الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فسرّ بهذا الكلام وقال: يا أبا محمد إنّ الإنسان إنّما يفضل بعقله، ولولا ذلك لم يكن لحم أطيب من لحم. ولا دم أطيب من دم.
[تواضعه]
(قال) ونظر يوما إلى رءوس آنيته محشوّة بقطن، وكانت قبل ذلك بأطباق فضّة. فقال لصاحب الشراب: أحسنت يا بنيّ، إنّما يباهي بالذهب والفضّة من قلّا عنده. أمّا نحن فينبغي أن نباهي بالأفعال الجميلة والأخلاق الكريمة. فإيّاك أن تحشو رءوس أوانيك إلّا بالقطن! فذاك بالملوك أهيأ وأبهى.
وقال [يحيى بن أكثم](1): ما رأيت أكمل آلة من المأمون- وجعل يحدّث بأشياء، إلى أن قال:
كنت عنده ليلة أذاكره وأحدّثه. ثمّ نام وانتبه فقال:
«يا يحيى، انظر إيش تحت رجلي» . فنظرت فلم أر شيئا. فقال: «شمعة! » فتبادر الفرّاشون، فقال:
«انظروا! » فنظروا، فإذا تحت فراشه حيّة بطوله، فقتلوها. فقلت: قد انضاف إلى كمال أمير المؤمنين علم الغيب!
فقال: معاذ الله! ولكن هتف بي هاتف الساعة وأنا نائم، فقال:[الكامل]:
يا راقد الليل انتبه
…
إنّ الخطوب لها سرى
ثقة الفتى بزمانه
…
ثقة محلّلة العرى
فانتبهت فعلمت أن قد حدث أمر إمّا قريب وإمّا بعيد. فتأمّلت ما قرب فكان ما رأيت.
[بصره بالشعر]
وقال محمد بن يزيد المبرّد: حدّثني عمارة بن
عقيل قال: قال ابن أبي حفصة (1*) الشاعر: أعلمت أنّ المأمون أمير المؤمنين لا يبصر الشعر؟
فقلت: من ذا يكون أفرس منه؟ والله إنّا لننشد أوّل البيت فيسبق إلى آخره من غير أن يكون سمعه.
قال: إنّي أنشدته بيتا أجدت فيه فلم أره تحرّك له. وهذا البيت فاسمعه [البسيط]:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا
…
بالدين، والناس بالدنيا مشاغيل
فقلت له: ما زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها في يدها سبحة! فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان مشغولا عنها وهو المطوّق بها؟ ألا قلت كما قال عمّك جرير في عبد العزيز بن الوليد [الطويل]:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه
…
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله (2*)
وقال إبراهيم بن سعيد الجوهريّ: كنت واقفا على رأس المأمون، وهو يتفكّر. ثمّ رفع رأسه فقال: يا إبراهيم، بيتا شعر قيلا لم يسبق قائليهما إليهما أحد ولا يلحقهما أحد!
قلت: من هما يا أمير المؤمنين؟
قال: أبو نواس وشريح.
فتبسّمت. فقال: أمن أبي نوّاس وشريح؟
قلت: نعم.
قال: خذ! قال أبو نواس [الطويل]:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت
…
له عن [129 أ] عدوّ في ثياب صديق
فقلت: أحسن يا أمير المؤمنين. فما قال شريح؟
(1) الإكمال من تاريخ بغداد 10/ 188.
(1*) في العقد 5/ 368: عبد الله بن أبي السمط.
(2*) ديوان جرير، 435.
فقال: قال شريح [الطويل]:
تهون على الدنيا الملامة، إنّه
…
حريص على استصلاحها من يلومها
فقلت: أحسن يا أمير المؤمنين.
فقال: أحسن منهما [ما] سمعته أنا: كنت أسير في موكبي، فألجأني الزحام إلى دكّان عليه رجل عليه أسمال. فنظر إليّ نظر من رحمني أو تعجّب ممّا أنا فيه فقال [الطويل]:
أرى كلّ مغرور تمنّيه نفسه
…
إذا ما مضى عام، سلامة قابل
وقال الزبير بن بكّار: حدثني النضر بن شميل قال: دخلت على المأمون بمرو، وعليّ أطمار مترعبلة (1)، فقال لي: يا نضر، أتدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب؟
فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ حرّ مرو لا يدفع إلّا بمثل هذه الأخلاق. (2)
قال: «لا! ولكنّك تتقشّف! » فتجارينا الحديث، فقال المأمون: حدثني هشيم بن بشر عن مجالد عن الشعبيّ عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تزوّج الرجل المرأة لدينها وجمالها، كان فيه سداد من عوز.
قلت: صدق قول أمير المؤمنين عن هشيم.
حدّثني عوف الأعرابيّ عن الحسن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إذا تزوّج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز.
وكان المأمون متكئا. فجلس وقال: السّداد لحن يا نضر؟
قلت: نعم ههنا. وإنما لحن هشيم، وكان لحّانا.
فقال: ما الفرق بينهما؟
قلت السداد- بفتح السين- القصد في السبيل.
والسدّاد- بكسر السين- البلغة. وكلّ ما سددت به شيئا فهو سداد.
قال: أفتعرف العرب ذلك؟
قلت: نعم. هذا العرجيّ من ولد عثمان بن عفّان رضي الله عنه يقول [الوافر]:
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا
…
ليوم كريهة وسداد ثغر
بكسر السين.
فأطرق المأمون مليّا، ثم قال: قبّح الله من لا أدب له!
ثم قال: أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب.
قلت: قول [حمزة] ابن بيض في الحكم بن مروان [المنسرح]:
تقول لي، والعيون هاجعة
…
أقم علينا يوما فلم أقم
أيّ الوجوه انتجعت قلت لها
…
لأيّ وجه، إلّا إلى الحكم
متى يقل حاجبا سرادقه:
…
هذا ابن بيض بالباب، يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبلا
…
هيهات! إذ حلّ اعطني سلمي (1*)
فقال المأمون: لله درّك! فكأنّما شقّ لك عن قلبي! انشدني أنصف بيت قالته العرب.
قلت: قول ابن أبي عروبة المدني يا أمير المؤمنين [129 ب][الكامل]:
(1) في الهامش: أي متقطّعة. وفي القاموس: رعبل الثوب:
مزّقه، والرّعبلة والرّعبولة: الثوب البالي.
(2)
الأخلاق والخلقان بمعنى.
(1*) شرح في الهامش: أسلمت فيك مقتبلا، أي: أسلفت وأخذت قبيلا أي كفيلا.
وحمزة بن بيض شاعر أمويّ، له أخبار في الأغاني، 16/ 143 وفي تجريد الأغاني، 1721. وجمع الطيب العشّاش أخباره وشعره في الحوليّات 35/ 1994 وهذه الأبيات نقلها الزبيديّ مع الخبر كلّه بين المأمون والنضر في طبقاته، 58، ونقلها العسكريّ في ديوان المعاني، 1/ 10.
إنّي وإن كان ابن عمّي عاتبا
…
لمزاحم من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان امرا
…
متزحزحا في أرضه وسمائه
وأكون والي سرّه وأصونه
…
حتى يحين إليّ وقت أدائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه
…
قرنت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا دعا باسم ليركب مركبا
…
صعبا قعدت له على سيسائه (1)؟
وإذا أتى من وجهه بطريفة
…
لم أطّلع فيما وراء خبائه
وإذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل
…
يا ليت أنّ عليّ حسن ردائه!
فقال: أحسنت يا نضر. أنشدني الآن أقنع بيت للعرب.
فأنشدته قول [الحكم] ابن عبدل [الأسديّ](2)[المنسرح]:
إنّي امرؤ لم أزل وذاك من ال
…
لّه أديب [ا] أعلّم الأدبا
أقيم بالدار وما اطمأنّت بي ال
…
دار وإن كنت مازحا طربا
لا أجتوي خلّة الصديق ولا
…
أتبع نفسي شيئا إذا ذهبا (3)
أطلب ما يطلب الكريم من ال
…
رزق بنفسي وأجمل الطلبا
وأحلب الثّرّة الصّفيّ ولا
…
أجهد أخلاف غيرها حلبا (1*)
إنّي رأيت الفتى الكريم إذا
…
رغّبته في صنيعة رغبا
والعبد لا يطلب العلاء ولا
…
يعطيك شيئا إلّا إذا ذهبا
مثل الحمار الموقع هو لا
…
يحسن مشيا إلّا إذا ضربا (2*)
ولم أجد عروة العلائق إل
…
لا الدين أنّى اختبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما
…
شدّ لعيش رحلا ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطيّة وال
…
رحل ومن لا يزال مغتربا
قال: أحسنت يا نضر. فهل عندك ضدّ هذا؟
قلت: نعم، أحسن منه.
قال: هاته!
فأنشدته [الوافر]:
يد المعروف غنم حيث كانت
…
تحمّلها كفور أو شكور
قال: أحسنت يا نضر!
وأخذ القرطاس، فكتب شيئا لا أدري ما هو.
ثمّ قال: كيف تقول: أفعل من التراب؟
قلت: أترب.
قال: الطين؟
قلت: طن.
(1) هذا العجز ورد في اللسان (جلف) منسوبا إلى العجير وهو شاعر أمويّ (ت 90). ونسب الزبيديّ الأبيات إلى ابن أبي عروبة المدنيّ، والعسكريّ إلى ابن غزوية وهما غير معروفين. ولا توجد الأبيات في أخبار العجير السلوليّ في الأغاني، 13/ 56، ولا في الحماسة (التبريزي، 2/ 193 و 4/ 79). والسيساء موضع الركوب من ظهر الدابة.
(2)
عند الزبيدي، 59 هي للراعي النميريّ. ولا توجد في أخبار ابن عبدل في تجريد الأغاني، 1/ 299.
(3)
اجتوى الشيء والبلد: كرهه.
(1*) في الهامش شرح للصفي: الصفيّ بالمعجمة: الغزيرة اللبن. وبالمهملة (أي الصفى بالقصر): هو ما للملك دون السوقة، وهو الشيء المختار المصطفى أيضا.
(2*) الصدر غير موزون.
قال: فالكتاب؟
قلت: مترب.
قال: هذه أحسن من الأولى.
فكتب لي بخمسين ألف درهم. ثمّ أمر الخادم أن يوصله إلى الفضل بن سهل، فمضيت معه.
فلمّا قرأ الكتاب قال: يا نضر، لحّنت أمير المؤمنين!
قلت: كلّا، ولكن هشيم لحّانة.
فأمر لي بثلاثين ألفا. فخرجت إلى منزلي بثمانين ألفا.
*** وقال لي الفضل: يا نضر، حدّثني عن الخليل ابن أحمد.
قلت: حدّثني الخليل بن أحمد قال: [130 أ] أتيت أبا ربيعة الأعرابيّ، وكان من أعلم من رأيت، وكان على سطح. فلمّا رأيناه أشرنا إليه بالسلام، فقال:«استووا! » فلم ندر ما قال. فقال لنا شيخ عنده: يقول لكم: «ارتفعوا» (فقال الخليل: ) من قول الله عز وجل: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصّلت: 11]. ثم قال: هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟
فلمّا فارقناه قال: سلاما.
قلنا: فسّر قولك هذا.
فقال: متاركة لا خير ولا شرّ. (فقال الخليل: ) هذا مثل قول الله عز وجل: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63]، أيّ:
متاركة.
*** وقال محمد بن زياد الأعرابيّ: بعث إليّ المأمون فصرت إليه وهو في بستان يمشي مع يحيى بن أكثم، فرأيتهما مولّيين فجلست فلمّا أقبلا قمت فسلّمت عليه بالخلافة. فسمعته يقول ليحيى:«يا أبا محمّد، ما أحسن أدبه! رآنا مولّيين فجلس، ثم رآنا مقبلين فقام» . ثم ردّ عليّ السلام وقال: يا أبا محمّد، أخبرني عن أحسن ما قيل في الشراب.
قلت: يا أمير المؤمنين، قوله [الطويل]:
تريك القذى من دونها وهي دونه
…
إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق
فقال: أشعر منه الذي يقول- يعني أبا نواس [الرمل]:
فتمشّت في مفاصلهم
…
كتمشّي البرء في السقم
فعلت في البيت إذ مزجت
…
مثل فعل الصبح في الظلم
واهتدى ساري الظلام بها
…
كاهتداء السّفر بالعلم
فقلت: فائدة يا أمير المؤمنين!
فقال: أخبرني عن قول هند بنت عتبة [الرجز]:
نحن بنات طارق
…
نمشي على النمارق
من طارق هذا؟
فنظرت في نسبها فلم أجده. فقلت: يا أمير المؤمنين، ما أعرف في نسبها طارقا.
فقال: إنّما أرادت النجم، وانتسبت إليه لحسنها، من قول الله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ [الطارق: 1].
فقلت: فائدتان، يا أمير المؤمنين.
فقال: «أنا بؤبؤ هذا الأمر وابن بؤبؤه! » ثمّ رمى