الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من عملها. فلم يقدر على ذوقها، وشغله ما هو فيه عن تناول شيء منها.
واشتدّ به الأمر. فسأل المعتصم بختيشوع وابن ماسويه عنه، هل يمكن برؤه؟ فأخذا يديه وجسّاه فوجدا نبضه خارجا عن الاعتدال منذرا بالفناء.
والتصقت أيديهما ببشرته لعرقه الذي كأنّه الربّ أو كلعاب الأفاعي، فأنكرا معرفة العرق وذكرا أنّهما لم يجداه في شيء من الكتب، وأنّه دالّ على انحلال البدن.
ثم أحضر المأمون أناسا من الروم وسألهم عن اسم الموضع، وهو «القشيرة» فقالوا:«معنى البذندون: مدّ رجليك» فاضطرب عند سماع ذلك وتطيّر منه. فقال: ما اسمه بالعربيّة؟
فقالوا: الرقّة.
وكان في مولده أنّه يموت بموضع يعرف بالرقّة، فكان يتحامى الإقامة بالرقّة خوفا من أن تدركه منيّته بها. فلمّا سمع ذلك علم أنّه الموضع الذي يموت فيه. فلمّا ثقل قال:«أخرجوني أشرف على عسكري وانظر إلى رجالي وأتبيّن ملكي! » وذلك بالليل. فأخرج. فلمّا أشرف على الخيم والجيش وكثرته، وما وقّدوا من النيران قال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه!
ثمّ ردّ إلى مرقده. وأجلس المعتصم رجلا يلقّنه الشهادة لمّا ثقل، فرفع الرجل بها صوته ليقولها المأمون، فقال ابن ماسويه:«لا تصح، فو الله ما يفرّق في هذه الحالة بين ربّه وبين ماني! » ففتح عينيه وبهما من العظم والتورّم والحمرة ما لم ير مثله قطّ، وأقبل يحاول أن يبطش بابن ماسويه، ورام مخاطبته فعجز عن ذلك، فرمى بطرفه نحو السماء وقد امتلأت عيناه دموعا، وانطلق لسانه من ساعته وقال:«يا من لا يموت، ارحم من يموت! » وقضى من ساعته، وذلك يوم الخميس لثلاث عشرة بقيت من شهر رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، فحمل إلى طرسوس فدفن بها.
وكانت خلافته عشرين سنة وستّة أشهر تنقص سبعة أيّام، سوى سنتين كان يدعى له فيهما بمكّة، والأمين محصور ببغداد. وعمره ثمان وأربعون سنة وخمسة أشهر وأيّام، وقيل: ويومان. وقيل:
كان عمره تسعا وأربعين سنة. والصحيح أنّه عاش من العمر ثماني وأربعين سنة وأربعة أشهر وخمسة أيّام، وما سوى هذا غلط في الحساب.
وكان ابتداء مرضه لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة.
[شيء من أخباره]
وقال سعيد بن العلاء: دعاني المأمون يوما، فوجدته جالسا على شاطئ البذندون، والمعتصم عن يمينه، وهما قد دلّيا أرجلهما في الماء. فأومأ إليّ أن أضع رجلي في الماء، وقال:«ذقه! هل رأيت أعذب منه أو أصفى أو أشدّ بردا؟ » ففعلت وقلت: ما رأيت قطّ مثله يا أمير المؤمنين.
فقال: أيّ شيء يطيب أن يؤكل ويشرب عليه؟
فقلت: أمير المؤمنين أعلم.
فقال: الرطب الأ [خضر].
فبينا هو يقول إذ سمعت وقع لجم البريد فالتفتّ فإذا بغال البريد [125 ب] عليها الحقائب فيها الألطاف. فقال لخادم له: انظر إن كان في هذه الألطاف رطب فائت به.
فمضى وعاد ومعه سلّتان فيهما [
…
] كأنّما جني تلك الساعة، فأظهر شكر الله تعالى. وتعجّبنا جميعا. وأكلنا، وشربنا من ذلك الماء. فما قام منّا أحد إلّا وهو محموم، وكانت ميتة المأمون في تلك العلّة. ولم يزل المعتصم مريضا حتّى دخل العراق، وبقيت أنا مريضا مدّة.
ولمّا مرض المأمون أمر أن تكتب إلى البلاد الكتب «من عبد الله المأمون أمير المؤمنين، وأخيه من بعده أبي إسحاق، ابن هارون الرشيد» .
وأوصى إلى المعتصم بحضرة ابنه العبّاس، وبحضرة الفقهاء والقضاة والقوّاد. وكانت وصيّته بعد الشهادة والإقرار بالوحدانيّة والبعث والجنّة والنار، والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام:
إنّني مقرّ بذنب أرجو معه وأخاف، إلّا أنّي إذا ذكرت عفو الله رجوت. فإذا متّ فوجّهوني وغمّضوني، واسبغوا وضوئي وطهوري وأجيدوا كفني. ثم أكثروا حمد الله على الإسلام ومعرفة حقّه عليكم في محمد صلى الله عليه وسلم إذ جعلنا من أمّته المرحومة. ثم أضجعوني على سريري، وعجّلوا بي. وليصلّ عليّ أقربكم بي نسبا وأكبركم سنّا، وليكبّر خمسا (1). ثم احملوني وابلغوا بي حفرتي. ولينزل بي أقربكم قرابة وأودّكم محبّة، وأكثروا من حمد الله وذكره. وضعوني على شقّي الأيمن، واستقبلوا بي القبلة، وحلّوا كفني عن رأسي ورجليّ. ثم سدّوا اللحد، واخرجوا عنّي وخلّوني وعملي فكلّكم لا يغني عنّي شيئا ولا يدفع عنّي مكروها. ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خيرا إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر سيّئ إن كنتم عرفتم.
فإنّي مأخوذ من بينكم بما تقولون. ولا تدعوا ناعية عندي فإنّ المعول عليه يعذّب. يرحم الله عبدا اتّعظ وفكّر فيما حتّم الله على خلقه من الفناء وقضى عليهم من الموت الذي لا بدّ منه. والحمد لله الذي توحد بالبقاء وقضى على جميع خلقه بالفناء. ثمّ لينظر ما كنت فيه من عزّ الخلافة، هل أغنى ذلك عنّي شيئا إذ جاء أمر الله؟ لا والله! ولكن
أضعف به على الحساب. فيا ليت عبد الله بن هارون لم يكن بشرا! بل ليته لم يكن خلق!
يا أبا إسحاق، ادن منّي! واتّعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل في الخلافة التي طوّقكها الله عمل المريد لله الخائف من عقابه وعذابه، ولا [126 أ] تغترّ بالله ومهلته، ولا تغفل عن أمر الرعيّة. الرعيّة! الرعيّة! العوامّ! فإنّ قوّة الملك بهم وبتعهّدك لهم. الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين! ولا ينهينّ إليك أمر فيه صلاح المسلمين ومنفعهم إلّا قدّمته وآثرته على غيره من هواك. وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحقّ.
وعجّل الرحلة عنّي والقدوم إلى دار ملكك بالعراق. وانظر إلى هؤلاء القوم الذين أنت متاخمهم فلا تغفل عنهم في كلّ وقت. والخرّمية فأعرهم ذا حزامة وصرامة وجلد، وأسعفه بالأموال والسلاح والجنود، فإن طالت مدّتهم فتجرّد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدّم النيّة فيه، راجيا ثواب الله عليه.
ثم دعا المعتصم حين اشتدّ به الوجع وأحسّ مجيء أمر الله فقال: يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه وذمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقومنّ بحقّ الله في عباده، ولتؤثرنّ طاعة الله على معصيته، إذا أنا نقلتها من غيرك إليك.
قال: اللهمّ نعم.
قال: هؤلاء بنو عمّك ولد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسنهم، ولا تغفل عن صلاتهم في كلّ سنة عند محلّها، فإنّ حقوقهم تجب من جهات شتّى. اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. اتّقوا الله واعملوا له، اتّقوا الله في أمروكم كلّها. أستودعكم
(1) التكبير على الجنائز: خمسا عند الشيعة (دعائم الإسلام للقاضي النعمان 1/ 236) وأربعا عند السنة (بداية المجتهد لابن رشد 1/ 226).