الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واللغة والأدب، متقلّلا من الدنيا، يغلب عليه حبّ الجمال مع العفّة التامّة والصيانة. وكان مأمون الصحبة طاهر اللسان، يتفقّد أصحابه.
وكان كثير الانقطاع لا يكاد يظهر إلّا يوم الجمعة.
وهوي شابّا من الترك وفطن أبوه به. فلمّا عرف عفّته جعله عنده في منزله وصار يخدمه بنفسه وأهله، حتى مات الشابّ وهو مقيم عندهم.
وقيل له يوما عن الحمّام، فقال: بعد محمد أدخل الحمّام؟
وتوفّي بالقاهرة يوم [
…
] شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وستّمائة بداره من الحسينيّة خارج القاهرة.
وله شعر لطيف المنزع رقيق مستبدع. فمنه قوله [الكامل]:
دنيا المحبّ ودينه أحبابه
…
فإذا جفوه تقطّعت أسبابه
وإذا أتاهم في المحبّة صادق
…
كشف الحجاب له وعزّ جنابه
ومتى سقوه شراب كأس منهم
…
رقّت معانيه وراق شرابه
وإذا تهتّك لا يلام لأنّه
…
سكران عشق لا يفيد عتابه
بعث السلام مع النسيم رسالة
…
فأتاه في طيّ النسيم جوابه
وقوله [الكامل]:
أنعم بوصلك لي فهذا وقته
…
يكفي من الهجران ما قد ذقته (1)
وقوله [البسيط]:
يا رائس الحبّ أدركني فقد وحلت
…
مراكب الحبّ بي في بحر أشواقي
ولي بضاعة صبر ضاع أكثرها
…
وقد غدا ذا الهوى يستغرق الباقي
1552 - عبد الله ابن سيّدنا عمر بن الخطّاب [- 73]
(1*)
[248 أ] عبد الله بن عمر بن الخطّاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رباح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عديّ بن كعب، القرشيّ، العدويّ، أبو عبد الرحمن، ابن أمير المؤمنين أبي حفص، وأخو حفصة أمّ المؤمنين. أمّهما زينب بنت مظعون بن حبيب الجمحيّ.
أسلم مع أبيه وهو صغير لم يبلغ الحلم. وقيل:
أسلم قبل أبيه، ولا يصحّ. وأصحّ منه أنّه هاجر قبل أبيه. وأجمعوا أنّه لم يشهد بدرا، مع أنّه روي عن أنس وعن سعيد بن المسيّب أنّه شهد بدرا.
واختلفوا في شهوده أحدا. والصحيح أنّ أوّل مشاهده الخندق.
وقال محمد بن عمر الواقديّ: كان عبد الله بن عمر يوم بدر ممّن لم يحتلم فاستصغره رسول الله صلى الله عليه وسلم وردّه. وأجازه يوم أحد.
ويروى عن نافع أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّه يوم أحد لأنّه كان ابن أربع عشرة، وأجازه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة. وقد روي حديث نافع على الوجهين جميعا.
وشهد الحديبيّة وقيل إنّه أوّل من بايع يومئذ.
والصحيح أنّ أوّل من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبيّة
(1) بعد هذه الأبيات بياض بنحو عشرة أسطر.
(1*) وفيات 3/ 29 (321) - أسد الغابة 3/ 340 (3080) - تهذيب 5/ 228 - المعارف 185 - الوافي 17/ 362 (297).
تحت الشجرة- بيعة الرضوان- أبو سنان الأسديّ (1).
وعن مجاهد قال: أدرك ابن عمر الفتح وهو ابن عشرين سنة، يعني فتح مكّة.
وكان رضي الله عنه من أهل الورع والحلم.
وكان كثير الاتّباع لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد التحري والاحتياط والتوقّي في فتواه وفي كلّ ما يأخذ به نفسه. وكان لا يتخلّف عن السرايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم كان بعد موته عليه السلام مولعا بالحجّ قبل الفتنة وفي الفتنة، إلى أن مات، وكان أعلم [الصحابة] بمناسك الحجّ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجه حفصة بنت عمر:
«إنّ أخاك عبد الله رجل صالح لو كان يقوم من الليل» . فما ترك ابن عمر بعدها قيام الليل.
وعن حذيفة قال: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم توفّي، وما منّا أحد إلا وغيّر عمّا كان عليه، إلّا عمر وعبد الله بن عمر.
وقال مالك بن أنس: قال لي محمد بن شهاب الزهريّ: لا تعدلن عن رأي عبد الله بن عمر، فإنّه أقام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستّين سنة فلم يغيّر عليه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه.
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن: كان ابن عمر في زمانه أفضل من عمر في زمانه.
وعن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: ما رأينا ألزم للأمر الأوّل من عبد الله بن عمر.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيّب: لو [248 ب] شهدت على أحد أنّه من أهل الجنّة لشهدت على ابن عمر.
وعن نافع عن ابن عمر قال: لمّا فرض عمر
لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف، وفرض لي ألفين وخمسمائة (1*) قلت له: يا أبت، لم تفرض لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وتفرض لي ألفين وخمسمائة؟ والله ما شهد أسامة مشهدا غبت عنه، ولا شهد أبوه مشهدا غاب عنه أبي.
قال: صدقت يا بنيّ، ولكن أشهد: لأبوه كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، ولهو أحبّ إلى رسول الله منك.
فشهادة عمر لابنه أنّه لم يشهد أسامة مشهدا إلّا شهده، من أجلّ فضائل ابن عمر.
وعن ابن عمر قال: بايعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على الموت مرّتين. قال [لي] عمر:
«أرى الناس مجتمعين، اذهب فانظر ما شأنهم؟ » فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم يبايع على الموت، فبايعته ثم رجعت إلى عمر فأخبرته فجاء فبايعه. ثم بايعته بعد ما بايع.
وهذه من أجلّ فضائل ابن عمر.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ما منّا أحد أدرك الدنيا إلّا قد مالت به، إلّا عبد الله بن عمر.
وعن نافع قال: دخل ابن عمر الكعبة فسمعته يقول، وهو ساجد: قد تعلم، ما يمنعني من مزاحمة قريش على هذه الدنيا إلّا خوفك.
وعن محمد بن الحنفيّة قال: كان ابن عمر حبر هذه الأمّة.
وعن سعيد بن جبير قال: رأيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد وغيرهم كانوا يرون أنّه ليس أحد منهم على الحال التي فارق عليها محمّدا صلى الله عليه وسلم غير ابن عمر.
(1) أبو سنان ابن محصن- المعارف، 274.
(1*) في فتوح البلاذري، 437: أسامة: 4000 وعبد الله 3000.
وعن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنّه قال: ابن عمر أزهد القوم، وأصوب القوم رأيا.
وعن يوسف بن مهران قال: كنّا مع جابر بن عبد الله فقال: إذا سرّكم أن تنظروا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين لم يغيّروا ولم يبدّلوا فانظروا إلى عبد الله بن عمر، ما منّا أحد إلّا غيّر.
وقال محمد بن سوقة عن أبي جعفر: لم يكن أحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا أجدر أن لا يزيد فيه ولا ينقص منه، ولا، ولا، من ابن عمر.
وعن ابن عمر: «تلوت هذه الآية: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] فذكرت ما أعطاني الله فما وجدت شيئا أحبّ إليّ من جاريتي رضيّة (1) فقلت: هي حرّة لوجه الله عز وجل، فلولا أنّي لا أعود في شيء جعلته لله عز وجل لنكحتها» . فأنكحها نافع (2)، فهي أمّ ولده.
وعن نافع: لو رأيت ابن عمر وهو يتتبّع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم لقلت: هذا مجنون.
وقال ابن [249 أ] وهب عن مالك قال: أقام ابن عمر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم ستّين سنة يفتي الناس في الموسم وغير ذلك. (قال) وكان ابن عمر من أئمّة الدين.
وفي رواية: بلغ عبد الله بن عمر ستّا وثمانين سنة فأفتى في الإسلام ستّين سنة، ونشر نافع عنه علما جمّا.
وقال ميمون بن مهران (3): ما رأيت أورع من
ابن عمر ولا أعلم من ابن عبّاس.
وقال يوسف ابن الماجشون عن أبيه (1*) وغيره إنّ مروان بن الحكم دخل في نفر على عبد الله بن عمر بعد ما قتل عثمان رضي الله عنه، فعرضوا عليه أن يبايعوا له. قال: كيف لي بالناس؟
قال: تقاتلهم ونقاتلهم.
فقال: والله لو اجتمع عليّ أهل الأرض إلّا أهل فدك، ما قاتلتهم! (قال) فخرجوا من عنده ومروان يقول [البسيط]:
والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا (2*)
وبعث إليه عليّ رضي الله عنه بعد ما بويع بالخلافة، ولحق طلحة والزبير بمكّة وأجمعا على المسير بأمّ المؤمنين عائشة، رضي الله عنهم، إلى البصرة، كميل بن زياد النخعيّ (3*) فجاء به فقال:
أنهض مع أهل المدينة، إنما أنا رجل منهم وقد دخلوا في هذا الأمر فدخلت معهم لم أفارقهم فيه، فإن يخرجوا أخرج، وإن يقعدوا أقعد.
فقال: فأعطني زعيما بأن لا تخرج.
قال: ولا أعطيك زعيما.
قال: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيرا وكبيرا لأنكرتني، دعوه فأنا به زعيم!
فرجع عبد الله إلى أهل المدينة وهم يقولون: لا والله، ما ندري كيف تصنع، وإنّ هذا الأمر لمشتبه علينا، ونحن مقيمون حتى يضيء لنا ويسفر.
(1) في الوفيات اسمها رميثة.
(2)
نافع مولاه.
(3)
ميمون بن مهران، أخو العلاء ابن الحضرمي: كان واليا على خراج الجزيرة زمن عمر بن عبد العزيز (ت 145):
المعارف 448.-
(1*) الماجشون: يعقوب ابن أبي سلمة (ت 124)، مولى آل المنكدر. المعارف، 461 والوفيات 6/ 376 (823).
(2*) أبو ليلى: معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان- المعارف 352. وقبله:
إنّي أرى فتنا تغلي مراجلها
(3*) كميل النخعي (ت 82): تابعيّ- تهذيب 8/ 447 - الإصابة 7503 - الأعلام 6/ 93.
فخرج عبد الله من ليلته بعد ما أخبر أمّ كلثوم بنت عليّ رضي الله عنهما بالذي سمع من أهل المدينة، وأنّه يخرج معتمرا مقيما على طاعة عليّ، ما خلا النهوض. وكان صدوقا، فاستقرّ عندها.
وأصبح عليّ رضي الله عنه فقيل له: حدث البارحة حدث هو أشدّ عليك من طلحة والزبير وأمّ المؤمنين ومعاوية.
فقال: وما ذاك؟
قالوا: خرج عبد الله بن عمر إلى الشام.
فأتى عليّ السوق ودعا بالظّهر فحمل الرجال وأعدّ لكل طريق طلّابا. وماج أهل المدينة.
وسمعت أمّ كلثوم بالذي هم فيه فدعت ببغلتها فركبتها في رجل ثمّ أتت عليّا وهو واقف في السوق يفرّق الرجال في طلبه فقالت: ما لك؟ ما تريد من هذا الرجل؟ إنّ الأمر على غير ما بلغك.
وحدّثته وقالت: أنا ضامنة له.
فطابت نفسه وقال: انصرفوا. والله ما كذبت ولا كذب، وإنّه عندي ثقة.
فانصرفوا. قال الزهري: والعجب من ابن عمر يمتنع من بيعة عليّ ويبايع يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان!
وعند ما أجمع طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم على المضيّ من مكّة إلى البصرة بمن معهم من المسلمين ليدعوا إلى الأخذ بثأر عثمان رضي الله عنه [249 ب] دعوا عبد الله إلى المسير معهم فقال: «إنّي امرؤ من أهل المدينة، فإن يجتمعوا على النهوض أنهض، وإن يجتمعوا على القعود أقعد» . فتركاه ورجعا.
وكانت أخته حفصة بنت عمر رضي الله عنهما أرادت الخروج مع عائشة، فمنعها من ذلك وعزم عليها فلم تسر. وأعلمت عائشة بذلك فقالت:
يغفر الله لعبد الله!
وقيل لعبد الله: فيم تفرّقت قريش؟
فقال: أو هي تفرّقت؟ إنّما تفرّق الغوغاء، والشرّ بينهما. والله لا يزال ذلك دأب الغوغاء حتى يفتنوا قريشا وحتى يسلمهم ذلك إلى الكفر يوما.
فلم يشهد عبد الله الجمل ولا صفّين.
وعند ما عزم معاوية على المسير إلى صفّين كتب هو وعمرو بن العاص إلى مكّة: أمّا بعد، فمهما غاب عنّا من الأمور، فلم يغب عنّا أنّ عليّا قتل عثمان. والدليل على ذلك مكان قتلته منه.
وإنّا إنّما نطلب بدمه حتّى يدفعوا إلينا فنقتلهم بكتاب الله. فإن دفعهم إلينا كففنا عنه وجعلناها شورى بين المسلمين على ما جعلها عمر بن الخطّاب. فأمّا الخلافة فلسنا نطلبها، فأعينونا على أمرنا هذا، وانهضوا من ناحيتكم، فإنّ أيدينا وأيديكم إذا اجتمعت على أمر هاب عليّ ما هو فيه.
فكتب إليهما عبد الله بن عمر: أمّا بعد، فلعمري لقد أخطأتما موضع النصرة وتناولتماها من مكان بعيد. وما زاد الله من شكّ في هذا الأمر بكتابكما إلّا شكّا. وما أنتما والمشورة؟ وما أنتما والخلافة؟ أمّا أنت يا معاوية فطليق، وأمّا أنت يا عمرو فظنون. ألا فكفّا عنّا أنفسكما، فليس لكما فينا وليّ ولا نصير!
فكتب إليه معاوية: أمّا بعد، فإنّه لم يكن أحد من قريش أحبّ إليّ أن يجتمع إليه الناس بعد عثمان منك. ثم ذكرت خذلك إيّاه وطعنك على أنصاره فتغيّرت لك. وهوّن ذلك عليّ خلافك على عليّ وجرّني إليك بعض ما كان منك. فأعنّا رحمك الله على حقّ هذا الخليفة المظلوم، فإنّي
لست أريد الإمارة عليك، ولكني أريدها لك. فإن أبيت كان [ت] شورى بين المسلمين (1).
وكتب في أسفل كتابه [الطويل]:
ألا قل لعبد الله واخصص محمّدا
…
وفارسنا المأمول سعد بن مالك (2)
ثلاثة رهط من صحاب محمّد
…
نجوما ومأوى للرجال الصعالك
ألا تخبرونا والحوادث جمّة
…
وما الناس إلّا بين ناج وهالك:
أحلّ لكم قتل الإمام بذنبه
…
فلست لأهل الجور أوّل تارك
وإلّا يكن ذنب أحاط بقتله
…
ففي تركه والله إحدى المهالك [250 أ]
وإمّا وقفتم بين حقّ وباطل
…
فوقف نساء في إماء عوارك
وما القول إلّا نصره أو قتاله
…
إمامة قدم بدّلت غير ذلك
فإن تنصرونا تنصروا أهل حرمة
…
وفي خذلنا يا قوم جبّ الحوارك
فأجابه عبد الله: أمّا بعد، فإنّ الرأي الذي أطمعك فيّ هو الذي صيّرك إليه الله. أنّى تركت عليّا في المهاجرين والأنصار وطلحة والزبير وعائشة أمّ المؤمنين واتّبعتك؟ (3) وأمّا زعمك أنّي طعنت على عليّ فلعمري ما أنا في الإيمان والهجرة كعليّ، ومكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكايته في المشركين. ولكن حدث أمر لم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه عهد إليّ، ففزعت فيه إلى
الوقوف، إن كان هدى ففضل تركته، وإن كان ضلالة فشرّ نجوت منه. فأغن عنّا نفسك.
وقال لابن غزيّة (1*): «أجب الرجل! » فقال:
معاوي لا ترج الذي لست نائلا
…
وحاول نصيرا غير سعد بن مالك
ولا ترج عبد الله واترك محمّدا
…
ففيما تريد اليوم جبّ الحوارك
تركنا عليّا في صحاب محمّد
…
وكان لما يرجى له غير تارك
نصير رسول الله في كلّ موطن
…
وفارسه المأمول عند المعارك
وقد خفّت الأنصار معه وعصبة
…
مهاجرة مثل الليوث الشوابك
وطلحة يدعو والزبير وأمّنا
…
فقلنا لها: قولي لنا ما بدا لك
حذار أمور شبّهت ولعلّها
…
صوانع في الأخطار إحدى المهالك
وتطمع فينا يا ابن هند سفاهة
…
عليك بعليا حمير والسكاسك
وقوم يمانيّون يعطوك نصرهم
…
بصمّ العوالي والسيوف البواتك
فلمّا تواعد عليّ ومعاوية على تحكيم الحكمين كتب معاوية إلى عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير أن يحضرا الحكومة. فأراد ابن عمر أن يقعد فدخل على أخته حفصة أمّ المؤمنين فقال: قد كان من أمر الناس ما ترين، ولم يجعل لي من الأمر شيء.
قالت: فالحق بهم، فإنّهم ينتظرونك، وإنّي أخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة.
فقال: إنّهم لم يقاتلوا على هذا ليدفعوه إليّ.
(1) انظر وقعة صفّين، 80.
(2)
هما محمد بن مسلمة الأنصاري (أسد الغابة 4761) وسعد ابن أبي وقّاص.
(3)
في المخطوط: واتبعك. والإصلاح من وقعة صفّين، 81.
(1*) ابن أبي غزيّة في وقعة صفّين، 81.
فلم تدعه حتى ذهب فقدم على معاوية فأمره ومن قدم معه أن يذهبوا إلى عمرو بن العاص فأتوه وقعدوا عنده. فسكت عمرو وسكتوا، حتّى همّ ابن عمر أن يقول له: الكبر منعك تتكلّم.
ثم تكلّم عمرو فافتخر، وذكر [250 ب] شيئا عرّض فيه بالرّشوة، فغمز ابن الزبير عبد الله بن عمر. قال ابن عمر: فهممت أن أتكلّم، فقلت:
أأقطع كلامه؟ لا، ولكن أدعه. فلمّا فرغ قلت:
وشئت أن أقول له الذي أردت أن أقول. ولأن أكون قلته أحبّ إليّ من أن أعطى كذا وكذا، غضبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قالوا: ما أردت أن تقول؟
قال: أردت أن أقول: كذبت! بل أنت ابن النابغة (1) العبد الهجين!
وفي رواية، قال ابن عمر: لمّا اجتمع الحكمان دعا أبو موسى إليّ سرّا ولا أعلم، فقال: يا عمرو:
وهل لك إلى عبد الله بن عمر؟ رجل لم يضع يده في الفتنة، ثمّ هو من قد عرفت، فعسى أن يركب بالناس ما يعرفون. (قال) فإذا عمرو والله يريدني على الرشوة، وما أدري حتّى ضرب عبد الله بن الزبير على فخذي وقال: هل تدري ما يريد الرجل؟ والله إن يريد إلّا الرشوة! (قال) قلت: أنا أرشوه؟ والله لا أرشوه فيها ولا أرتشي! ما يسرّني أنّ لي بحظّي من جنّات عدن شيئا. ويحك يا عمرو، اتّق الله.
وقيل لابن عمر: لو أقمت للناس أمرهم، فإنّ
الناس قد رضوا بك كلّهم؟
قال: أفرأيتم إن خالف رجل بالمشرق؟
قالوا: يقتل. وما قتل رجل في صلاح هذه الأمّة؟
فقال: والله ما أحبّ أنّ أمّة محمد أخذت بعالية رمح وأخذت بزجّه بقتل رجل من المسلمين، ولي الدنيا وما فيها.
فلمّا تفرّق الحكمان عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعريّ خطب معاوية بن أبي سفيان فقال: من كان يريد أن يتكلّم في هذا الأمر فليطل وليقصّر، فنحن أحقّ بذلك منه ومن أبيه- يعرّض بابن عمر.
فقال حبيب بن مسلمة (1*) لابن عمر: فهلّا أجبته فداك أبي وأمّي؟
فقال ابن عمر: فحللت حبوتي فهممت أن أقول: أحقّ بذلك منك من قاتلك وأباك على الإسلام. ثمّ خشيت أن أقول كلمة تفرّق بين الجميع ويسفك فيها الدم وأحمل فيها على غير رأيي. فكان ما وعد الله في الجنان أحبّ إليّ من ذلك كلّه.
فقال حبيب لابن عمر: فإنّك قد عصمت وحفظت ممّا خفت عرّته.
فلما اجتمع الناس على معاوية بايعه. فقيل لنافع: ما بال ابن عمر بايع معاوية ولم يبايع عليّا؟
فقال: كان ابن عمر لا يعطي يدا في فرقة ولا [251 أ] يمتنع من جماعة.
ولم يبايع معاوية حتى اجتمع الناس عليه. فلمّا
(1) في أسد الغابة 3965: وأمّه النابغة بنت حرملة، سبيّة بيعت بعكاظ.
(1*) حبيب بن مسلمة الفهريّ: من أصحاب معاوية. كان على ميسرته في صفّين (وقعة صفّين، 233 - أسد الغابة 1068) ت 42.
عهد معاوية لابنه يزيد ودعا الناس إلى بيعته بولاية العهد من بعده قال ابن عمر لمعاوية: أبايعك على أنّي أدخل فيما تجتمع عليه الأمّة. فو الله لو اجتمعت على حبشيّ لدخلت معها.
ثم عاد إلى منزله فأغلق بابه فلم يأذن لأحد.
فلمّا مات معاوية بعث إليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان أمير المدينة ليبايع ليزيد بن معاوية، فقال:
«إذا بايع الناس بايعت» . فتركوه وكانوا لا يتخوّفونه.
وقيل إنّ ابن عمر كان بمكّة هو وعبد الله بن عبّاس، فلمّا عادا إلى المدينة لقيهما الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير فسألاهما: ما وراءكما؟
فقالا: موت معاوية وبيعة يزيد.
فقال ابن عمر: لا تفرّقا جماعة المسلمين!
وقدم هو وابن عبّاس المدينة، فلمّا بايع الناس بايعا.
ومات عبد الله بن عمر بمكّة سنة ثلاث وسبعين بعد قتل عبد الله بن الزبير بنحو ثلاثة أشهر- وقيل ستّة أشهر- وأوصى أن يدفن في الخلّ (1) فلم يقدر على ذلك من أجل الحجّاج، ودفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين.
وكان الحجّاج قد أمر رجلا فسمّ زجّ رمحه وزحمه في الطريق ووضع الزجّ في ظهر قدمه.
وذلك أنّ الحجّاج خطب يوما وأخّر الصلاة فقال ابن عمر: إنّ الشمس لا تنتظرك.
فقال له الحجّاج: لقد هممت أن أضرب الذي فيه عيناك.
قال: إن تفعل فإنّك سفيه مسلّط.
وقيل إنّه أخفى قوله ذلك عن الحجّاج ولم يسمعه.
وكان يتقدّمه في المواقيت بعرفة وغيرها إلى المواضع التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وقف فيها، فكان ذلك يعزّ على الحجّاج، فأمر رجلا معه حربة يقال إنّها كانت مسمومة. فلمّا دفع الناس في عرفة لصق به ذلك الرجل فأمرّ الحربة على قدمه وهي في غرز راحلته فمرض منها أيّاما فدخل عليه الحجّاج يعوده فقال: من فعل بك يا أبا عبد الرحمن؟
فقال: وما تصنع به؟
قال: قتلني الله إن لم أقتله!
قال: ما أراك فاعلا: أنت الذي أمرت الذي نخسني بالحربة!
قال: لا تفعل يا أبا عبد الرحمن!
وخرج عنه.
وروي أنّه قال للحجّاج إذ قال له: من فعل بك؟
قال: أنت أمرت بإدخال السلاح في الحرم.
فلبث أيّاما ومات. وصلّى عليه الحجّاج.
وقد روي عنه أنّه قال: ما آسى (1*) على شيء
من الأشياء إلّا أنّي لم أقاتل مع عليّ الفئة الباغية.
وقيل لعبد الله بن عمر: لو دعوت الله لنا بدعوات؟
فقال: اللهم ارحمنا وعافنا وارزقنا.
فقال له الرجل: لو زدتنا يا أبا عبد الرحمن؟
قال: نعوذ [251 ب] بالله من الإسهاب!
وقد روى عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثر. وروى عن أبي بكر، وبلال، وصهيب، وطائفة من الصحابة رضي الله عنهم.
وروى عنه بنوه، سالم وحمزة وعبيد الله، وبلال، وزيد، وعبيد الله، وعمر، وحفيده
(1) الخلّ بين مكّة والمدينة (ياقوت) إن ثبتت قراءتنا.
(1*) أسي يأسى أسى: حزن.