الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
د 1561/ 2 - عمارة اليمنيّ [515 - 560]
(1)
[176 أ] عمارة بن أبي الحسن عليّ بن زيدان بن أحمد، الحكميّ، اليمني، أبو محمد، نجم الدين أو شمس الدين.
ولد بمدينة مرطان من وادي وساع بتهامة اليمن، وبعدها عن مكة في مهبّ الجنوب أحد عشر يوما. وأصله من قحطان ثم من الحكم بن سعد العشيرة المذحجيّ. وبقي أهله في تهامة من غير مخالطة أهل الحضر، فكانوا لا يناكحون حضريا ولا يجيزون شهادته ولا يرضون بقتله قودا بأحد منهم، فسلمت لغتهم من الفساد. وصارت رئاستهم وسياستهم إلى المثيب بن سليم جدّ عمارة لأمّه، وإلى زيدان بن أحمد جدّه لأبيه، وهما ابنا عمّ. وكان زيدان يقول: أنا أعدّ من أسلافي أحد عشر جدّا ما منهم إلّا عالم مصنّف في عدّة علوم.
فورث علي بن زيدان عمّ عمارة، ومحمد بن المثيب خاله رئاسة حكم بن سعد، ووقفت عليهما وانتهت إليهما. وتميّز علي بن زيدان في قومه بالسؤدد فلم يكن يغضب ولا يقذع في القول ولا يبخل ولا يجبن ولا يضرب مملوكا أبدا، ولا يردّ سائلا، ولا عرف أنّه عصى الله بقول ولا فعل.
وحجّ أربعين حجّة. فكان قومه لا يوردون ولا يصدرون إلّا عن رأيه ومشورته ويرون أنّه لو كان قرشيّا ودعاهم إلى بيعته لماتوا تحت رايته لاجتماع
شروط الخلافة فيه واشتماله على أخلاق الصّدّيقين وهمّة الملوك، إلّا أنّه عدم النسب في قريش.
ووفد إليه رجل من بني الحارث يدعى سالم بن شافع يستعين به في دية قتيل لزمته فوجده مريضا فأنشد [الوافر]:
إذا أودى ابن زيدان عليّ
…
فلا طلعت نجومك يا سماء
ولا اشتمل النساء على جنين
…
ولا روّى الثرى للسحب ماء
على الدنيا وساكنها جميعا
…
إذا أودى أبو الحسن العفاء!
فلمّا سمعها دفع إليه ألف دينار وساق عنه الدية. وأجدب قومه مرّة ففرّق في المقلّين مائتي ناقة [لبون وأربعمائة بقرة](1*) لبون ولم يقبلها بعد ما أغيثوا. وبعث مؤدّب ولده إليه بابنه ومعه لوح فيه إصرافة (2*) وكان في اللوح سورة ص فأرسل له [بمائة بقرة] لبون معها أتباعها وغلّة تحصّل منها نحو ألفي إردبّ سمسم [175 - ب].
وكانت أمواله لا تدخل تحت حصر مع الحماسة الشديدة والشجاعة.
وولد عمارة فبلغ الحلم في سنة تسع وعشرين وخمسمائة وخرج من [
…
] (3*) إلى زبيد في سنة إحدى وثلاثين، فتفقّه بها على مذهب الشافعيّ، وبرع في الفرائض وقال الشعر. وحجّ مع الملكة الحرة أمّ فاتك ملك زبيد، فاتّصل بها وحصل له منها جانب قويّ وصورة جميلة وشفاعة مقبولة، وتقدّم على الأكابر والأعيان، وصحب الوزير القائد أبا محمد سرور الفاتكيّ القائم بالدولة في
(1) وفيات، 3/ 431 (984). الوافي، 22/ 384 (273).
أعلام النبلاء، 20/ 592 (373). طبقات الإسنويّ، 2/ 565 (1269). النكت العصريّة في الوزراء المصريّة وهي ترجمة ذاتيّة من تأليف عمارة نفسه، نشرها درنبرغ بفرنسا سنة 1896. والمقريزيّ هنا ينقلها بحذافيرها، ما عدا نهاية عمارة.
(1*) الزيادة من النكت، 11.
(2*) لم نجد لإصرافه معنى مناسبا في المعاجم، وهي قراءة درنبرغ في النكت، 12.
(3*) كلمة ساقطة.
زبيد. فكثر ماله وتردّد من زبيد إلى عدن للتجارة فأثرى ثراء عظيما واتّسع حاله وبعد صيته وصار يعدّ من أكابر التجّار ومن أهل الثروة ومن أكابر الفقهاء الذين أفتوا ودرّسوا، ومن أفضل أهل الأدب مع الوجاهة عند أهل الدول، والنعمة الظاهرة في الملبس، وكثرة السراريّ. وأقام على ذلك من سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
ثم ورد عليه كتاب الداعي محمد بن سبأ صاحب عدن يستدعيه فسار من زبيد واجتمع به.
فكوتب فيه أهل زبيد بأنّه قد مال مع علي بن مهدي صاحب الدولة باليمن ليأخذ زبيد. فتنكّر أهل زبيد على عمارة وأجمعوا على قتله. فلمّا رجع إليهم من عند محمد بن سبأ بلغه ذلك ففرّ من زبيد ولحق بمكّة في سنة تسع وأربعين وخمسمائة (1).
فاتّفق موت هاشم بن فليتة أمير الحرمين وولاية ابنه قاسم بن هاشم، فبعث عمارة سفيرا عنه إلى القاهرة. فقدم إليها في شهر ربيع الأوّل سنة خمسين وخمسمائة، والخليفة حينئذ الفائز بنصر الله أبو (2) القاسم عيسى ابن الظافر بأمر الله إسماعيل، ووزيره الصالح طلائع بن رزّيك.
فتلقّاه أهل الدولة بالإكرام على عادتهم في ذلك، وأحضر للسلام على الخليفة في قاعة الذهب من القصر. فلمّا مثل بالحضرة أنشد [البسيط]:
الحمد للعيس بعد العزم والهمم
…
حمدا يقوم بما أوليت من نعم
لا أجحد الحقّ عندي للركاب يد
…
تمنّت اللجم فيها رتبة الخطم
قرّ بن بعد مزار العزّ من نظري
…
حتى رأيت إمام العصر من أمم
ورحن من كعبة البطحاء والحرم
…
وفدا إلى كعبة المعروف والكرم
فهل درى البيت أنّي بعد فرقته
…
ما سرت من حرم إلّا إلى حرم
حيث الخلافة مضروب سرادقها
…
بين النقيضين من عفو ومن نقم
[175 أ] وللإمامة أنوار مقدّسة
…
تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم
وللنبوّة آيات تنصّ لنا
…
على الخفيّين من حكم ومن حكم
وللمكارم أعلام تعلّمنا
…
مدح الجزيلين من بأس ومن كرم
وللعلى ألسن تثني محامدها
…
على الحميدين من فعل ومن شيم
وراية الشرف البذّاخ ترفعها
…
يد الرفيعين من مجد ومن همم
أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا
…
فوز النجاة وأجر البرّ في القسم
لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما
…
وزيره الصالح الفرّاج للغمم
اللابس الفخر لم تنسج غلائله
…
إلّا يد الطّيّعين السيف والقلم
وجوده أوجد الأيّام ما اقترحت
…
وجوده أعدم الشاكين للعدم
قد ملّكته العوالي رقّ مملكة
…
تعير أنف الثريّا عزّة الشمم
أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني
…
في يقظتي أنّها من جملة الحلم
يوم من العمر لم يخطر على أملي
…
ولا ترقّت إليه رغبة الهمم
(1) قال في النكت، 31: خرجت حاجّا، بل هاجّا إلى مكّة.
وهجّ في كلام العامّة: هجر البلاد فرارا من الظلم.
(2)
في المخطوط: أبي. ومات الفائز سنة 555.
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
…
عقود مدح، فما أرضى لكم كلمي
ترى الوزارة فيه وهي باذلة
…
عند الخلافة نصحا غير متّهم
عواطف علّمتنا أنّ بينهما
…
قرابة من جميل الرأي لا الرحم
خليفة ووزير مدّ عدلهما
…
ظلّا على مفرق الإسلام والأمم
زيادة النيل نقص عند فيضهما
…
فما عسى يتعاطى منّة الديم
فكان الصالح يستعيد الأبيات في حال الإنشاد مرارا، والأمراء والأستاذون يذهبون في الاستحسان كلّ مذهب. ثم أفيضت عليه خلع الخلافة وهي مذهبة، ودفع له الصالح خمسمائة دينار عينا، وأخرجت إليه الشريفة العمّة ابنة الإمام الحافظ لدين الله مع بعض الأستاذين خمسمائة دينار أخرى. وخرج والمال محمول إلى منزله.
وأطلقت له من دار الضيافة رسوم جليلة، وتهاداه أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضره الصالح للمجالسة ونظمه في سلك أهل المؤانسة وانثالث عليه صلاته وغمره ببرّه.
وأنشده يوما من أبيات [الطويل]:
دعوا كلّ برق شمتم غير بارق
…
يلوح على الفسطاط صادق بشره
وزوروا المقام الصالحيّ، فكلّ من
…
على الأرض ينسى ذكره عند ذكره
[174 - ب] ولا تجعلوا مقصودكم طلب الغنى
…
فتجنوا على مجد المقام وفخره
ولكن سلوا منه العلى تظفروا به
…
وكلّ امرئ يرجى على قدر قدره
فرمى الخريطة إليه فوجد فيها مائة دينار عينا وخمسين رباعيّا.
ومدحه في شعبان سنة خمسين وخمسمائة بقصيدة فيها [الكامل]:
قصدتك من أرض الحطيم قصائدي
…
حادي سراها سنّة وكتاب (1*)
منها:
إن تسألا عمّا لقيت فإنّني
…
لا مخفق أملي ولا كذّاب
لم أنتجع ثمد النطاف ولم أقف
…
بمذانب وقفت بها الأذناب
لكن وردت قرارة العزّ الذي
…
تغدو عبيدا عندها الأرباب (2*)
عثرت به قدم الثناء فلا لعا
…
إن لم تقلها رفعة وثواب (3*)
فألقى إليه الخريطة فوجد فيها ثلاثة وسبعين دينارا.
وودّع الخليفة والوزير بقصيدة، منها في ذكر العود إلى مكّة واليمن قوله [الكامل]:
من لي بأن ترد الحجاز وغيرها
…
أخبار طيب مواردي ومصادري
زارت بي الآمال أكرم ساحة
…
فوق الثرى فغدوت أكرم زائر
ووفدت ألتمس الكرامة والغنى
…
فرجعت من كلّ بحظّ وافر
فكأنّ مكّة قال صادق فألها
…
سافر تعد نحوي بوجه سافر
فأوسعه إكرامهما توفيرا وإنعامهما توقيرا حتى قال سيف الدين حسين ابن أبي الهيجاء للتوزري متولّي الرسالة عن الخليفة إلى الوزير: ثلاثمائة
(1*) في المخطوط: وحادي
…
(2*) الثمد والنطاف: الماء القليل، والمذنب: الجدول والساقية.
(3*) لا لعالكم: دعاء لمن عثر حتى تقال عثرته.
دينار تسفير لعمارة من الخليفة قليل، فاستجملوا من الرجل فما جاءكم مثله، وزيدوه مائتي دينار، فتكون الوفادة خمسمائة دينار والتسفير خمسمائة دينار- ففعلت السيدة العمّة ذلك، وحمل إليه خمسمائة دينار تسفيرا.
ثمّ دخل على الصالح بدار الوزارة ليوادعه فأنشده من أبيات [الكامل]:
لازمت خدمته فأدّب خاطري
…
فالمدح من إحسانه معدود
فإذا نظمت له المديح فإنّما
…
أهدي بضاعته له وأعيد
فلأشعرنّ به مشاعر مكّة
…
ولتسمعن عدن بها وزبيد
صدر حمدت به الورود وإنّما
…
ذمّت به عودي المطايا القود (1)
فخلع عليه ودفع له مائتي دينار، وكتب له إلى والي قوص بمائة إردبّ قمحا وأن يحملها إلى مكّة من مال الديوان. وكتب له كتابا إلى محمد بن عمران [174 - أ] الداعي باليمن، فلمّا وصل إليه أسقط عن عمارة ثلاثة آلاف دينار كانت عليه.
وسار عمارة من القاهرة في شوال سنة خمسين وخمسمائة. فلمّا وصل إلى عدن كتب إلى الصالح قصيدة، منها [الطويل]:
لياليّ بالفسطاط في شاطئي مصر
…
سقى عهدك الماضي عهاد من القطر
لقد غمرتني من نداه مواهب
…
أضافت إلى عزّ الغنى شرف القدر
قصدت الجناب الصالحيّ تفاؤلا
…
وقد فسدت حالي فأصلح لي دهري
ولم يرض لي معروفه دون جاهه
…
فسيّر كتبا كالكتائب في أمري
كأنّ يدي في جانبيّ غدت بها
…
تهزّ على الأيّام ألوية النصر
وما فارقتني نعمة صالحيّة
…
كأنّي من مصر رحلت إلى مصر
فلمّا قرأها الصالح قال: لقد فرّطنا فيه حين تركناه يخرج من عندنا ولقد كان إمساكه للخدمة والصحبة أولى.
ثم إن عمارة قفل من عدن إلى مكّة سنة إحدى وخمسين، فبعثه قاسم بن هاشم أمير الحرمين إلى القاهرة بسبب جناية بعض خدمه على حاجّ مصر والشام. فسار إلى قوص في البحر، وبعث متولّي قوص يخبر بقدومه. فكتب الصالح بتعويقه في قوص حتّى يردّ أمير الحرمين ما أخذ من مال التجّار، فأقام بها. ووشى به الأمير سيف الدين حسين ابن أبي الهيجاء إلى الصالح أنّه يطعن في مذهب الإماميّة، فتنكّر له. وخرج عمارة من قوص إلى مصر، فلمّا ورد ساحل مدينة مصر كتب إلى الصالح، وقد أرسى تحت دار الملك [الطويل]:
ولي تحت دار الملك يومان لم تلح
…
لعيني علامات الكرامة والبشر
وقد أخذت أيّام قوص نصيبها
…
فهل نقلت تلك السجايا إلى مصر؟
فخرج الأمر بإنزاله وإكرامه فأنزل. ووصل للسلام فأنشد أبياتا يصف فيها وقعة العريش مع الفرنج، وأشار فيها إلى البراءة ممّا نقل عنه من الطعن في مذهب الإماميّة، منها [الكامل]:
فاعلم، وأنت بما أريد مقاله
…
منّي ومن كلّ البريّة أعلم
(1) في المخطوط: عندي. وكذلك في النكت، 38. وفضّلنا العود في مقابلة الورود إلى الصالح.
أنّي حسدت على كرامتك التي
…
من أجلها في كلّ يوم أكرم
وبدون ما أسديته من ننعمة
…
سدّى الرجال الحاسدون وألحموا
إن كان ما قالوا، وليس بكائن،
…
فأنا امرؤ ممّن سعى بي ألأم
غدر كأخبار الحسود وموقف
…
ألزمت نفسي فيه ما لا يلزم
كذب وحقّك لو حلمت بذكره
…
أقسمت أنّي بعدها لا أحلم
[172 ب] راجع جميل الرأي فيّ بنظرة
…
تضحي عواطفها تسيح وتسحم
فالليل إن أقبلت صبح مسفر
…
والصبح [173 - ب] أن أعرضت ليل مظلم
بدأت صنائعك الجميل ومثلها
…
بأجلّ من تلك البداية يختم
فزال ما كان في نفس الصالح منه وأمر له بمائة دينار، وخرج الأمر إلى الأمير عزّ الدين حسام بحمل رسومه من بيت المال ففعل، وأمر [هـ] بملازمة الخدمة في المجالسة والمؤاكلة والمدح.
فتأكّدت الحرمة وتضاعفت المزيّة والاختصاص حتى إنّه جرى من بعض الأمراء في مجلس السّمر عند الصالح من ذكر السلف ما أوجب قيام عمارة عن المجلس، فخرج واعتذر بحصاة تعتاده، وانقطع في منزله ثلاثة أيّام، ورسول الصالح في كلّ يوم يرد إليه ومعه الطبيب. ثم ركب إليه بعد ذلك، والصالح في البستان مع جلسائه.
فاستوحش من غيبته، فأعلمه أنّه لم يكن به وجع ولكنّه كره ما جرى في حقّ السلف وقال: إن أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلّا فلا، وكان لي في الأرض سعة وفي الملوك كثرة.
فتعجّب الصالح من ذلك وقال له: سألتك بالله، ما الذي تعتقد في أبي بكر وعمر؟
فقال عمارة: أعتقد أنّه لولاهما لم يبق للإسلام حرمة، ولا علا له راية، وما من مسلم إلّا ومحبّتهما واجبة عليه- ثم قرأ قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:
130]. فضحك الصالح، وكان مرتاضا حصيفا قد لقي فقهاء السنّة وسمع كلامهم. فلمّا انقضى المجلس كتب الصالح هذه الأبيات وبعثها إلى عمارة ومعها ثلاثة أكياس دراهم [الكامل]:
قل للفقيه عمارة يا خير من
…
أضحى يؤلّف خطبة وكتابا
اسمع نصيحة من دعاك إلى الهدى
…
قل حطّة وادخل إلينا البابا (1*)
تلق الأئمّة شافعين ولا تجد
…
إلّا لدينا سنّة وكتابا
وعليّ أن يعلو محلّك في الورى
…
وإذا شفعت إليّ كنت مجابا
وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة
…
صلة وحقّك لا تعدّ ثوابا
فأجابه عمارة:
حاشاك من هذا الخطاب خطابا
…
يا خير أملاك الزمان نصابا
لكن إذا ما أفسدت علماؤكم
…
معمور معتقدي وصار خرابا
ودعوتم فكري إلى أقوالكم
…
من بعد ذاك أطاعكم وأجابا
فاشدد يديك على صفاء محبّتي
…
وامنن عليّ وسدّ هذا البابا
(1*) اقتباس من الآية: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ
…
(البقرة، 58) أو من الآية: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً (الأعراف: 161). والحطّة: نحت لعبارة: حطّ عنّا أوزارنا.
(وأتى دليل الحقّ في أقوالهم
…
ودعوت فكري عند ذاك أجابا) (1)
[173 أ] فلم يفاتحه بعد ذلك في هذا.
وما زال على حاله إلى أن قتل الصالح (2) وقام من بعده في الوزارة ابنه العادل رزّيك بن طلائع.
فلمّا قتل رزّيك واستولى شاور على الوزارة وجلس بدار الوزارة وقام الشعراء والخطباء ولفيف الناس ينالون من بني رزّيك، قام عمارة في ذلك المحفل العظيم وأنشد [البسيط]:
زالت ليالي بني رزّيك وانصرمت
…
والحمد والذمّ فيها غير منصرم
كأنّ صالحهم يوما وعادلهم
…
في صدر ذا الدست لم يقعد ولم يقم
هم حرّكوها عليهم وهي ساكنة
…
والسلم قد تنبت الأوراق في السلم
كنّا نظنّ وبعض الظنّ مأثمة،
…
بأنّ ذلك جمع غير منهزم (3)
فمذ وقعت وقوع النسر خانهم
…
من كان مجتمعا من ذلك الرخم
لو لم يكونوا عدوّا ذلّ جانبه
…
وإنّما غرقوا من سيلك العرم
وما قصدت بتعظيم عداك سوى
…
تعظيم شأنك فاعذرني ولا تلم
ولو شكرت لياليهم محافظة
…
لعهدها، لم يكن بالعهد من قدم
ولو فتحت فمي يوما بذمّهم
…
لم يرض فضلك إلّا أن يسدّ فمي
والله يأمر بالإحسان عارفة
…
منه وينهى عن الفحشاء في الكلم
فشكره شاور وابناه على الوفاء لبني رزّيك.
إلّا أنّ ضرغاما كان ينكر عليه وينقم قوله:
فمذ وقعت وقوع النسر خانهم
…
من كان مجتمعا من ذلك الرخم
ويقول: يجعلنا رخما!
فلمّا ثار ضرغام على شاور وأخرجه من مصر وتولّى الوزارة خافه عمارة لإنكاره عليه البيت المتقدّم ذكره، ولأنّه كان يقول: غلط معي عمارة غلطة في شهر رمضان الذي قتل فيه الصالح أنا أحفظها عليه: وهي أنّي قلت له: اخرج معي إلى الهدف الذي على باب البرقيّة.
فقال: أنا أكره أن أرى البرقيّة والأمير الظهير مرتفع المعروف بالجلواز (1*) في الاعتقال، ومذ قبض عليه الصالح لم أعبر بالبرقيّة- وذلك أنّ المرتفع كان صديق عمارة، وكان عمارة قد قال هذا لضرغام وهو من جملة الطائفة البرقيّة، وما عرف من يؤول إليه الحال من ولاية ضرغام الوزارة، قلمّا داخله الخوف من ضرغام التجأ إلى ناصر المسلمين همام أخي ضرغام، وما زال به حتّى أدخله على ضرغام بعد شهرين من وزارته، فأنس به واستوحش من غيبته، وأمر له بذهب وقال له: عنوان الأدب والجمال لمن جالستموه يا أصحاب الصالح! - فمدحه بقصيد.
[172 أ] ولم يكن بأسرع من مجيء شاور بالغزّ من الشام وقتل ضرغام وعوده إلى الوزارة، فمدحه بعدّه قصائد وسأله أن يعفيه من عمل الشعر،
(1) أتى هذا البيت في الهامش تعويضا للبيت الثالث، وجوابا للشرط في البيت الثاني، والرواية في المتن هي التي وردت في النكت العصريّة، 1/ 46.
(2)
قتل طلائع بن رزّيك سنة 556. الزركلي: 3/ 329.
(3)
في المخطوط: جمعا. والإصلاح من النكت، 1/ 69.
(1*) الزيادة من الخطط 2/ 12. والجلواز- لا الجلواص كما في الخطط-: الشرطيّ (دوزي).
وينقل الجاري له على الخدمة بالشعر راتبا على حكم الضيافة.
فقال: ما منعك أن تستعفي في أيّام الصالح وابنه؟
قال: كانت لي أسوة بالشيخ الموفّق ابن الخلّال والقاضي الجليس ابن الجبّاب، وبابني الزبير، الرشيد والمهذّب، وبأبي الفتح محمود بن قادوس وغيرهم. وقد انقرض الجيل والنظراء، وصار تكسّبي بالشعر وتظاهري به منقصة.
فأعفاه، وكتب له سجلا علّم عليه الخليفة العاضد بذلك، فمدحه على هذا بأبيات. فلمّا احترقت مدينة مصر نهبت داره فلزمه دين كبير أدّاه شاور عنه وأعطاه مائة دينار عينا ومائة كبش باعها بمائة وعشرين دينارا، فمدحه بقصيد.
وشكا ابن دخان صاحب الدولة إلى شاور من عمارة، وأنّه يناكده في الجاري الذي له، وقال لشاور: إمّا صنتني منه وإلّا استعفيت.
فقال شاور: يا هذا، استح على نفسك من مناكدة رجل يأكل معي في إناء واحد كلّ يوم مرّتين.
فصار بعد ذلك خاصّة الدولة ابن دخان يكارم عمارة ويسارع إلى قضاء حوائجه ويقبل شفاعته فيما لا يسوغ. ووقعت الشمعة في بعض الليالي على طرف ثوب عمارة فجمد عليه سير من الشمع. فلمّا قام من المجلس إلى داره بعث إليه شاور في الحال مع الفرّاش بعشر نصافيّات رفاع.
فلمّا أصبح حضر إلى شاور فقال له: قل للفرّاش تحبّ العشرة.
فقال عمارة: نعم، هو يحبّهم- وقصد شاور استفهام عمارة عن وصول ذلك إليه.
وما برح عند شاور مكرّما، وقلّ أن تمضي ليلة إلّا ويحمل إلى دار عمارة من مجلس شاور ألطاف، وفي الدائم تحمل إليه كلّ ليلة الحلوى الكثيرة، مع تفقّده في كلّ شهر من الدنانير بما يزيد على عشرين دينارا. ويقول مع ذلك: ما تركنا الزمان نفعل في حقّك يا عمارة ما يجب- ويقول إذا غاب عنه: لعن الله مجلسا لا يحضره عمارة!
وترقّت به الحال حتّى صار يشفع عند شاور فيمن يأمر بقتله فيقبل شفاعته ويقول للمشفوع فيه: والله لولا عمارة لضربت رقبتك! واختصّ به عمارة اختصاصا زائدا.
فلمّا زالت الدولة واستولى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب استمرّ على غير ما كان عليه إلى منتصف شعبان سنة سبع [172 - أ] وستّين فقبض عليه. وسببه أنّ القاضي الفاضل كان من عادته إذا لقي عبد الصمد الكاتب أن يخدمه عبد الصمد ويبالغ في التواضع له. فلقيه في بعض الأيّام فلم يلتفت إليه. فخاف الفاضل أن يكون قد باطن السلطان صلاح الدين عليه، فاستدعى بزين الدين عليّ بن نجا الدمشقيّ وأعلمه بما جرى له مع عبد الصمد والتمس منه أن يكشف له عن الخبر. فعاد إليه وأعلمه أنّه كشف عمّا أشار به، فلم يجد من قبل السلطان شيئا يخشاه، وأنّ السبب في إعراض عبد الصمد هو أنّ عمارة وجماعة من أهل القصر قد اتّفقوا على إقامة خليفة ومحاربة السلطان- وكان ابن نجا يعرف أنّ بين الفاضل وبين عمارة عداوة من أيّام العاضد- فقال الفاضل لابن نجا: تحضر الساعة عند السلطان وتنهي الحال إليه.
فقام من فوره إلى السلطان وهو ينتظر صلاة الجمعة بالجامع، وجلس إليه وأعلمه أنّ عمارة وعبد الصمد الكاتب والقاضي العوريس وابن عبد القويّ الداعي وضياء الدين المفضّل ابن كامل
والقشّة أحد أمراء المصريّين ونجاح الحمامي وشخصا من النصارى منجّما، قد اتّفقوا على الوثوب بالقاهرة لإعادة دعوة المصريّين وردّ الدعوة العلويّة إلى ما كانت عليه، وقد وافقهم الجند المصريّون والرجّالة السودان وحاشية القصر على هذا، وأنّهم قد استمالوا من أمراء السلطان وجنده جماعة، وأطلعوني على أمرهم لثقتهم بي، وقد تعيّن الخليفة والوزير، وتقاسموا الدور وقرّروا الحال واستدّعوا بالفرنج من صقليّة ومن الساحل ليحضروا إلى القاهرة وعيّنوا لهم مقدارا كبيرا من المال وعدّة من أرض مصر وبلادها، فإذا قدم الفرنج وخرج السلطان إلى قتالهم ثاروا في القاهرة ومصر بمن فيها من جهة السلطان، وأعادوا الدعوة العلويّة فيصير السلطان بين الفرنج وبينهم فيؤخذ حينئذ قبضا باليد.
فلم يحتمل السلطان ذلك وأمره بالعودة إليهم ومواطأتهم على ما هم فيه، وإعلامه بما يتجدّد.
فسأله ابن نجا أن ينعم عليه بجميع ما لابن كامل من الدور والعقار والمال الظاهر والمدخور.
فرسم له به ومضى عنه. فاتّفق وصول ملك الفرنج بالساحل ومعه هديّة ورسالة، فأوهم القوم السلطان بأنّ الرسول [171 - ب] إنّما حضر لميعادالجماعة. فوضع عليه من يأتيه بخبره. فلم يزل يداخل الرسول إلى أن عاد إلى السلطان وأعلمه بالخبر على جليّته، فقبض على الثمانية.
وكان عمارة لمّا أحسّ بالطلب فرّ ولجأ إلى دار القاضي الفاضل. فلمّا علم به أغلق بابه، وقيل له:
القاضي نائم- فأنشد [الكامل]:
عبد الرحيم قد احتجب
…
إنّ الخلاص من العجب
وأنشد أيضا، وهما لا يوجدان في ديوانه [سريع]:
أعوذ بالله السميع العليم
…
ممّن ذمّني ثمّ بعبد الرحيم
تثنية لم تكد عن شركة
…
لكن كريم ناب عنه كريم.
وبينا هو يريد الفرار إذ أدركه الأعوان وأخذوه.
وكان قد وقع لعمارة أمور لا يحتمل مثلها الملوك: منها أنّه كما تقدّم كان خصيصا بشاور، فلمّا قتل صلاح الدين يوسف شاور كما ذكر في ترجمته (1*) وصار الأمر لعمّه شيركوه ثم له، وأزال الدولة الفاطميّة، أخذ في محو آثارها وطمس مبارّها، ورأى هو ومن وافقه أنّه قد قام بأمر دينيّ، وأنّ القوم كانوا كفّارا، ونحو ذلك من شنيع القول. فشرع عمارة في معارضة السلطان وإشاعة فضائل الخلفاء الفاطميّين وذكر محاسنهم، ورثاهم بالقصيدة التي لم يسمع فيما بكيت به دولة بعد انقراضها مثلها، وقد ذكرتها في ترجمة العاضد (2*).
وحضر في سنة سبع وستّين وخمسمائة عند نجم الدين أيّوب والد السلطان صلاح الدين يوسف بمنظرة اللؤلؤة وكانت مسكنه وحضر أيضا يحيى ابن أبي حصينة الشاعر، فأنشد ابن [أبي] حصينة نجم الدين أيّوب مدحا فيه [البسيط]:
يا مالك الأرض لا أرضى له طرفا
…
منها وما كان منها لم يكن طرفا
قد عجّل الله هذي الدار تسكنها
…
وقد أعدّ لك الجنّات والغرفا
تشرّفت بك عمّا كان يسكنها
…
فالبس بها العزّ ولتلبس بك الشرفا
كانوا بها صدفا والدار لؤلؤة
…
وأنت لؤلؤة صارت لها صدفا
(1*) ترجمة شاور مفقودة.
(2*) وكذلك ترجمة العاضد عبد الله بن يوسف مفقودة.
فامتعض عمارة وغرّه ما كان منه في مجلس شاور من الثناء على بني رزيّك وأنشد:
أثمت يا من هجا السادات والخلفا
…
وقلت ما قلت في ثلبهم سخفا
جعلتهم صدفا حلّوا بلؤلؤة
…
والعرف ما زال سكنى اللؤلؤ الصدفا
وإنّما هي دار حلّ جوهرهم
…
فيها وشفّ فأسناها الذي وصفا
فقال لؤلؤة عجبا ببهجتها
…
وكونها حوت الأشراف والشرفا
فهم بسكنائها الآيات إذ سكنوا
…
فيها ومن قبلها قد أسكنوا الصحفا (1)
[171 أ] والجوهر الفرد نور ليس يعرفه
…
من البريّة إلّا كلّ من عرفا
لولا تجسّمهم فيه لكان على
…
ضعف البصائر للأبصار مختطفا
فالكلب يا كلب أسنى منك مكرمة
…
لأنّ فيه حفاظا دائما ووفا
فطارت هذه الأبيات كلّ مطار وعدّت على عمارة. ثم ما قنع بها حتى زاد في التعصّب ولم يفكّر في عاقبته، وقال عند ما أخذ المظفّر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيّوب منازل العزّ التي بمدينة مصر وسكنها [البسيط]:
لي بالديار غداة البين وقفات
…
أبكي رسوما خلت منهنّ سادات
هي المنازل لي فيها علامات
…
من بعد سكّانها أهل العلى ماتوا
منازل العزّ يبكيني تشعّثها
…
منازل لم تزل عندي عزيزات
شاورت أبله قلبي في السلوّ وقد
…
يقال للبله في الدنيا إصابات
فقال: رأي ضعيف لست أقبله
…
كيف السلوّ ولي في القوم نيّات
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
…
وعاش قوم وهم في الناس أموات
يا ربّ إن كان لي في وصلهم طمع
…
عجّل عليّ فللتأخير آفات
ولم يكتف بهذا حتّى قال يهجو تقيّ الدين عمر، وهو شرارة القوم [السريع]:
عظّمتما الأمر وفخّمتماه
…
فما ابن شاهنشاه إلّا ابن شاه
الشاة لا ينكحها ضيغم
…
إن شئتم أخبرتكم من أباه
فمن تكون الشاة أمّا له
…
فما يكون التيس إلّا أباه
فشنّعت القالة عليه وصار في نصاب من يذمّ أولياء السلطان ويمدح أعداءه وينازعه في أغراضه ومقاصده، وهذه خلال لا يحتملها السلطان فتنبّهت له أعين الرقباء، ونصبت له الأعداء حبائل المصائب وبحثوا عن عوراته فألّفوا له بيتا أفتى فقهاء مصر حينئذ بتكفيره وقالوا: هذا منه تصريح بأنّ النبوّة مكتسبة وتمالئوا على قتله، وحسابه وحسابهم على الله الذي لا يظلم مثقال ذرّة.
والبيت [البسيط]:
قد كان أوّل هذا الدين من رجل
…
سعى إلى أن دعوه سيّد الأمم
فأخرج به وبالجماعة في يوم السبت الثاني من شهر رمضان سنة تسع وستّين وخمسمائة إلى بين القصرين، وقيل له عند ما أحضر إلى الخشب:
أنت اشتهيت هذا ودعوت الله، وقد استجاب
(1) في النكت، 1/ 292: فهي بسكّانها
…