الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعزمنا على الغارة عليها. فركبت فرسي أنا ومالك بن عامر وطردنا لكلاب مائة ناقة حتّى ألقيناها بالطائف فبعناها. فأرسل كلاب إلى قريش:
إنّ سفيهكم أغار عليّ وطرد لي مائة ناقة. فليس لكم أن تشهدوا سوق عكاظ، ولي لديكم وبرة- وكان سوق عكاظ في وسط أرض قيس بن عيلان.
وائتمرت قريش على قتلي لئلّا أجرّ إليهم الجرائر فيطلبوا (1) بسببي وهم تجّار لا يستغنون عن الضرب في البلدان. فلمّا أتيت من الطائف إلى منزلي قال لي أهلي: إنّ قريشا ائتمروا على قتلك، فانج بنفسك!
فأخذت زادا ومزادة، وخرجت هاربا مع الصباح إلى دوحة الزيتون. فلم أزل أطلب موضعا أختفي فيه، والقوم في أثري يطلبونني حتّى أتيت إلى حجرين بينهما خلل يدخل فيه النحيف متجانفا. فتجانفت في ذلك المكان من ذلك الخلل ودخلت ومعي زادي. فطال عليّ السرب ورأيت أنّ موتيفيه أحبّ إليّ من أن يقتلني قومي فيشمت بي عدوّي، ويحزن عليّ حبيبي، ويصير لقومي ذحل في قريش يخرجون به منهم. فسرت ملحجا (2) في السرب حتّى بلغت دارا عظيمة فيها بيت، وفي وسط البيت جوهر ودرّ وياقوت ولجين وعقيان. وفيه أربعة أسرّة، على كلّ سرير رجل قاعد، وعلى رأسه لوح من رخام مكتوب بالمسند (3). فقرأت الألواح فأصبت فيها أنّ أهل الألواح عمرو بن مضاض، والحرث بن مضاض، وعبد الميح بن بقيلة، وبقيلة (4) بن عبد المدان.
فأقمت خمسة [192 أ] أيّام في ذلك البيت آكل من
زادي وأشرب من مزادتي حتّى يئست قريش منّي.
فخرجت فلم أجد أحدا في الغيضة. فأخرجت ما أصبت من المال وأخذت الألواح خيفة من قريش لتكون لي عندهم حجّة وبراءة.
ثمّ أتيت منزلي فأخذت جملا وسرت ليلا، فإذا أنا بسيّارة يريدون مدينة مصر. فسرت معهم لا يدرون من أنا ولا ما معي حتّى بلغت مصر. فبعت ما معي فأصبت مالا جزيلا ورجعت. فنزلت ينبع على مالك البرّاض فقصصت عليه قصّتي مع قريش فقال: هاك خمسين ناقة.
فسقتها أنا وهو حتّى أتينا كلابا، فأرسلنا إلى ابنه جعفر بن كلاب فدفعنا إليه الخمسين من النوق. ثم تبعنا كلاب في بنيه وهو شيخ كبير ثمّ سرنا إلى سوق عكاظ، وأرسل إلى قريش فشهدوا عكاظ، وانصرفت معهم إلى مكّة.
فلمّا ظهر بعض مالي وثبوا عليّ وقالوا:
غدرت!
فأعلمتهم بما كان من حديث المغارة وأخرجت لهم الألواح فأرسلوا معي خويلد بن أسد بن عبد العزّى، ووهب بن زهرة بن عبد مناف، فسارا معي حتّى دخلت ودخلا معي وعاينّا الأشباح فقالا لي: ردّ الألواح!
فرددت كلّ لوح إلى مكانه وخرجنا. وأخذنا حجرا عظيما سددنا به باب الخلل لئلّا تكون المغارة ملعبا للسّفهاء.
[سبب حلف الفضول]
وفي دار عبد الله بن جدعان كان حلف الفضول. وقد اختلف في سبب حلف الفضول.
فعن أبي عبيدة قال: كان سبب حلف الفضول أنّ رجلا من أهل اليمن قدم مكّة ببضاعة فاشتراها رجل من بني سهم. فلوى الرجل بحقّه فسأله
(1) في المخطوط: فيطلبون.
(2)
ملحجا: أي متجانفا.
(3)
المسند: خطّ القوم الأوائل كفراعنة مصر أو عاربة حمير.
(4)
عند الآلوسي 1/ 88: نفيلة.
متاعه فأبى عليه فقام في الحجر فقال: يا للرجل المظلوم بضاعته! [البسيط]:
يا لقصيّ لمظلوم بضاعته
…
ببطن مكّة نائي الدار والنفر (1)
وأشعث محرم لم تقض حرمته
…
بين المقام وبين الركن والحجر
أقائم في بني سهم يذمّهم
…
أم ذاهب في ضلال مال معتمر؟
إنّ الحرام لمن تمّت كرامته
…
ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
(قال) وقال بعض العلماء: إنّ قيس بن شيبة السلميّ باع متاعا من أميّة بن خلف فلواه وذهب بحقّه فاستجار برجل من بني جمح فلم يقوموا بجواره فقال [الرجز]:
يال قصيّ كيف هذا في الحرم
…
وحرمة البيت وأعلاق الكرم
أظلم لا يمنع منّي من ظلم
(قال) وبلغ الخبر عبّاس بن مرداس فقال [192 ب][البسيط](2):
إن كان جارك لم تنفعك ذمّته
…
وقد شربت بكأس العلّ أنفاسا
فأت البيوت وكن من أهلها صدرا
…
لا تلق ناديهم فحشا ولا بأسا
وثمّ كن بفناء البيت معتصما
…
تلق ابن حرب وتلق المرء عبّاسا
قومي قريش وأحلافي ذؤابتها
…
بالمجد والحزم ما حلّا وما ساسا
ساقي الحجيج وهذا [ ..... ]
…
والمجد يورث أخماسا وأسداسا
فقام العبّاس بن مرداس وأبو سفيان بن حرب حتّى ردّا عليه متاعه. واجتمعت بطون قريش فتحالفوا على ردّ الظالم بمكّة، وألّا يظلم أحد بمكّة إلّا منعوه وأخذوا له حقّه. وكان حلفهم في دار عبد الله بن جدعان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
شهدت حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحبّ أنّ لي [به] حمر النّعم، ولو دعيت له لأجبت.
وقال قوم من قريش: هذا والله أفضل الحلف، فسمّي حلف الفضول.
(قال) وقال آخرون: تحالفوا على مثل حلف تحالف عليه قوم من جرهم في هذا الأمر لا يقرّون ظالما بمكّة إلّا غيّروه، وأسماؤهم:
الفضل بن شراعة،
والفضل بن قضاعة،
والفضل بن سماعة.
وعن محمّد بن شهاب الزهريّ قال: كان شأن حلف الفضول أنّ رجلا من بني زيد قدم مكّة معتمرا في الجاهليّة، ومعه تجارة له، فاشتراها منه رجل من بني سهم فآواها إلى بيته. ثمّ إنّه تغيّب فابتغى الزيديّ متاعه فلم يقدر عليه. فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه فأغلظوا له، فعرف أن لا سبيل إلى ماله، فطوّف في قبائل قريش يستعين بهم، فتخاذلت القبائل عنه. فلمّا رأى ذلك أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها في المسجد الحرام وقال: يا آل فهر لمظلوم بضاعته
…
الأبيات الثلاثة. فلمّا نزل أعظمت قريش ذلك فتكلّمت فيه فقال المطيّبون (1*): والله لئن قمنا ليغضبنّ الأحلاف.
(1) سيرة ابن هشام 1/ 133 هـ 1 - الروض الأنف 2/ 72: يا آل فهر.
(2)
انظر ديوان العبّاس بن مرداس تحقيق يحيى الجبوري ص ص 74 - 75 بغداد 1968.
(1*) المطيّبون: بنو عبد مناف، ومعهم بنو الحارث وبنو زهرة وبنو تيم بن مرّة وبنو أسد: غمسوا أيديهم في جفنة طيب فسمّوا بهذا الاسم (الروض الأنف 2/ 62).
وقالت الأحلاف (1): والله لئن تكلّمنا في هذا ليغضبنّ المطيّبون.
وقال ناس من قريش: تعالوا، وليكن حلفا فضولا دون المطيّبين ودون الأحلاف!
واجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاما
…
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معهم قبل أن يوحى إليه، وهو ابن خمس وعشرين سنة.
فاجتمعت بنو هاشم، وأسد، وزهرة، وتيم، وتحالفوا على أن لا يظلم بمكّة غريب ولا قريب، ولا حرّ ولا عبد، إلّا كانوا [193 أ] معه حتّى يأخذوا له حقّه، ويؤدّوا إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم، ثمّ عمدوا إلى ماء زمزم فجعلوه في جفنة فبعثوا به إلى البيت فغسلت منه أركانه ثمّ أتوا به فشربوه. (قال) فحدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول. [أ] ما لو دعيت إليه اليوم لأجبت، وما أحبّ لي به حمر النّعم، وأنّي نقضته!
(قال) وحدّثني عبد العزيز بن عمر العبسيّ أنّ الذي اشترى من الزيديّ المتاع العاصي بن وائل السهميّ. (قال) أهل حلف الفضول بنو [عبد] المطّلب، وبنو أسد بن عبد العزّى، وبنو زهرة، وبنو تيم. تحالفوا ألّا يظلم أحد بمكّة إلّا كنّا جميعا مع المظلوم على الظالم حتى نأخذ له مظلمته ممّن ظلم، شريفا كان أو وضيعا، منّا أو من غيرنا. ثمّ انطلقوا إلى العاصي بن وائل فقالوا له: لا نفارقك حتّى تؤدّي له حقّه.
فأعطى الرجل حقّه. فمكثوا كذلك لا يظلم أحد بمكّة إلّا أخذوا له حقّه. فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول: لو أنّ رجلا خرج من قومه، لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول- وليس عبد شمس في حلف الفضول (1*).
وعن هشام بن عروة عن أبيه أنّ بني هاشم وبني عبد المطّلب وأسد بن العزّى وتيم بن مرّة احتلفوا على أن لا يدعوا بمكّة كلّها ولا في الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلّا أجابوه حتى يردّوا إليه مظلمته ويبلغوا في ذلك عذرا، وعلى أن لا يتركوا لأحد عند أحد فضلا إلّا أخذوه، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- ولذلك سمّي حلف الفضول- فتحالفوا بالله: إنّا ليد على الظالم حتى نأخذ للمظلوم من الظالم ما بلّ بحر صوفة.
وعن محمد بن فضالة عن أبيه قال: لم يكن بنو أسد بن عبد العزّى في حلف الفضول.
وعن عيسى بن زيد بن خباب قال: أهل حلف الفضول بنو هاشم، وزهرة، وتيم.
قيل له: فهل لذلك شاهد من الشعر؟
قال: نعم. أنشدني بعض أهل العلم بقريش قول بعض الشعراء [البسيط/ الكامل: ]
تيم بن مرّة إن سألت وهاشم
…
وزهرة الخير في دار ابن جدعان
متحالفين على الندى ما غرّدت
…
ورقاء في فنن من جزع كتمان (2*)
وعن أبي عبيدة قال: تداعى بنو هاشم، وبنو [عبد] المطّلب، وبنو أسد بن عبد العزّى، وبنو
(1) الأحلاف: بنو عبد الدار، ومعهم بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عديّ. قال بعضهم [الخفيف]:
ولها في المطيّبين جدود
…
ثمّ نالت نوائب الأحلاف
(1*) انظر شرح نهج البلاغة 15/ 224.
(2*) حاشية في المخطوط: كتمان: واد بنجران. والبيتان مختلفا الوزن.