أهلها من هيّجهم ليخرج أبو داود فيفتك به.
وسمع أبو داود الضجّة فصعد لينظر فمشى على جناح داره. وكان ضعيف البصر فسقط على وتد، فقالت امرأته: من ذا؟
فقال: أنا أبو داود قد نزل بي ما يريد أبو جعفر.
واحتمل فمات ودفن، وذلك في سنة تسع وثلاثين ومائة. وكتب أبو عصام بموته إلى المنصور. واجتمع الناس إلى أبي عصام فبايعوا للمنصور وأخذ البيعة له عليهم. ولم يلبث إلّا قليلا- قيل: أربعين يوما- حتى ورد عبد الجبّار ابن عبد الرحمن الأزديّ على أربع من دوابّ البريد. وكان على شرط السفّاح ثم على شرط المنصور وقال له: قد ولّيتك خراسان، فأطع الله في معصيتى، ولا تطعني في معصية الله، ولن للمحسن وكن خشنا للمسيء!
فسار إليها. وولّى المنصور الشرط بعده عمر ابن عبد الرحمن أخاه ثم عزله وولّى موسى بن كعب التميميّ حتّى مات. ثم ولّى بعده المسيّب بن زهير الضبّي. فكان المسيّب يسعى في فساد حال عبد الجبّار عند المنصور ويوحشه منه ويغريه به. وكتب إلى عبد الجبّار أنّ المنصور قال ذات يوم: «من ولي خراسان فأصلح أمر ثغورها وأحسن السيرة في أهلها ورزق جنودها وكان في بيت ماله بعد ذلك عشرة آلاف ألف فهو الكامل» .
فكتب عبد الجبّار إلى المنصور يعلمه أنّ عنده بعد سدّ الثغور وإعطاء المقاتلة عشرة آلاف ألف درهم. فكتب إليه المنصور في حملها. ولم تكن عنده وإنّما كذبه. وألحّ عليه [100 أ] فيها. فكتب يسأل الإذن له في إشخاص عياله إليه، فلم يأذن له المنصور في ذلك. وكان يبلغه فساد قلبه عليه بما يكيده به المسيّب عنده ويقول له فيه. فخلع وقال:
«إنّ أبا جعفر دعاني إلى عبادته» . وأسرف في القول بعد ما سار سيرة حسنة، ونظر في أمر الخراج وقوّى الدعوة. فلمّا خلع في سنة إحدى وأربعين ومائة ودسّ إلى قوم من عمّال أبي داود وغيرهم، ممّن كان مخالصا للعبّاسيّين فقتلهم.
وصار إليه علج ينظر في النجوم فقال له: إنّك ستغلب على خراسان وغيرها وتنال ملكا عظيما.
فكتب رجل من عيون المنصور إليه: «إنّه قد نغل (1*) الأديم. فقال لأبي أيّوب المورياني كاتبه ووزيره: ما تراه يقول؟
قال: بخير أنّ عبد الجبّار على الخلع.
فقال: ما ترى؟
قال: تكتب إليه أنّك تريد الغزو برجال خراسان ووجوه أهلها، وتأمره بتوجيههم إليك.
ففعل. فكتب إليه عبد الجبّار: إنّ الترك قد جاشت، وخراسان محتاجة إلى رجالها.
فكتب إليه المنصور: إنّي بخراسان أعنى منّي بغيرها. فإن أحببت أن يوجّه أمير المؤمنين إليك رجالا ممّن قبله فعل- وإنّما أراد أن يوجّه إليه من الجند من يلطف لأخذه.
فكتب: إنّ خراسان مجدبة، فليتها تقوم بمن
(1*) نغل الجلد: فسد عنه الدبغ.