الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووضع عن أهل خراسان ربع الخراج فحسن ذلك عند أهلها وقالوا: ابن أختنا وابن عمّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم.
هذا وقد أقبل الأمين على اللهو. فأقام المأمون يتولّى ما بيده من خراسان والريّ. وأهدى إلى الأمين وكتب إليه وعظّمه. فأمر الأمين في سنة أربع وتسعين [ومائة] بالدعاء على المنابر لابنه موسى.
وسبب ذلك أنّ الفضل بن الربيع خشي [أنّ] المأمون إن أفضى الأمر إليه لم يبق عليه. فأخذ يغري الأمين به ويحثّه على خلعه والبيعة لابنه موسى بولاية العهد، وصغّر عنده أمر المأمون.
ووافقه على هذا عليّ بن عيسى بن ماهان، والسنديّ، وجماعة. فرجع إلى قولهم وكتب إلى جميع العمّال بالدعاء لابنه موسى بالأمر بعده، وتقديمه، في الدعاء، على المأمون والمؤتمن.
وعزل المؤتمن عن الجزيرة.
فلمّا بلغ ذلك المأمون أسقط اسم الأمين من الطراز، وقطع البريد عنه. فلحق به رافع بن الليث بن نصر بن سيّار، وهرثمة بن أعين. فولّى هرثمة الحرس. فأنكر الأمين ذلك كلّه، وكتب إلى العبّاس بن عبد الله بن مالك عامل المأمون على الريّ يأمره أن ينفذ إليه بغرائب غروس الريّ- يريد بذلك امتحانه. فبعث إليه بما أمره وكتم ذلك عن المأمون وذي الرئاستين. فلمّا بلغ المأمون ذلك عزله.
وأرسل الأمين إلى المأمون بالعبّاس بن موسى بن عيسى بن محمد بن عليّ، ومعه عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور، وصالح صاحب المصلّى، ومحمد بن عيسى بن نهيك، يطلب إليه أن يقدّم ابنه موسى على نفسه وأن يحضر عنده فقد استوحش لبعده. فبلغ الخبر إلى المأمون فكتب إلى عمّاله بالريّ ونيسابور وغيرهما يأمرهم بإظهار العدّة والقوّة، ففعلوا ذلك.
وقدم الرسل على المأمون فأبلغوه الرسالة.
فاستشار الفضل بن سهل فقال: أحضر هشاما والد علي وأحمد ابني هشام، واستشره.
ففعل، فقال: إنّما أخذت البيعة علينا على أن لا نخرج من خراسان. فمتى فعل محمد ذلك فلا [116 ب] بيعة له في أعناقنا، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. ومتى هممت بالمسير إليه تعلّقت بك بيميني، فإذا قطعت تعلّقت بيساري، فإذا قطعت تعلّقت بأسناني، فإذا ضربت عنقي كنت قد أدّيت ما عليّ!
فقوي عزم المأمون على الامتناع، وأحضر العبّاس وأعلمه أنّه لا يحضر، ولا يقدّم موسى على نفسه.
فقال العبّاس: ما عليك أيّها الأمير من ذلك.
فهذا جدّي عيسى عبد الله بن موسى قد خلع فما ضرّه.
فصاح به ذو الرئاستين: اسكت! إن جدّك كان أسيرا في أيديهم. وهذا بين أخواله وشيعته.
ثم قاموا. فخلا ذو الرئاستين بالعبّاس واستماله، ووعده إمر [ة] الموسم ومواضع من مصر. فأجاب إلى بيعة المأمون- فسمّي المأمون من ذلك الوقت بالإمام- فكان العبّاس يكتب إليهم بالأخبار من بغداد.
[امتناع المأمون من ترك خراسان]
ورجع الرجل إلى الأمين فأخبروه بامتناع المأمون. وألحّ الفضل وعليّ بن عيسى على الأمين في خلع المأمون والبيعة لابنه موسى ابن الأمين. وكان الأمين قد كتب إلى المأمون يطلب منه أن ينزل له عن بعض كور خراسان، وأن يكون
له عنده صاحب البريد يكاتبه بالأخبار. فاستشار المأمون خواصّه وقوّاده في ذلك، فأشاروا عليه باحتمال ذلك والإجابة إليه خوفا من شرّ هو أعظم منه. فقال لهم الفضل بن سهل: أتعلمون أنّ الأمين طلب ما ليس له؟
قالوا: نعم، ونحتمل هذا لضرر منعه.
قال: فإن فعل غيرها فما ترون؟
قالوا: نمنعه.
قال: فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء:
فإنّهم إنّما قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من مكروه في يومك ولا تلتمس هدية (1) يومك بخطر أدخلته على نفسك في غدك.
فقال المأمون لذي الرئاستين: فما تقول أنت؟
قال: أسعدك الله، هل تأمن أن يكون الأمين قد طالبك بفضل قومك ليظهر بهم عليك؟ بل إنّما أشار الحكماء بحمل ثقل يرجون به صلاح العاقبة.
فقال المأمون: بإيثار دعة العاجل صار من صار إلى فساد العاقبة في دنياه وآخرته.
وامتنع المأمون من إجابته إلى ما طلب. وأنفذ ثقاته إلى حدّ أعماله وأمرهم أن لا يمكّنوا أحدا من العبور إلى بلاده إلّا مع ثقة من ناحيته. فضبط الطرق بثقات أصحابه، فلم يمكّنوا من دخول خراسان إلّا من عرفوه وأتى بجواز أو كان تاجرا معروفا.
وقيل: لمّا أراد الأمين أن يكتب إلى المأمون يطلب بعض كور خراسان قال له إسماعيل بن صبيح: «يا أمير المؤمنين، إنّ هذا ممّا [117 أ]
يقوّي التهمة وينبّه على الحذر. ولكن اكتب إليه فأعلمه حاجتك إليه وما تحبّ من قربه والاستعانة على ما ولّاك الله، وتسأله القدوم عليك لترجع إلى رأيه فيما تفعل». فكتب إليه بذلك وسيّر الكتاب مع نفر وأمرهم أن يبلغوا الجهد في إحضاره.
وسيّر معهم الهدايا الكثيرة. فلمّا حضر الرسول عنده وقرأ الكتاب، استشار فأشير عليه بملازمة خراسان، وخوّف من القرب من الأمين. فقال: لا يمكنني مخالفته وأكثر القوّاد والأموال معه، والناس ما يلوون إلّا على الدرهم والدينار لا يرغبون في حفظ عهد ولا أمانة. ولست في قوّة حتى أمتنع، وقد فارق جبغويه الطاعة، والتوى خاقان ملك التبّت، وملك كابل قد استعدّ للغارة على ما يليه، وملك أتراربندة قد منع الضريبة، وما لي بواحد من هذه (1*) الأمور يد، ولا أرى إلّا تخلية ما أنا فيه واللحاق بخاقان ملك الترك والاستجارة به، لعلّي آمن على نفسي.
فقال ذو الرئاستين: إنّ عاقبة الغدر وخيمة، وتبعة الغدر غير مأمونة. وربّ مقهور قد عاد قاهرا، وليس النصر بالكثرة والقلّة، والموت أيسر من الذلّ والضيم. وما أرى أن تصير إلى أخيك متجرّدا من قوّادك وجندك كالرأس الذي فارق بدنه فتكون عنده كبعض رعيّته يجري عليك حكمه من غير أن تبلي عذرا في قتال. فاكتب إلى جبغويه وخاقان فولّهما بلادهما، وابعث إلى ملك كابل ووادعه، واترك لملك اتراربندة ضريبته. ثمّ اجمع أطرافك وضمّ جندك واضرب الخيل بالخيل والرجال بالرجال. فإن ظفرت، وإلّا لحقت بخاقان.
فعرف المأمون صدقه وفعل ما أشار به. فرضي أولائك الملوك العصاة. وضمّ جنده وجمعهم عنده. وكتب إلى الأمين: أمّا بعد، فقد وصل
(1) الهدية بتثليث الأوّل: الطريقة والجهة والشأن. ولعلّها:
هدنة بالنون. وانظر الطبريّ 3/ 781.
(1*) في المخطوط: من هذا.
كتاب أمير المؤمنين، وإنّما أنا عامل من عمّاله وعون من أعوانه، أمرني الرشيد بلزوم هذا الثغر، ولعمري إنّ مقامي به أردّ عن أمير المؤمنين وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، وإن كنت مغتبطا بقربه مسرورا بمشاهدة نعمة الله عنده. فإن رأى أمير المؤمنين أن يقرّني على عملي ويعفيني من الشخوص، فعل أن شاء الله.
فلما قرأ الأمين كتابه علم أنّه لا يتابعه على ما يريده. فكتب إليه يسأله أن ينزل له عن بعض كور خراسان. فلمّا امتنع من إجابته إلى ذلك أرسل جماعة ليناظروه في منع ما طلب منه. فلمّا وصلوا إلى الريّ منعوا ووجدوا تدبيره محكما وحفظوا [117 ب] في حال سفرهم وإقامتهم من أن يخبروا أو يستخبروا، وكانوا معدّين لوضع الأخبار في العامّة فلم يمكنهم ذلك. فلمّا رجعوا أخبروا الأمين بما رأوا.
وقيل إنّ الأمين لمّا عزم على خلع المأمون وزيّن له ذلك الفضل وابن ماهان دعا يحيى بن سليم وشاوره في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، كيف نفعل ذلك مع ما أكّده الرشيد من بيعته وأخذ الشرائط والأيمان في الكتاب الذي كتبه؟
فقال الأمين: إنّ رأي الرشيد كان فلتة شبّهها عليه جعفر بن يحيى. فلا ينفعنا ما نحن فيه إلّا بقلعه واجتثاثه.
فقال يحيى: إذا كان رأي أمير المؤمنين خلعه فلا يجاهده فيستنكر الناس ذلك. ولكن يستدعي أمير المؤمنين الجند بعد الجند والقائد بعد القائد ويؤنسه بالألطاف والهدايا، ويفرّق ثقاته ومن معه ويرغّبهم بالأموال. فإذا وهّيت قوّته واستفرغت رجاله أمرته بالقدوم عليك. فإن قدم صار الذي نريد منه. وإن أبى كنت قد تناولته وقد كلّ حدّه.
فقال الأمين: أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأي مصيب، قم فالحق بمدادك وأقلامك! (1*)
وكان ذو الرئاستين قد اتّخذ قوما ببغداد يكاتبونه بالأخبار. وكان الفضل بن الربيع قد حفظ الطرق، فكان أحد أولئك النفر إذا كاتب ذا الرئاستين بما تجدّد ببغداد، سيّر الكتاب مع امرأة وجعل الكتاب في عود أكاف (2*) فتسير كالمجتازة من قرية إلى قرية. فلمّا ألحّ الفضل بن الربيع في خلع المأمون أجابه الأمين إلى ذلك وبايع لولده موسى في صفر- وقيل في ربيع الأوّل- سنة خمس وتسعين ومائة، وسمّاه «الناطق بالحقّ» . ونهى عن ذكر المأمون والمؤتمن على المنابر، وأرسل إلى الكعبة بعض الحجبة فأتاه بالكتابين الذين وضعهما الرشيد في الكعبة ببيعة الأمين والمأمون، فمزّقهما الفضل. فلمّا بلغ المأمون ذلك قال: هذه أمور أخبر الرأي عنها، وكفانا أن نكون مع الحقّ.
فكان أوّل ما دبّره ذو الرئاستين حين بلغهم هذا الخبر أن جمع الأجناد الذين اتّخذهم بجنبات الريّ مع الأجناد الذين بها، وأمدّهم بالأقوات وغيرها، وكانت البلاد عندهم قد أجدبت، وأكثر عندهم ما يريدونه حتى صاروا في أرغد عيش. وأقاموا بالحدّ ما يتجاوزونه. ثم أرسل إليهم طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعيّ أميرا في عدّة من قوّاده وأجناده، فسار مجدّا حتّى ورد الريّ، فنزلها [118 أ] ووضع المسالح والمراصد.
ووجّه الأمين عصمة بن حمّاد إلى همذان في ألف رجل ليقيم بها. وأخذ الفضل بن الربيع وعليّ بن عيسى بن ماهان يغريانه بحرب المأمون، فأمر ابن ماهان بالمسير لحربه. وسبب تعيينه ذلك أنّ ذا الرئاستين كان له عين عند الفضل بن الربيع
(1*) كان يحيى بن سليم كاتبا للأمين بوصيّة هارون الرشيد:
الجهشياري: الوزراء والكتّاب 266.
(2*) الأكاف: البرذعة.
يرجع إلى قوله ورأيه، فكتب إليه بأن يشير عليه بإنفاذ ابن ماهان لحربهم. وقصد بذلك أنّ ابن ماهان كان لمّا ولي خراسان في أيّام الرشيد أساء السيرة في أهلها وظلمهم فعزله عنها. لذلك فإنّ أهل خراسان أبغضوه ونفروا عنه. فأراد أنّه إذا سار إليهم ازداد الخراسانيّون جدّا في محاربته. ففعل الرجل ما أمره به ذو الرئاستين، حتى أمر الأمين ابن ماهان بالمسير.
وقيل: بل سبب ذلك أنّ عليّا قال للأمين: «إنّ أهل خراسان كتبوا إليّ يذكرون أنّه إن قصدتهم أطاعوني وانقادوا إليّ، وإن كان غيري، فلا» .
فأمره بالمسير، وأقطعه كور الجبل كلّها: نهاوند، وهمذان، وقمّ، وقاشان وغير ذلك، حربها وخراجها. وأعطاه الأموال وحكّمه في الخزائن، وجهّز معه خمسين ألف فارس. وكتب إلى أبي دلف القاسم بن عيسى بن إدريس العجليّ، وهلال بن عبد الله الحضرميّ بالانضمام إليه.
وأمدّه بالأموال والرجال شيئا بشيء. فلمّا عزم على المسير من بغداد، ركب إلى باب زبيدة أمّ الأمين ليودّعها. فقالت له: يا عليّ، إنّ أمير المؤمنين، وإنّ كان ولدي [و] إليه تناهت شفقتي، فإنّي على عبد الله متعطّفة لما يحدث عليه من مكروه وأذى. وإنّما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه، والكريم يأكل لحم أخيه ويمنعه غيره.
فاعرف لعبد الله حقّ ولادته، وأخوّته، ولا تجبهه بالكلام. فإنّك لست بنظير له، ولا تقتسره اقتسار العبيد. ولا توهنه بقيد ولا غلّ. ولا تمنعه جارية ولا خادما، ولا تعنف عليه في السير ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله، وخذ بركابه. فإن شتمك فاحتمل منه.
ودفعت إليه قيدا من فضّة وقالت له: إن صار إليك فقيّده بهذا القيد.
فقال: سأفعل ما أمرت به.
ثم سار في شعبان، وركب الأمين ليشيّعه ومعه القوّاد والجنود، فلم ير ببغداد عسكر قبله أكثر رجالا ولا كراعا منه. ووصّاه الأمين إن قاتله المأمون أن يحرص على أسره، ومضى.
فبلغه أنّ طاهرا مقيم بالريّ والأمداد تأتيه من خراسان [118 ب] وهو يستعدّ للقتال. فقال: «إنّما طاهر شوكة من أغصاني، وما مثل طاهر يتولّى الجيوش» . ثم قال لأصحابه: ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف إلّا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان، فإنّ السخال (1*) لا تقوى على النطاح، والبغال لا صبر لها على لقاء الأسد.
وإن أقام تعرّض لحدّ السيوف وأسنّة الرماح. فإذا قاربنا الريّ ودنونا منهم فتّ ذلك في أعضادهم.
ثمّ أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وطبرستان وما والاها يعدهم الصّلات وأهدى لهم التيجان والأساورة وغيرها، وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان. وسار حتّى أتى أوائل الريّ، وهو قليل الاحتياط. فأشار عليه أصحابه بإذكاء العيون وعمل الخندق على عسكره وإرسال الطلائع خوف البيات، فقال: مثل طاهر لا يستعدّ له. وإنّ حاله يؤول إلى أحد أمرين: إمّا أن يتحصّن بالريّ فيثب به أهلها فيكفوننا أمره. وإمّا أن يرجع ويتركها إذا قربت خيلنا منه.
فقالوا: لو كان عزمه تركها والرجوع لفعل، فإنّا قد قربنا منه.
فلم يلتفت إلى قولهم. فلمّا صار بينه وبين الريّ عشرة فراسخ، استشار طاهر أصحابه، فأشاروا عليه أن يقيم بالريّ ويدافع القتال إلى أن يأتيه المدد من خراسان، أو يصل قائد يتولّى
(1*) السخال: أولاد الغنم.