الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشأت تقول [الوافر]:
سأدعو دعوة المضطرّ ربّا
…
يثيب على الدعاء ويستجيب
لعلّ الله أن يكفيك حربا
…
ويجمعنا كما تهوى القلوب
فضمّها إلى صدره وأنشأ يقول متمثّلا [الطويل]:
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها
…
وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل
صبيحة قالت في العتاب: قتلتني
…
وقتلي بما قالت هناك تحاول
ثم قال لخادمه: يا مسرور احتفظ بها وأكرم محلّها وأصلح لها كلّ ما تحتاج إليه من المقاصير والخدم والجواري إلى وقت رجوعي. فلولا ما قال الأخطل حين يقول [البسيط]:
قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم
…
دون النساء ولو باتت باطهار
…
ثم خرج. فلم يزل يتعهّدها ويصلح ما أمر به حتى اعتلّت علّة شديدة أشفق عليها منها. فلمّا ورد نعي المأمون وبلغها ذلك تنفّست الصعداء، وتوفّيت بعد ما أنشدت [الكامل]:
إنّ الزمان سقانا من مرارته
…
بعد الحلاوة أنفاسا وأروانا
أبدى لنا تارة منه فأضحكنا
…
ثمّ انثنى تارة أخرى فأبكانا
إنّا إلى الله فيما لا يزال لنا
…
من القضاء ومن تلوين دنيانا
دنيا تراها ترينا من تصرّفها
…
ما لا يدوم مصافاة وأحزانا
ونحن فيها كأنّا لا يزايلنا
…
للعيش أحياؤنا يبكون موتانا
*** وقال أبو سعيد المخزومي [الخفيف]:
ما رأيت النجوم أغنت عن المأ
…
مون في عزّ ملكه المأسوس
خلّفوه بعرصتي طرسوس
…
مثلما خلّفوا أباه بطوس
*** وقال النديم: المأمون أعلم الفقهاء بالفقه والكلام. وكان دون محمد ابن زبيدة أخيه في الفصاحة.
[كتاب من تأليف المأمون]
وله من الكتب: كتاب جواب ملك البرغر فيما سأل عنه من أمور الإسلام والتوحيد، يحتوي على أكثر من مائة ورقة، لم يستعن فيه بأحد، ولا أورد فيه آية من كتاب الله، ولا كلمة من حكيم تقدّمه.
والمأمون أوّل من اتّخذ من الخلفاء الأتراك [139 أ] للخدمة. فكان يشتري الغلام من الأتراك بمائة ألف ومائتي ألف.
وكان يحبّ معرفة أخبار الناس، فاتّخذ برسم ذلك ألف عجوز وستّمائة عجوز يتعرّفن له أخبار الناس ببغداد، فلم يكن يخفى عليه من أمور الناس الظاهرة والباطنة كبير شيء، وكان لا ينام كلّ ليلة حتّى يسمع أخبار من تأتيه منهنّ.
[أولاد المأمون]
وكان للمأمون من الولد: محمد الأكبر، والعبّاس- قتله عمّه المعتصم- وأحمد، وهارون الأكبر، وعيسى، وهارون الأصغر، وإبراهيم، وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب، وعليّ، والحسن، والحسين، لأمّهات أولاد.
ومحمد الأصغر، وعبد الله، أمّهما أمّ عيسى بنت الهادي موسى.
وبنات: تزوّج إحداهنّ محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق ونقلها إلى المدينة، واسمها أمّ الفضل.
وأخرى تزوّجها الواثق هارون ابن أبي إسحاق محمد المعتصم ابن هارون الرشيد.
وأخرى تزوّجها المتوكّل جعفر بن أبي إسحاق محمد المعتصم.
*** وقال محمد بن الجهم البرمكيّ: قال لي المأمون يوما: يا محمد، أنشدني بيتا من المديح جيّدا فاخرا لمحدث حتّى أولّيك كورة تختارها.
قلت: قال عليّ بن الخليل في أمير المؤمنين المهديّ [الكامل]:
فمع السماء فروع نبعتهم
…
ومع الحضيض منابت الغرس
متهلّلون على أسرّتهم،
…
ولدى الهياج مصاعب الشّمس
فقال: أحسنت، قد ولّيتك الدينور. فأنشدني بيت هجاء على هذه الصفة حتى أولّيك كورة أخرى.
فقلت: قول الذي يقول [الكامل]:
قبحت مناظرهم فحين خبرتهم
…
حسنت مناظرهم لقبح المخبر
فقال: أحسنت، قد ولّيتك همذان، فأنشدني مرثية على هذا [الشرط] حتّى أزيدك كورة أخرى.
فأنشدته [الطويل]:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه
…
فطيب تراب القبر دلّ على القبر (1)
فقال: أحسنت، قد ولّيتك نهاوند. فأنشدني بيتا من الغزل على هذا الشرط حتّى أولّيك كورة أخرى.
فقلت: قول الذي يقول [الطويل]:
تعالي نجدّد دارس الوصل بيننا
…
كلانا على طول الجفاء ملوم
فقال: أحسنت. قد جعلت لك الخيار.
فاخترت السوس من كور الأهواز، فولّاني ذلك أجمع، ووجّهت إلى السوس بعض أقاربي.
*** وقال أبو حاتم الرازي: ولقد حضرت مجلس سليمان بن حرب ببغداد، فحزروا من حضر مجلسه أربعين ألف رجل. وكان مجلسه عند قصرالمأمون فبنى [139 ب] له شبه منبر. فصعد سليمان وحضر حوله جماعة من القوّاد عليهم السواد، والمأمون فوق قصره قد فتح باب القصر، وقد أرسل ستر شفّ وهو خلفه يكتب ما يملي.
فسئل أوّل شيء حديث حوشب بن عقيل، فلعلّه قد قال:«نا حوشب» أكثر من عشر مرّات وهم يقولون: «لا نسمع» . فقام مستمل ومستمليان وثلاثة، كلّ ذلك يقولون: «لا نسمع، حتى قالوا:
«ليس الرأي إلّا أن يحضر هارون المستملي» .
فذهب جماعة فأحضروه. فلمّا حضر قال من ذكرت: فإذا صوته خلاف الرعد فسكتوا، وقعد المستملون كلّهم. فاستملى هارون. وكان لا يسأل عن حديث إلّا حدّث من حفظه.
*** وكان القاضي يحيى بن أكثم قد غلب على المأمون، فشكا أبا الوليد بشر بن الوليد بن خالد الكندي قاضي مدينة المنصور، وقال للمأمون:
«إنّه لا ينفّذ قضائي» . فقعد المأمون على سريره
(1) العقد 5/ 381. والأبيات لصريع الغواني (ديوانه، 231).
وأقعد يحيى بن أكثم معه على السرير، ودعا بشر بن الوليد فقال له: ما ليحيى يشكوك، ويقول إنّك لا تنفّذ أحكامه؟
فقال: يا أمير المؤمنين، سألت عنه بخراسان فلم يحمد في بلده ولا في جواره.
فصاح به المأمون وقال: اخرج!
فخرج بشر. فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، قد سمعته فاصرفه!
فقال: ويحك! هذا لم يراقبني فيك. كيف أصرفه؟
فلم يفعل.
*** ودعا المأمون يوما إسحاق بن إبراهيم المصعبيّ، فصار إليه، ومعه المعتصم وعبد الله بن طاهر وسائر جلساته ومغنّيه. فلمّا جلس المأمون على شرابه غنّاه محمد بن الحرث بن يستجير [المنسرح]:
لو كان حولي بنو أميّة لم
…
ينطق رجال إذا هم نطقوا
فغضب المأمون وقال: «تغنّيني في وقت سروري وساعة طربي في شعر يمدح فيه أعدائي، وأنت مولاي وربيب نعمتي؟ » وأمر أحمد بن هشام صاحب الحرس بضرب عنقه، فأقامه ليمضي فيه ما أمره. فبادر عبد الله بن طاهر وشفع فيه فشفعه وأمر بردّه إلى المجلس وقال له: إيّاك ومعاودة مثل ما كان منك!
*** وكان المأمون يدين بتفضيل عليّ رضي الله عنه على جميع الصحابة. فتقدّم إلى القاضي يحيى بن أكثم بجمع العلماء للمناظرة في هذا. فجمع له منهم أربعين. فانتدب منهم واحد فقال: من أين قال أمير المؤمنين إنّ عليّا أفضل الناس بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم؟
فقال المأمون: خبّرني! بم يتفاضل الناس؟
قال: بالأعمال الصالحة.
فقال المأمون: فانظر ما رواه لك أصحابك من فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقس بها فضائل علي، ثم انظر فضائل أبي بكر وعمر، لا بل فضائل العشرة، فإنّك تجد فضائل عليّ أعظم [140 أ].
ثم قال: أيّ الأعمال كانت أفضل حين بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم؟
قال: التوحيد.
قال: هل علمت أحدا سبق إليه عليّا؟
فقال: إنّ عليّا أسلم حدث السنّ لا يجوز الحكم عليه.
قال: أجبني أيّهما أسلم قبل، ثمّ أناظرك على الحداثة والكمال.
قال: أسلم عليّ قبل أبي بكر (1*).
قال: فأخبرني عن إسلام عليّ: هل يخلو من أن يكون رسول الله دعاه إلى الإسلام، أو يكون إلهاما؟
فأطرق. فقال المأمون: لا تقل: إلهاما فتقدّمه على النبيّ. فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل.
فقال: دعاه رسول الله.
قال: فهل يخلو رسول الله من أن يكون دعاه بأمر الله أو تكلّف ذلك من قبل نفسه؟
فأطرق. فقال المأمون: لا تنسب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى
(1*) في الهامش حاشية: قال بعض الصحابة: لم يسلم أبو بكر أوّلا، ولكن كان أفضلنا إسلاما.
التكلّف. فإنّ الله قال: وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86].
قال: دعاه بأمر الله.
قال: فهل يأمر الله أن يدعى من لا يجوز عليه حكم؟ وكيف يدعو النبيّ الصبيان، وهم إن ارتدّوا لم يكن عليهم شيء؟
وإنّما هذه فضيلة فضّل الله بها عليّا حين دعاه النبيّ، ولم يبلغنا أنّه دعا الصبيان.
ثم قال المأمون: أيّ الأعمال كانت أفضل بعد الإسلام؟
قال: الجهاد.
قال: فهل تجد لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك مثل ما لعليّ؟ إنّ قتلى بدر من المشركين نيف وستّون رجلا قتل عليّ منهم ثلاثة وعشرين أو اثنين وعشرين.
قال المناظر: كان أبو بكر مع النبيّ في العريش.
قال المأمون: يصنع ماذا؟
قال: يدبّر.
قال: ويلك! دون النبيّ أو شريكا معه، أم افتقارا من النبيّ إلى رأيه؟
قال: أعوذ بالله أن يدبّر أبو بكر دون النبيّ أو يكون معه شريكا أو يفتقر النبيّ إلى رأيه.
قال: فما الفضيل بالعريش؟ أليس من ضرب بسيفه بين يدي النبيّ أفضل ممّن هو جالس؟
قال: يا أمير المؤمنين، كلّ الجيش كان مجاهدا.
قال: صدقت. ولكنّ المحامي أفضل من الجالس. أو ما كان لأبي بكر وعمر فضل على من لم يشهد ذلك المشهد؟
قال: نعم.
قال: فكذلك سبق الباذل نفسه أبا بكر وعمر.
يا هذا، فيمن نزل هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً إلى قوله: وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان:
1 -
8].
قال: في عليّ.
قال: هل وصف الله أحدا بمثل ما وصف به عليّا؟
قال: لا.
قال: صدقت، لأنّ الله علم سريرته. هل تروي يا هذا حديث الطير (1*)؟
قال: نعم.
قال: فمن علم أنّه صحيح، ثم زعم أنّ أحدا أفضل من عليّ لم يخل من أحد ثلاثة: أن تكون دعوة النبيّ مردودة. أو يقول إنّ الله علم الفاضل وكان المفضول أحبّ إليه. أو: لم يعلم الله الفاضل من المفضول.
قال: يا أمير المؤمنين إنّ لأبي بكر فضلا.
قال: وما هو؟
قال: قول الله ثانِيَ اثْنَيْنِ [140 أ] إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] فنسبه إلى صحبته.
فقال: قد نسب الله تعالى إلى صحبته من رضيه، ومن رضي عنه كافرا وهو قوله: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ [الكهف: 37].
قال: إنّ ذاك كان كافرا، وأبو بكر مؤمن.
(1*) في الحاشية: هذا الحديث يرويه أنس أنّ النبيّ كان عنده طائر، فقال: اللهمّ ائتيني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير- فجاء أبو بكر فردّه، وجاء عمر فردّه، ثمّ جاء عليّ فأذن له.