الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شبيب بن السّكون بن أشرس، الكنديّ، أبو معاوية، ابن أبي نعيم.
سكن هو وأبوه مصر. وروى عن عبد الله بن عمر، وأبي بصرة كميل بن يزيد الغفاري، وأبيه معاوية بن حديج، وعبد الله بن عمرو.
وروى عنه يزيد بن أبي حبيب، وعقبة بن مسلم، وواهب بن عبد الله المعافريّ، والحسن بن ثوبان وجماعة.
خرّج له البخاري في كتاب الأدب المفرد.
وجعله عبد العزيز بن مروان أمير مصر على الشرط في أوّل سنة ستّ وثمانين عوضا عن يونس بن عطيّة بن يونس الحضرميّ. ثم جمع له معالشرطة القضاء في ربيع الأوّل منها، فنظر فيهما جميعا. ونظر في أموال اليتامى، وضمّن عريف كلّ قوم أموال يتامى تلك القبيلة، وكتب بذلك كتابا، وكان أوّل قاض نظر في أموال اليتامى. وجرى الأمر بعده على ذلك. فلمّا مات عبد العزيز بن مروان وقدم عبد الله بن عبد الملك بن مروان أميرا على مصر، أقرّه على القضاء والشرط. وأراد عزله فلم يجد عليه مقالا ولا متعلّقا، فولّاه مرابطة الإسكندريّة في شهر رمضان، فكانت ولايته ستّة أشهر.
وتوفّي عبد الملك بن مروان، وبويع بعده ابنه الوليد بن عبد الملك، فخرج عبد الرحمن ببيعة أهل مصر وافدا إليه، وعاد إلى مصر. فلمّا ولي قرّة بن شريك إمارة مصر استخلفه عند ما خرج إلى الاسكندريّة على الفسطاط (1).
وتوفّي سنة خمس وتسعين.
1470 - عبد الرحمن الداخل [[113 - 171]]
[113 - 171](1*)
[53 أ] عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو المطرّف (2*)، (الأمير) الأمويّ الداخل إلى الأندلس. يقال له صقر قريش.
كان أبوه معاوية وليّ عهد أبيه هشام بن عبد الملك، وقاد إلى الروم خمس عشرة صائفة، ومات في حياة أبيه سنة ثماني عشرة- وقيل اثنتين وعشرين- ومائة، وعمره إحدى وعشرون سنة.
وترك من الأولاد عبد الرحمن ويحيى شقيقه، وأبان، وعبيد الله، وهشاما، والمنذر، وعبدة، وأمّ الأصبغ.
وولد عبد الرحمن سنة ثلاث عشرة ومائة بدير حنيناء (3*) من عمل دمشق- وقيل بالعلياء من عمل تدمر- وأمّه أمّ ولد اسمها راح، بربريّة.
فدخل يوما على جدّه هشام بن عبد الملك، وعنده أخوه مسلمة بن عبد الملك، وكان حينئذ عبد الرحمن صبيّا. فأمر هشام أن ينحّى عنه، فقال له مسلمة: دعه يا أمير المؤمنين، وضمّه إليه، ثمّ قال: يا أمير المؤمنين هذا صاحب بني أميّة، ووزرهم عند زوال دولتهم، فاستوص به خيرا! (قال عبد الرحمن): فلم أزل أعرف من جدّي مزيّة بعد ذلك.
(1) في سنة 91 (الكندي، )64.
(1*) في المخطوط ميّزت الترجمة بعنوان أحمر: خليفة الأندلس الأمويّ. وانظر نفح الطيب 1/ 327 - البيان المغرب 2/ 40 - دائرة المعارف الإسلاميّة 1/ 84.
(2*) كنيته أيضا: أبو سليمان، وأبو زيد (نهاية الأرب 23/ 334 - الكامل 5/ 83).
(3*) من أعمال دمشق (ياقوت) - وفي البيان المغرب 2/ 47:
دير حسينة.
وما زال عبد الرحمن بالشّام إلى أن ظهرت الدولة العبّاسية، وقتل من قتل من بني أميّة، وفرّ من نجا منهم، وكان عبد الرحمن بذات الزيتون (1) ففرّ منها إلى فلسطين فقدمها آخر سنة ستّ وثلاثين. وقيل إنّه عبر الفرات يشقّها عوما بذراعيه، ثمّ قطع الفلاة بمفرده. وأقام هو ومولاه بدر يتجسّس الأخبار. فحكي عنه أنه قال: لمّا أعطينا الأمان، ثم نكث بنا بنهر أبي فطرس (2) وأبيحت دماؤنا، أتاني الخبر- وكنت منتبذا عن الناس- فرجعت إلى منزلي آيسا، ونظرت فيما يصلحني وأهلي، وخرجت خائفا حتى صرت إلى قرية على الفرات ذات شجر وغياض. فبينا أنا ذات يوم بها، وولدي سليمان يلعب بين يديّ- وهو يومئذ ابن أربع سنين- فخرج عنّي ثم دخل من باب البيت باكيا فزعا فتعلّق بي. وجعلت أدفعه وهو يتعلّق بي. فخرجت لأنظر، وإذا بالخوف قد نزل بالقرية، وإذا بالرايات السود منحطّة عليها، وأخ لي حدث السنّ يقول لي: النجاة! فهذه رايات المسوّدة.
فأخذت دنانير معي ونجوت بنفسي وأخي، وأعلمت أخواتي بمتوجّهي وأمرتهنّ أن يلحقنني مولاي بدرا. وأحاطت الخيل بالقرية فلم يجدوا لي أثرا. فأتيت رجلا من معارفي وأمرته فاشترى لي دوابّ وما يصلحني. فدلّ عليّ عبد له العامل فأقبل في خيله يطلبني، فخرجنا على أرجلنا هرابا والخيل تبصرنا فدخلنا في بساتين على الفرات فسبقنا الخيل إلى الفرات فسبحنا. أمّا أنا فنجوت،
والخيل ينادوننا بالأمان ولا أرجع. وأمّا أخي فإنّه عجز عن السباحة [53 ب] في نصف الفرات فرجع إليهم بالأمان فأخذوه فقتلوه وأنا انظر إليه، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فاحتملت فيه ثكلا آخر.
ومضيت لوجهي فتواريت في غيضة أشبة حتى انقطع الطلب عنّي وخرجت فقصدت المغرب.
وقدم مصر ثم صار منها إلى أرض برقة فأقام بها خمس سنين. ثم رحل من برقة يريد الأندلس.
ثم إنّ أخته أمّ الأصبغ بعثت إليه مولاه أبا الغصن بدرا، ومعه نفقة له وجوهر. فبلغ عبد الرحمن إفريقيّة، وعليها عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري متولّي إفريقيّة من قبل مروان. فظنّ عبد الرحمن أنّه يرعاه ويحسن مجاورته. فلمّا علم ابن حبيب بقتل مروان كتب إلى أبي العبّاس السفّاح بالسّمع والطّاعة، وأراد قتل عبد الرحمن بن معاوية تقرّبا إلى بني العبّاس. فهرب منه إلى مكناسة من قبائل البربر فلقي عندهم شدّة. ثم هرب من عندهم فأتى نفزاوة وهم أخواله- لأنّ أمّه كانت بربرية منهم سبيت في غزاة إفريقيّة- ومعه مولاه بدر. فأحسنوا إليه. فاطمأن فيهم وأخذ في التدبير ومكاتبة أهل الأندلس من موالي بني أميّة يعلمهم بقدومه ويدعوهم إلى نفسه. ووجّه مولاه بدرا إليهم.
وكان أمير الأندلس إذ ذاك أبو زيد يوسف بن عبد الرحمن بن أبي عبيدة بن نافع الفهري. فأخذ بدر يتجسّس عن الخبر، فرأى القوم وبأسهم، وكانوا يمانيّة ومضريّة يقتتلون على العصبيّة. فقال للمضريّة: لو وجدتم رجلا من أهل بيت الخلافة، أكنتم تبايعونه وتقومون به؟
فقالوا: وكيف لنا بذلك؟
فقال بدر: هذا عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك- ودعاهم إليه فأجابوه.
(1) الزيتونة عند ياقوت: موضع ببادية الشّام كان ينزله هشام بن عبد الملك قبل أن يعمّر الرصافة.
(2)
أبي فطرس: قرب الرملة، وبه أوقع عبد الله بن علي بن عبد الله بن العبّاس بالأمويّين فقتلهم سنة 132 (ياقوت 4/ 267 و 5/ 315، وانظر الكامل 4/ 362 أو 5/ 425 وقال المقريزي ج 3/ 463 ويعرف اليوم بالطواحين.
ووجّهوا إليه مركبا فيه تمّام بن علقمة وجماعة.
فوصلوا إليه وأبلغوه طاعتهم له، وأخذوه إلى الأندلس، فأرسى بالمنكّب (1) في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وثلاثين ومائة. فأتاه جمع من رؤسائهم من أهل إشبيلية. وكانت نفوس اليمن حنقة على الصميل بن حاتم الكلابيّ ويوسف الفهريّ، فأتوه أيضا وبايعوه.
فسار وجمعه يكثر حتى نزل إشبيليّة. ثم نهد إلى قرطبة، وكان يوسف غائبا بنواحي طليطلة.
فأتاه الخبر وهو عائد إلى قرطبة، وكان قد بلغه خبر عبد الرحمن فلم يعبأ به ولم يكترث. فلمّا قرب عبد الرحمن منه تراسلا في الصلح، فخادعه يومين أحدهما يوم عرفة. فاطمأنّ أصحاب يوسف، ثقة منهم بأنّ الصلح قد انبرم. وأقبل يوسف يهيّئ الطّعام ليأكله الناس على سماطه يوم الأضحى، وعبد الرحمن يرتّب خيله ورجله.
وعبر النّهر ليلا في أصحابه، فنشب القتال ليلة الأضحى وصبر الفريقان إلى أن ارتفع النّهار، وقد ركب عبد الرحمن بغلا يري الناس أنّه يثبت ولا يفرّ. فسكنت قلوب أصحابه واشتدّ قتالهم فانهزم يوسف، وبقي الصميل فقاتل في عصبة من عشيرته ثم انهزموا [54 أ]. فمضى يوسف إلى ماردة. وأتى عبد الرحمن قرطبة فدخلها من يوم الجمعة عاشر ذي الحجّة يوم النحر سنة ثمان- وقيل تسع- وثلاثين ومائة، والناس في المصلّى يصلّون العيد.
وأخرج حشم يوسف وأهله من القصر ودخله بعد ذلك.
وشبّهت واقعة عبد الرحمن بيوم مرج راهط (1*)، فإنّها كانت يوم عيد النّحر وكانت بين أمويّ وفهريّ، وكان على مقدّمة مروان حسّان بن بجدل الكلبي. وكذلك كانت هذه يوم الأضحى وهي بين أمويّ وفهريّ، وكان على مقدّمة عبد الرحمن حسّان بن مالك الكلبيّ. وكانت سنّ عبد الرحمن يومئذ تسعا وعشرين سنة.
ثم سار (عبد الرحمن) في طلب يوسف. فلمّا أحسّ به يوسف خالفه إلى قرطبة وأخذها وملك قصرها واحتوى على جميع أهله وماله، وأسر أبا عثمان جعدة صاحب الأرض، وهو يخلف عبد الرحمن على قرطبة، ولحق بمدينة إلبيرة وكان الصميل بمدينة شوذر (2*). فلما بلغ عبد الرحمنالخبر رجع إلى قرطبة طمعا في لحاق يوسف.
فلمّا لم يجده سار إلى إلبيرة، وقد قدم الصميل إليها واجتمع بيوسف وصارا في جمع كثير. وآل الصلح على أن ينزل يوسف بأمان هو ومن معه وأن يسكن مع عبد الرحمن بقرطبة، ويرهنه يوسف ابنيه أبا الأسود محمد وعبد الرحمن.
فسار يوسف مع عبد الرحمن ونزل معه بقرطبة. فلمّا استقرّ أمر عبد الرحمن بنى القصر بقرطبة، وبنى المسجد الجامع، وأنفق فيه ثمانين ألف دينار، وبنى مساجد الجماعات، وأتاه جماعة من أهل بيته.
وكان يدعو لأبي جعفر المنصور مدّة عشرة أشهر ثمّ قطع اسمه من الخطبة.
فلمّا كانت سنة أربعين- وقيل إحدى وأربعين-
(1) في المخطوط: بالمركب، وكذلك في نهاية الأرب 23/ 326. وفي الكامل 4/ 362 والبيان 2/ 44 والنفح 1/ 32: بالمنكب، بساحل المنكب. وفي معجم البلدان: المنكب: من أعمال إلبيرة، على أربعين ميلا من غرناطة. وفي تاريخ إسبانيا الإسلامية، 1/ 101 و 3/ 844: المنيكر Al -Munecar بين مالقة والمرية.
(1*) وقعة «مرج راهط» بين الضحّاك بين قيس الفهريّ ومروان بن الحكم سنة 65 هـ (انظر الكامل 5/ 328 تحت سنة 64).
(2*) شوذر: بين غرناطة وجيّان: (ياقوت، والكامل 4/ 363، ولم يذكرها النّويري).
نكث يوسف الفهريّ عهد عبد الرحمن، وصار إلى ماردة فاجتمع عليه عشرون ألفا، وقصد محاربة عبد الرحمن. فسار إليه من قرطبة.
فمضى يوسف إلى إشبيليّة، وعليها عبد الملك بن عمر بن مروان، فحاربه وهزمه (1) وقتل كثيرا من أصحابه، وبقي يوسف متردّدا في البلاد حتى قتله بعض أصحابه في شهر رجب سنة اثنتين وأربعين بنواحي طليطلة وحمل رأسه إلى عبد الرحمن.
فنصبه بقرطبة، وقتل ابنه أبا زيد عبد الرحمن بن يوسف الذي كان رهينة عنده ونصب رأسه مع رأس أبيه. وبقي أبو الأسود بن يوسف عنده رهينة.
وقبض على الصميل وسجنه حتى مات في سجنه.
ثم خرج العلاء بن مغيث (اليحصبيّ) من إفريقيّة في سنة ستّ وأربعين إلى باجة، ولبس السواد ودعا لبني العبّاس. فسار إليه عبد الرحمن ولقيه بنواحي إشبيلية وحاربه أيّاما حتى هزمه وقتل سبعة آلاف من أصحابه في المعركة، ثم قتل العلاء. وأمر بعض التجّار بحمل رءوس جماعة من مشاهيرهم إلى القيروان وإلقائها في السوق سرّا، ففعل ذلك. ثم حمل منها إلى مكّة عدّة فوصلت، وقد حجّ أبو جعفر المنصور، وكان مع الرءوس لواء أسود وكتاب كتبه المنصور [54 ب] للعلاء فأنكى بذلك المنصور.
وخرج أيضا سعيد اليحصبيّ المعروف بالمطريّ بمدينة لبلة غضبا للعلاء، فاجتمعت إليه اليمنيّة، وقصد إشبيلية وتغلّب عليها فكثر جمعه فبادره عبد الرحمن، وما زال يحاصره حتى قتل وقتل كثير ممّن كان معه، وعاد عبد الرحمن إلى قرطبة.
فخرج عليه عبد الله بن خراشة الأسدي بكورة جيّان، وأغار على قرطبة في جمع كثير. فندب
لقتاله جيشا فتفرّق جمعه، وطلب الأمان فأمّنه.
ثم خرج في سنة إحدى وخمسين بشرق الأندلس رجل من بربر مكناسة يقال له شقنا بن عبد الواحد، وادّعى أنّه من ولد عليّ بن أبي طالب، وتسمّى بعبد الله بن محمد ورفع نسبه إلى الحسين بن عليّ. فاجتمع عليه خلق كثير من البربر وعظم أمره. فخرج إليه عبد الرحمن، وكانت له معه أخبار وحروب إلى أن كانت سنة ستّ وخمسين، فخرج إليه لمحاربته فخرج أهل إشبيلية عن طاعته، فرجع وقد هاله ما سمع من اجتماعهم وكثرتهم. وقدم ابن عمّه عبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم فقاتل اليمانيّة وأهل إشبيلية، فلم تقم بعدها لليمانيّة قائمة. وعاد عبد الرحمن إلى قرطبة فقتل في سنة سبع وخمسين خلقا كثيرا ممّن كان من الخارجين عليه، ومال من حينئذ إلى اقتناء العبيد لما بلي به من غشّ العرب.
وثار عليه في سنة ستّين- وقيل إحدى وستين- عبد الرحمن بن حبيب الفهريّ المعروف بالصقلّيّ، وعبر إفريقيّة إلى الأندلس محاربا لهم ليدخلوا في طاعة الدولة العبّاسيّة، فلم يزل عبد الرحمن يدبّر عليه حتى اغتاله رجل من البربر فقتله وحمل رأسه إليه فأعطاه ألف دينار، وذلك سنة اثنتين وستّين.
ثم ثار أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفهريّ بالأندلس في سنة ثمان وستّين بعد ما فرّ من السجن بقرطبة إلى طليطلة، واجتمع عليه خلق كثير، وسار لحرب عبد الرحمن فلقيه واشتدّ القتال. ثم انهزم وقتل من أصحابه أربعة آلاف، وغرق في النهر كثير. ثمّ بقي يحارب عبد الرحمن إلى أن هلك سنة سبعين. فقام من بعده أخوه قاسم وجمع فقاتله عبد الرحمن حتى قتله بعد أن ظفر به.
(1) المهزوم هو يوسف الفهريّ. الكامل 4/ 364.
ولم يزل عبد الرحمن مظفّرا إلى أن توفّي يوم الثلاثاء لستّ بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين ومائة (1)، وهو ابن سبع وخمسين سنة وأربعة أشهر، بقرطبة، وصلّى عليه ابنه عبد الله وأخذ البيعة لأخيه هشام، وكان غائبا.
وقيل: مات وسنّه (
…
) وستّون سنة. وكانت إمارته ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأربعة عشر يوما، بعد ما قطع القفر، وركب البحر، ودخل بلدا أعجميّا وهو وحده فغلب عامله، ومصّر الأمصار وجنّد الأجناد ودوّن الدواوين وأقام ملكا بحسن تدبيره وشدّة شكيمته. فولي بعده ابنه هشام بن عبد الرحمن.
وكان أصهب خفيف العارضين طويل القامة نحيف الجسم [55 أ] سناطا (2) أعور، له ظفيرتان وبوجهه خال. وكان أخشم لا يشمّ شيئا (3).
وكان شديد البأس سريع الغضب سريع النهضة في طلب الخارجين عليه، لا يخلد إلى راحة، شديد الحذر.
وكان نقش خاتمه: بالله يثق عبد الرحمن وبه يعتصم (4). وكان فصيحا لسنا شاعرا حليما عالما حازما ورعا سخيّا جوادا، يكثر لبس البياض.
وكان يقاس بأبي جعفر المنصور في حزمه وشدّته وضبط المملكة. ووافقه في أشياء: منها أنّ كلّا منهما أمّه بربريّة. وكان الناس يقولون: ملك
الأرض ابنا بربريّة، يعنون عبد الرحمن والمنصور، وذلك أنّ أمّ المنصور سلامة البربريّة، وأمّ عبد الرحمن راح البربريّة.
ومنها أنّ المنصور قتل ابن أخيه السفّاح، وقتل عبد الرحمن ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية.
وهو الذي بنى الرصافة بقرطبة تشبّها برصافة جدّه هشام بن عبد الملك بدمشق.
وكان عبد الرحمن لمّا سار يريد قرطبة في ابتداء أمره قيل له: «كيف تسير بلا لواء؟ » فأتى بقناة وأرادوا إمالتها ليعقد عليها، فأبى أن يميلها كراهة الطيرة وعمد إلى شجرتين بين زيتون متجاورتين فركز القناة بينهما ثم أطلع أبا عثمان فعقد اللواء على القناة وسار به فلم يزل هذا اللواء على تلك القناة عند خلفاء بني أميّة بالأندلس يتباركون به. وإذا أرادوا عقد لواء عقدوه على هذه القناة، إلى أن كانت آخر أيّام عبد الرحمن بن الحكم بن هشام، فأراد الوزراء عقد لواء فأحضروا القناة فإذا عليها عقدة خلقة فلم يدروا ما هي فأنفوا منها وألقوها عن القناة. فبلغ ذلك شيخ الوزراء الوزير جهور بن يوسف فشقّ عليه فعلهم وقال:
إنّما تركت للتبرّك بها- وتطلّبها فلم توجد. ومن حينئذ دخل الوهن في مملكة بني أميّة حتى زالت وانقرضت.
والأمير عبد الرحمن أوّل من رتّب الحجابة بالأندلس. وكان حاجبه تمّام بن علقمة. ولم يكن له وزير وإنّما كان له أهل مشورة.
وكان على قضائه يحيى بن يزيد التّجيبي ثم معاوية بن صالح الحضرميّ وعمر بن شراحيل، وعبد الرحمن بن طريف اليحصبيّ.
وقصده رجل فمثل بين يديه يستجديه وقال: يا
(1)(وقيل في غرّة جمادى الأولى سنة 172 - وهو الصحيح-). النّويري 23/ 350. وكذلك الكامل 5/ 83.
(2)
سناط بالضمّ والكسر وسنوط: لا لحية له. وسنط الرجل على وزن كرم وفرح.
(3)
هذه الأوصاف الجسمانيّة لا توجد في الكامل ولا في نهاية الأرب، ولكنّ المقريّ ذكرها نفح 3/ 85 أو 1/ 332.
(4)
في البيان، 2/ 64: عبد الرحمن بقضاء الله راض.
ابن الخلائف الراشدين والسادات الأكرمين، إليك فررت وبك عذت من زمن ظلوم ودهر غشوم قلّل المال وشعّت الحال وصيّر إلي نداك المآل. فأنت وليّ الحمد وربّي المجد المرجوّ للرّفد.
فقال له مسرعا: قد سمعنا مقالتك وقضينا حاجتك وأمرنا بعونك على دهرك، على كرهنا لسوء مقالك. فلا تعودنّ- ولا سواك- لمثله من إراقة ماء [55 ب] وجهك بتصريح المسألة والإلحاف في الطلبة. وإذا ألمّ بك خطب أو حزبك أمر فارفع إلينا في رقعة كيما تستر عليك خللك وتكفّ شماتة العدوّ عنك بعد رفعها إلى مالكنا ومالكك عزّ وجهه بإخلاص الدعاء وحسن النيّة.
وأمر له بجائزة حسنة. فخرج الناس يعجبون من حسن منطقه. وكان معاوية بن صالح يتناوب خطّة القضاء للأمير عبد الرحمن هو وعبد الرحمن بن طريف على قرطبة، فأبطأت على معاوية في بعض السّنين فقلق وكتب إلى الأمير يستعيدها ويذكّره وجوبها، فلهي عنه، وأمضي ابن طريف على حاله. فأعاد معاوية الكتاب إليه، فعاتبه الأمير عبد الرحمن وقال: مثلك يستحثّ في عمل طالما لاذ الصالحون منه وفرّوا عنه.
فكان من عذره: فإن كنت سألتك الولاية فقد سألها من كان ظلّه في الأرض خيرا منّي، وذاك يوسف النبيّ صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى عنه: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف، 55].
وكان ابن طريف عادلا صالحا ورعا، إذا شغل عن القضاء يوما لم يأخذ لذلك اليوم أجرا.
ومن شعر الأمير عبد الرحمن، وقد رأى نخلة بالأندلس في الرصافة التي بناها فقال [الطويل]:
تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة
…
تناءت بأرض الغرب عن بلد النّخل
فقلت: شبيهي في التغرّب والنوى
…
وطول اكتئابي عن بنيّ وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
…
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها اللذي
…
يسحّ ويستمري السماكين بالوبل
ويذكر أنّه نزل وهو متوجّه في مبدإ أمره بقوم يقال لهم بنو ماسين فأقام عندهم وقال للّذي كان عنده: إن سمعت بأوّل وال ولي الأندلس فارحل إليه-. فلمّا تمّ أمره أتاه الرجل فأقام ببابه مدّة لا يصل إليه حتى ركب عبد الرحمن ذات يوم، فعرض له من بعد، فعرفه ووكّل به من أحضره عنده. وسأله عن أهله وعياله وأمره بطلب ما يريد. فقال: تهب لي غلاما وجارية يرعيان علينا.
فقال: نعطيك عشرة من الغلمان وعشرا من الجواري!
ثمّ أنزله وأكرمه وبعث في إحضار أهله فلم يشعر البربريّ إلّا بأهله وولده وجميع حشمه عنده، فوسّع عليهم عبد الرحمن وغمرهم بفضله.
وكان أبو جعفر المنصور يثني على عبد الرحمن ويقول: ذاك صقر قريش [56 أ] دخل المغرب، وقد قتل قومه، فلم يزل يضرب العدنانيّة بالقحطانيّة، ويكبس القحطانيّة بالعدنانيّة حتى ملك.
وكان يدعو لأبي جعفر على المنابر حتى قدم عليه عبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم.
فلمّا حضر معه الجمعة وسمع الدعاء لأبي جعفر، أنكره. وقال: إنّ من الحلم لجهلا! وأي هوادة بيننا وبين هؤلاء؟ عدوا علينا فلم يرقبوا فينا إلّا ولا ذمّة واستحلّوا منّا كلّ حرمة وأخرجونا من أرض