الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الميرة من الفرات ودجلة- فاختطّ المدينة وفرغ من أساسها. فإنّه لنائم في يوم صائف إذ أقبل سليمان بن مجالد، وسليم المكّي فاستأذنا عليه.
فدخل الربيع فاحتال له حتى استيقظ. ودخلا عليه ومعهما كتاب صغير من محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ يخبر فيه بخروج محمد بن عبد الله. فقال المنصور: يكتب إلى مصر الساعة أن تقطع الميرة عن أهل الحرمين، فإنّهم في مثل الحرجة إذا لم تأتهم الميرة من مصر. وأمر أن يكتب إلى العبّاس بن محمد أخيه، وهو على الجزيرة، أن يمدّه بمن قدر عليه، ولو أن يبعث إليه في كلّ يوم رجلا واحدا، لينكسر بهم أهل خراسان، فإنّه لا يؤمن فسادهم مع دالّتهم.
ونادى بالرحيل من ساعته، فخرج في حرّ شديد حتى عسكر بنهر صرصر وصلّى العصر هناك.
وأتى الكوفة وعسكر وخندق عليه. ودعا بعيسى بن موسى فقال له: إمّا أن تخرج وأقيم فأمدّك، وإمّا أن أخرج فتقيم وتمدّني.
فقال: بل أقيك بنفسي وأكفيك هذا الوجه إن شاء الله.
فشخص. وخرج إبراهيم في عقيب خروج أخيه محمد، فجمع المنصور ولد أبيه فقال: ما تقولون وما ترون؟
قالوا: توجّه إليه موسى بن عيسى.
فقال: والله يا ولد عليّ ما أنصفتم! وجّهت أباه وأوجّهه فأكون قد وجّهت من ولد محمد بن عليّ رجلين؟
فقالوا: توجّه عبد الله بن عليّ وتصطنعه.
فقال: أنصب عليّ حربا أخرى. إن خافني مالأ عدوّي عليّ، وإن ظفر أعاد الحرب بيني وبينه.
وقد سمعتكم تذكرون أنّ له أربعة آلاف مولى يموتون تحت ركابه. فأيّ رأي هذا؟ والله لو دخل عليّ إبراهيم بسيف مسلول لكان آمن عندي من عبد الله بن عليّ!
فلما قتل إبراهيم بن عبد الله وبعث عيسى بن موسى برأسه، أمر المنصور أن يطاف به بالكوفة.
ثم خطب بها فقال: يا أهل الكوفة، عليكم لعنة الله وعلى بلد أنتم فيه! والله للعجب لبني أميّة وصبرهم [109 أ] عليكم! كيف لم يقتلوا مقاتلتكم ويسبوا ذراريّكم ويخربوا منازلكم؟ سبائيّة خشبيّة! قائل يقول: جاءت الملائكة، وقائل يقول: جاء جبريل وهو يقول: أقدم حيزوم! عمدتم إلى أهل هذا البيت وطاعتهم حسنة فأفسدتموهم وأنغلتموهم (1*).
فالحمد لله الذي جعل دائرة السوء عليكم! أما والله يا أهل المدرة الخبيثة، لئن بقيت لكم لأذلّنّكم!
ولمّا أتمّ بناء مدينة بغداد ونزلها في سنة ستّ وأربعين ومائة بنى الخلد، وهو قصر على دجلة سنة سبع وخمسين، فتولّى ناحية منه الربيع، وناحية أبان بن صدقة. فكان المنصور يعاقب من سمّاه الخلد ويقول: الدنيا دار فناء وإنّما الخلد في الجنّة.
وكان من خبر بناء بغداد [
…
] (2*).
[وصيّته للمهديّ]
…
ولمّا أراد الحجّ في السنة التي توفّي فيها أتى قصر عبدويه فأقام به. ثمّ دعا بابنه المهديّ فقال له: يا أبا عبد الله، اقرأ هذا الكتاب واعمل بما فيه!
فإذا فيه: أوصيك بتقوى الله ومراقبته. وعليك بإكرام أهل بيتك وإعطائهم، ولا سيّما من صلحت طريقته وظهر ستره وحسنت مودّته منهم، فإنّ
(1*) أنغلتموهم: أفسدتموهم.
(2*) انقطاع في الخبر دون علاقة بالورقة الموالية.
أقرب الوسائل المودّة وأبعد النسب البغضاء.
وانظر أهل الجزالة والفضل والعقل منهم فشرّفهم وأوطئ الرجال أعقابهم فإنّه لا يزال لأمر القوم نظام ما كانت لهم أعلام. وأجزل لهم العطاء ووسّع عليهم في الأرزاق، فإنّ أكثر الناس مؤونة أعظمهم مروءة. ثمّ ليكن معروفك لغيرهم بعدهم، فإنّ الصلة تديم الألفة وصنهم ينبلوا ولا تبتذلهم فيخلقوا. واعلم أنّ رضا الناس غاية لا تدرك، فتحبّب إليهم بالإحسان جهدك، وتثبّت فيما يرد من أمورهم عليك ووكّل همومك بأمورك وتفقّد الصغير بفقدك الكبير. وخذ أهبة الأمر قبل حلوله، فإنّ ثمرة التواني الإضاعة. وكن عند رأس كلّ أمر لا عند ذنبه، فإنّ المستقبل لأمره سابق والمستدبر مسبوق. وولّ أمورك الفاضل يكن مستعليا، ولا تولّ المفضول فإنّه مزر باختيارك.
وانظر الأموال فإنّها عدّة الملوك وبها السلطان ونظام التدبير. فوفّرها بولاية أهل العفاف عنها والحيطة عليها، ولا تبتذلها إلّا في إصلاح أمور السلطان والرعيّة، وثواب أهل الطاعة والنصيحة.
وأحسن إلى نصحائك واستدم مودّتهم ومحبّتهم بجميل التعهّد لهم والتفقّد لأمورهم. ولا تعط عطيّة تبطر الخاصّ وتؤسف العامّ، واجعل لكلّ إليك حاجة، واجعل لهم من فضلك مادّة. واسمع من أهل التجارب، ولا تردّنّ على ذوي الرأي.
وعوّد نفسك الصبر على التعب في إصلاح الرعيّة، وترك الهوينا والدّعة. واعلم أنّ ذهاب السلطان يؤتى من ثلاثة أمور: قلّة الحزم، وضعف العزم، وفقد صالحي الأعوان، وأنّ ثباته بأربع خلال:
المعرفة، وحسن التخيّر، وإمضاء الاختيار، وتنكّب أهل الحرص، فإنّ الحريص يبيعك باليسير من حظّه، وشره الوزراء أضرّ الأعداء. ومن خانك كذبك ومن كذبك غشّك.
واعلم أنّ مادّة الرأي المشاورة فاختر [110 ب] لمشاورتك أهل اللبّ والرأي والصدق وكتمان السرّ. وكافئ بالحسنة وتجاوز عن السيّئة ما لم يكن في ذلك ثلم دين ولا وهن سلطان. ودع الانتقام فإنّه أسوأ أفعال القادر. وقد استغنى عن الحقد من عظم عن المجازاة وعاقب بقدر الذنب.
واعف عن الخطإ وأقل العثرات من أهل الحرمة والبلاء.
وعليك ببلاد نعمتك ومواليك من أهل خراسان وغيرها من الآفاق، فإنّهم أنصح الناس وأشدّهم سعيا في بقاء دولتك، فإنّما عزّهم بعزّك.
وتجنّب دقيق أخلاق أهل العراق، فإنّهم نشئوا على الخبّ ومذموم الأخلاق. وإذا اطّلعت من أحد من خاصّتك وأهل نعمتك على هوى مفسد لنصيحتك فلا تقله عثرة ولا ترع له حرمة ودع الاغترار به، فإنّك إن اغتررت به كنت كمدخل الحيّة دون شعاره، إن شاء الله.
فلمّا قرأ الكتاب، قال: أفهمت يا بنيّ؟
قال: نعم.
قال: فاتّخذه لك إماما ومثالا.
ثم قال: استودعك الله يا بنيّ، وأنشد [الكامل]:
المرء يأمل أن يعي
…
ش، وطول عيش ما يضرّه
تبلى بشاشته ويب
…
قى بعد طول العيش مرّه
وتخونه الأيّام ح
…
تّى لا يرى شيئا يسرّه
كم شامت بي إن هل
…
كت وقائل: لله درّه!
ثم ودّع المهديّ وقال: يا أبا عبد الله، إنّي ولدت في ذي الحجّة ووليت الخلافة في ذي