الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صعوبة الأمر فعذره القوم وخرجوا.
وألحّ عليه ابن عبّاس فو الله ما وجد بدّا من قضاء حاجتنا. فخرجنا حتّى دخلنا المسجد فإذا القوم فيه أندية. فصحت وأنا أسمعهم: إنّه والله كان أولاكم بها! إنّه والله صبابة النبوّة ووراثة أحمد صلى الله عليه وسلم، وتهذيب أعراقه، وانتزاع شبه طبائعه!
فقال القوم: أجمل! أجمل يا حسّان!
فقال له ابن عبّاس: صدقوا فأجمل!
فأنشأ حسّان يمدح ابن عبّاس فقال:
إذا ما ابن عبّاس بدا لك وجهه
…
رأيت له في كلّ مجمعة فضلا
إذا قال لم يترك مقالا لقائل
…
بملتقطات لا ترى بينها فصلا [206 ب]
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع
…
لذي إربة في القول جدّا ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقّة
…
فنلت ذراها لا جبانا ولا وغلا
5 خلقت حليفا للمروءة والنّدى
…
بليجا ولم تخلق كهاما ولا جبلا (1)
فقال الوالي: والله ما أراد بالكهام والجبل غيري، فالله بيني وبينه.
وقال عطاء عن ابن عبّاس: المعروف أوثق الحصون، وأرشد الأمور، ولن يصلح المعروف إلّا بتعجيله وستره وتصغيره، فإنّك إذا عجّلته هنّأته، وإذا سترته أتممته، وإذا صغّرته عظّمته، وإذا مطلته نكّدته ونغّصته.
وقال عبد الله بن بريدة عن كعب
الأحبار (1*) أنّه كان عند معاوية، فقرأ معاوية: في عين حامية، فقال كعب: فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف: 86]، فلم يقبل منه وقال: عليّ بابن عبّاس!
فلمّا جاء قال: كيف تقرءونها؟
فوافق كعبا، فلم يرجع معاوية، فغضب كعب، فقال ابن عبّاس: لا تغضب يا كعب، فإنّك من الذين أوتوا الكتاب، تؤمن به. ومعاوية من الأحزاب ينكر بعضه.
فقال معاوية: أمشاتمي أنت يا ابن عبّاس؟
قال: إن شئت.
قال: قد شئت.
فقال: لولا البيعة التي لك عندي، ولولا السلطان لفعلت.
قال: فلا بيعة لي عليك ولا سلطان، فقل!
قال: بل أجلّك يا أمير المؤمنين وأكرمك.
فسكن بعض غضبه، ثم قام إلى الصلاة وقال:
أطبق المصحف يا غلام، فإنّي ما أرى الحرف إلّا كما قالا.
ولمّا أنكر الخوارج [207 أ] على عليّ، رضي الله عنه، تحكيم الحكمين وانحازوا عنه، خرج إليهم ابن عبّاس، فقالوا: مرحبا بك يا ابن عبّاس، ما جاء بك؟ (2*)
[جدال بين ابن عبّاس والخوارج]
قال: جئت لأخباركم عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فليس فيكم رجل منهم.
فقال بعضهم لبعض: لا تخاصموه، فإنّ الله
(1) في ديوان حسّان، 359 لا ذكر للبيت الأوّل ولا للبيت الخامس.
والبليج من الرجال: الطلق الوجه. والكهام: الضعيف البطيء. والجبل: البخيل.
(1*) كعب الأحبار توفّي سنة 32 ومعاوية صار خليفة بعد سنة 40. وربّما جالسه حين كان واليا على الشام.
(2*) العقد 2/ 389.
يقول: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 58].
فقال ابن عبّاس: أخبروني ما الذي نقمتم على ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ؟
قالوا: نقمنا عليه أنّه حكّم الرجال في دين الله، ولا حكم إلّا الله، وأنّه قتل ولم يسب، ومحا «أمير المؤمنين» وكتب اسمه.
فقال ابن عبّاس: أمّا قولكم: حكّم الرجال، فإنّ الله تبارك وتعالى حكّم الرجال في دينه في الشقاق بين الرجال والنساء، وفي أرنب ثمنها ربع درهم يصيبها المحرم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة: 95].
فالحكم في حقن الدماء وصلاح ذات البين أفضل.
قالوا: نعم.
[قال: ] وأمّا قولكم: قتل ولم يسب فأيّكم كان يأخذ عائشة أمّ المؤمنين في سهمه، وهي أمّه؟ فإن قلتم: ليست بأمّنا، فقد كفرتم، وإن قلتم:
نأخذها ضللتم.
وأمّا قولكم محا اسمه [من الخلافة](1)، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير من عليّ وادع قريشا بالحديبيّة فكتب:«هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله» . فقالوا: «لو أقررنا بأنّك رسول الله لم نخالفك» . فقال: امح، واكتب: هذا ما اصطلح [عليه] محمد بن عبد الله
…
فاتّبع ابن عبّاس ألفان من الخوارج، وبقيت بقيّتهم.
وعن عكرمة عن ابن عبّاس قال: أتيت في منامي فقيل لي: هذه ليلة القدر، فقمت وأنا ناعس فتعلّقت ببعض أطناب فسطاط رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت فإذا هي ليلة ثلاث وعشرين.
وعن محمد بن كعب قال: قال ابن عبّاس بعد أن أصيب ببصره: ما أأسى على شيء إلّا على أنّي لم أحجّ ماشيا لأنّي سمعت الله يقول: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ [الحجّ: 27].
وقال ابن عبّاس لوبرة بن عبد الرحمن المسلي (1*): إيّاك والكلام فيما يعنيك (2*) إذا كان في موضعه، ولا تمار سفيها ولا حليما، فإنّ السفيه يؤذيك، وإنّ الحليم يقليك. واذكر أخاك في غيبته بما [207 أ] تحبّ أن يذكرك به، ودعه ممّا تحبّ أن يدعك منه.
وفي رواية: دع الكلام فيما لا يعنيك فإنّه فضل. ولا تتكلّم فيما يعنيك إذا لم تصب موضعه فإنّه جهل.
وفي رواية: دع ما لا يعنيك فإنّه فضل، ولا تكلّم بما يعنيك في غير موضعه، فربّ متكلّم بما يعنيه في غير موضعه قد عنت. ولا تمار سفيها ولاحليما، فإنّ الحليم يقليك وإنّ السفيه يؤذيك.
واذكر أخاك بما تحبّ أن يذكرك به، ودعه ممّا تحبّ أن يدعك منه. واعمل عمل من يرى أنّه مجزى بالإحسان مأخوذ بالإجرام.
وقيل لابن عبّاس: إنّ ابن الزبير ينتقصك فقال: دبى حجل، «لو ذات سوار لطمتني» (3*). أما والله إنّي لأعرف دخلا ودخيلا، وما سببت قرشيّا قطّ إلّا يحيى بن الحكم (4*) فاشتفى من لحم سمين واشتفيت من مثله.
(1) الزيادة من العقد 2/ 389، وبها يتّضح قصدهم.
(1*) وبرة المسلي: تهذيب التهذيب 11/ 111 (194).
(2*) النصيحة مستغربة، ولعلّ في الكلام سقطا:
…
إذا كان في [غير] موضعه، كما يفهم من الرواية الثانية الآتية.
(3*) لو ذات سوار
…
: يضرب لمن أهانه من ليس له كفؤا.
الميداني 3227. ولم نفهم عبارة: دبى حجل.
(4*) لعلّه يحيى بن الحكم الأمويّ أخو مروان بن الحكم.