الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان ابن الزبير قد لزم جانب الكعبة منذ قدم مكّة يصلّي عندها عامّة نهاره ويطوف، ويأتي الحسين بن عليّ عليه السلام فيمن يأتي ويشير عليه بالرأي. وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير لأنّه علم أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين بالبلد، حتى [إذا] عزم الحسين على المسير إلى الكوفة، أتاه ابن الزبير فحدّثه ساعة ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكففنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم. خبّرني ما تريد أن تصنع؟
فقال: لقد حدّثت نفسي بإتياني الكوفة. ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشراف الناس، وأستخير الله.
فقال ابن الزبير: أمّا أنا، لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت عنها.
ثمّ خشي أن يتّهمه فقال: أما إنّك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ههنا، ما خالفنا عليك ولساعدناك وبايعناك ونصحنا لك.
فقال: إنّ أبي حدّثني أنّ لها كبشا به تستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش.
قال: فأقم إن شئت وولّني أنا الأمر فنطاع ولا تعصى.
قال: ولا أريد هذا أيضا.
ثمّ [143 ب] إنّهما أخفيا كلامهما، فقال الحسين لمن هناك: أتدرون ما يقول؟
قالوا: لا ندري.
قالوا: إنّه يقول: أقم في هذا المسجد أجمع لك الناس.
ثم قال له الحسين: والله لأن أقتل خارجا منها بشبر أحبّ إليّ من أن أقتل فيها، ولأنّ أقتل خارجا منها بشبرين أحبّ إليّ من أن أقتل خارجا عنها بشبر. وايم الله! لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم.
وو الله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت!
فقام ابن الزبير فخرج من عنده. فقال الحسين:
إنّ هذا ليس شيء من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أنّ الناس لا يعدلونه بي، فهو يودّ أنّي خرجت حتى يخلو له.
فجاء عبد الله بن عبّاس إلى الحسين وحذّره من المسير إلى الكوفة، فأبى عليه، فقال: لقد أقررت عين ابن الزبير بالخروج من الحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك.
ثم خرج من عنده فمرّ بابن الزبير فقال: «قرّت عينك يا ابن الزبير! » ثم قال متمثّلا [الرجز]:
يا لك من قنبرة بمعمر
…
خلا لك الجوّ فبيضي واصفري
ونقّري ما شئت أن تنقري
هذا حسين يخرج إلى العراق ويخلّيك والحجاز.
فلمّا سار الحسين عليه السلام شهّر ابن الزبير للأمر الذي يريد، ولبس المغافر وشبر بطنه وقال:
إنّما بطني شبر، وما عسى أن يسع الشبر؟
[تمرّد ابن الزبير على بني أميّة]
وجعل يظهر عيب بني أميّة ويدعو إلى خلافهم وقال: «من ينصر الله وينصر الكعبة؟ ومن ينصر الحرم؟ » وأقام على ذلك حتى جاء الخبر بقتل الحسين. فقام في الناس فعظّم قتل الحسين وعاب أهل الكوفة خاصّة وأهل العراق عامّة فقال، بعد حمد الله والصلاة على رسول الله: إنّ أهل العراق غدر فجر إلّا قليلا. وإنّ أهل الكوفة شرار أهل العراق. وإنّهم دعوا حسينا لينصروه ويولّوه عليهم. فلمّا قدم عليهم ثاروا عليه فقالوا: «إمّا أن
تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سميّة فيمضي فيك حكمه، وإمّا أن تحارب! » فرأى أنّه هو وأصحابه قليل في كثير، وإن كان الله لم يطلع على الغيب أحدا، وأنّه مقتول. ولكنّه اختار المنيّة الكريمة على الحياة الذميمة. فرحم الله حسينا وأخزى قاتله! لقد كان من خلافهم إيّاه وعصيانهم ما كان في مثله واعظ وناه عنهم. ولكنّه قدر نازل، وإذا أراد الله أمرا لا يدفع. [أ](1) فبعد الحسين نطمئنّ إلى هؤلاء القوم ونصدّق قولهم ونقبل لهم عهدا؟ لا والله! ولا نراهم لذلك أهلا.
أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه، كثيرا في النهار صيامه، أحقّ بما هم فيه منهم، وأولى به في الدين والفضل. والله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء، ولا بالبكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شرب الخمر، ولا بالمجالس في حلق [144 أ] الذكر تطلاب الصيد (2). فسوف يلقون غيّا.
فثار إليه أصحابه وقالوا: أظهر بيعتك، فإنّه لم يبق أحد إذ هلك الحسين ينازعك هذا الأمر!
وكان ابن الزبير بويع سرّا، وهو إنّما يظهر أنّه عائذ بالبيت. فقال: لا تعجلوا!
هذا وأخبار تبلغ يزيد بن معاوية وقد أمهله سنة. ثمّ بعث إليه عشرة من أهل الشام، عليهم النعمان بن بشير الأنصاريّ. وكان أهل الشام يسمّون النفر العشرة «الركب» ، وهم: عبد الله بن عضاه الأشعريّ، وروح بن زنباع الجذاميّ، وسعد بن حمزة الهمدانيّ، ومالك بن هبيرة السكونيّ، وأبو كبشة السكسكيّ، وزمل بن عمرو العذريّ، وعبد الله بن مسعدة الفزاريّ، وأخوه عبد الرحمن، وشريك بن عبد الله الكنانيّ،
وعبد الله بن عامر الهمدانيّ، ودفع إلى عبد الله بن عضاه سلسلة من فضّة ليقيّد بها عبد الله بن الزبير، فإنّه أعطى الله عهدا ليوثقنّه في سلسلة، وأعطاه برنس خزّ ليلبسه عبد الله على السلسلة حتى لا تظهر للناس.
فأقبلوا حتّى قدموا المدينة، فمرّ بها عبد الله بن عضاه على مروان بن الحكم فأخبره بما قدم له، وأنّ يزيد قد كتب إلى ابن الزبير:«إنّي قد بعثت إليك بسلسلة من فضّة وقيد من ذهب وجامعة من فضّة، وحلفت لتأتينّي في ذلك» . فبعث معه بابنه عبد العزيز بن مروان وأخيه، وقال له:[إذا] بلّغته رسل يزيد رسالته فتعرّض له وتمثّل بقوله [الطويل]:
فخذها فليست للعزيز بخطّة
…
وفيها مقال لامرئ متذلّل
أعامر إنّ القوم ساموك خطّة
…
وذلك في الجيران غزلا بمغزل
أراك إذا ما كنت للقوم ناصحا
…
يقال له بالدلو أدبر وأقبل
فلمّا قدم الركب مكّة وبلّغوا ابن الزبير رسالة يزيد قال عبد العزيز بن مروان لابن الزبير: «إنّ أبي أرسلني عناية بأمرك وحفظا لحرمتك» وأنشده الأبيات.
فقال له ابن الزبير: يا ابني مروان، قد سمعت ما قلتما. فأخبرا أباكما [البسيط]:
إنّي لمن نبعة صمّ مكاسرها
…
إذا تناوحت النكباء والغير
فلا ألين لغير الحقّ أنملة
…
حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
ثم قال: «اللهمّ إنّي عائذ ببيتك الحرام! » فمن يومئذ سمي العائذ.
(1) زيادة من الطبريّ، 5/ 475.
(2)
في الهامش حاشية: يعرّض بيزيد. وانظر الكامل 3/ 305.