الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علينا وعلى أهل ملّتنا ودعوتنا بما ينعش العاثر، ويبرئ السقيم، ويفكّ الأسير، ويشفي المريض.
اللهمّ، العن أهل بيت اللعنة، وأنزل بهم النّقمة، وحقّق فيهم الرواية، واحصدهم بالسيف حصدا، إنّك على كلّ شيء قدير وبكلّ شيء عليم.
وكان يصلّي في كلّ يوم خمسمائة ركعة ويقول: هذه صلاة أبي وجدّي.
وتحيّن غفلة ممّن كان وكّل به حين حمل فكتب كتابا إلى أبي العبّاس ورفعه إلى سابق مولاه وأمره أن يوصله إليه.
فلمّا وقف بباب مروان بحرّان أسرّ إلى سابق شيئا سئل سابق عنه بعد ذلك فقال: أمرني أن أقرأ على أبي العبّاس السلام وأعلمه أنّه وصيّه بأمر الإمام محمد بن علي.
وكانت نسخة الكتاب بعد البسملة: حفظك الله يا أخي بحفظ أهل الإيمان، وتولّاك بالخير والإحسان. كتابي إليك وقد وردت حرّان، والرجل قاتلي لا محالة. فإذا أنا هلكت فأنت الإمام الذي يقيم أمرنا ويرعى حرمة أوليائنا ودعاتنا. ويتمّ الله به وعلى يديه ما أثّلنا وأثّل أوائلنا. فعليك، أي أخيّ، بتقوى الله وطاعته في قولك وفعلك، وإصلاح نيّتك ليصلح الله لك عملك. واستوص بأهل دعوتنا وشيعتنا، واحفظ عبد الرحمن أميننا والساعي في أمورنا، وعرّف أهل خراسان ما توجبه له بإيثاره طاعتنا. ولا يكوننّ لك رأي ولا لأهلنا إلّا الشخوص عن الحميمة وكداد إلى أوليائنا وشيعتنا بالكوفة مخفين لأشخاصكم مستترين عمّن تخافون غيلته لكم وسعيه بكم إن شاء الله. وأنا أستودعكم الله وحده وأسأله لكم الصنع والكفاية، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
[خروج أبي العبّاس إلى الكوفة]
ويقال: لمّا قتل إبراهيم الإمام كان أبو العبّاس أوّل من خرج من الحميمة لخوفه على نفسه بمصير الإمامة إليه. فلقيه عمّه داود بن علي بدومة الجندل فقال: يا ابن أخي، أين تريد؟
قال: الكوفة.
قال: أتأتي الكوفة وشيخ بني مروان (1*) بحرّان مطلّ على العراق في خيل العرب ورجالها؟
فقال: يا عمّ، إنّ الله إذا أراد أمرا بلّغه، ومن أحبّ الحياة ذلّ.
ثم تمثّل [ببيت الأعشى- طويل]:
وما ميتة إن متّها غير عاجز
…
[بعار] إذا ما غالت النفس غولها [69 أ](2*)
فالتفت داود إلى ابنه موسى فقال: صدق ابن عمّك! فارجع بنا معه نحيا أعزّاء أو نموت كراما.
فلم يزل أبو العبّاس وأهل بيته بالكوفة حتّى ولي الخلافة.
وقال الهيثم بن عديّ عن معن بن يزيد الهمداني:
كنا نتحدّث أنّ الجعديّ قتيل ابن الحارثيّة.
[ظهور أبي مسلم]
وكان ممّا زاد أمر أبي مسلم بخراسان قوة العصبيّة التي وقعت بين مضر وبين ربيعة واليمن بسبب تقديم نصر بن سيّار الكنانيّ بني تميم وتوليته إيّاهم وتعصّبه على ربيعة واليمن، حتى غضب جديع بن سعيد (3*) بن قبيصة بن سرّاق الأزديّ- المعوف بالكرمانيّ لأنّه ولد
(1*) الطبريّ: وشيخ بني مروان، مروان بن محمّد.
الكامل: وشيخ بني أميّة، مروان بن محمد.
(2*) في المخطوط: وما موتة. والتصحيح من ديوان الأعشى، 277 (رقم 23) ومن الطبريّ ومن الكامل لابن الأثير.
(3*) في الكامل 4/ 275: جديع بن علي.
بجيرفت (1) من كرمان- وكلّم نصرا مرّة بعد مرّة فأغلظ له حتى أمر بحبسه. فأخرجه غلام له من مجرى ماء وهو متسلّح، فاجتمعت إليه اليمن وربيعة. فلم يزل نصر يحاربه. ثم انفرد بمحاربته الحرث بن سريج (2) بن يزيد المجاشعيّ فقتله الحرث وصلبه نصر بن سيّار وعلّق معه سمكة يعيّره بعمان وصيد السمك.
فقام علي بن جديع مقام أبيه فقاتله الحرث بن سريج فقتل الحرث (3).
وقيل: إنّ الحرث قاتل جديع بن سعيد فقتله جديع. ثمّ وثبت تميم وفيهم حاتم بن الحرث بن سريج فقتلوا جديعا.
فكان تشاغل نصر بن سيّار بهذه الحروب فرصة انتهزها أبو مسلم. فقوي فيها أمره حتى أظهر دعوته في شعبان سنة تسع وعشرين ومائة، وكانت من قرب ومن بعد، وأمر أصحابه بإظهار أمرهم والدفع عن أنفسهم وتجريد السيوف وجهاد أعداء الله. فأتاه في ليلة واحدة أهل ستّين قرية. فعقد اللواء الذي بعث به الإمام- ويقال له: الطّلّ- على رمح طوله أربع عشرة ذراعا (4)، وعقد الراية التي بعثها الإمام أيضا- وتدعى «السحاب» - على رمح ارتفاعه ثلاث عشرة ذراعا، وهو يتلو قول الله سبحانه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج: 39]. ولبس السواد هو والدعاة ومن أجابهم، وأشعلوا النيران، وذلك في
ليلة الخميس لخمس بقين من شهر رمضان [سنة 129] وهو يومئذ بقرية من قرى مرو. فاجتمع الناس إليه في يوم الخميس [و] قد استعدّوا.
وتأوّل أبو مسلم الطلّ والسحاب بأن السحاب يطبّق [69 ب] الأرض، فكذلك دعوته تطبّق الأرض، وأنّ الأرض كما أنها لا تخلو من الطلّ فكذلك لا تخلو من خليفة عبّاسيّ آخر الدهر.
وقدمت الدعاة عليه بمن أجاب الدعوة فحصّن قريته وسدّ دروبها.
وأتاه سليمان بن كثير في يوم عيد الفطر فصلّى به وبالشيعة، ونصب له منبرا في عسكره، وبدأ بالصلاة قبل الخطبة من غير أذان ولا إقامة وكبّر ستّا تباعا، ثم قرأ وركع، وكبّر في الثانية خمسا، ثم قرأ. وافتتح خطبته بالتكبير وختمها بالقراءة، على ما رسمه لهم الإمام، وهو سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخالف بذلك ما أحدثه بنو أميّة من تقديم الخطبة على الصلاة، ومن تكبيرهم أربعا في الأولى وثلاثا في الثانية بعد القراءة.
فلمّا قضى سليمان بن كثير الصلاة والخطبة؛ انصرف أبو مسلم والشيعة إلى طعام قد أعدّه فأكلوا واستبشروا بنصر الله وتأييده.
ثم كتب أبو مسلم إلى نصر بن سيّار يدعوه، وتعاظم في مكاتبته، فندب نصر لقتاله عسكرا، فأخرج لهم أبو مسلم طائفة من أصحابه فهزموهم وقتلوا منهم. وكان الكرمانيّ لمّا قتل قام بأمر عسكره ابنه عليّ بن جديع، وأظهر خلع مروان [بن محمد]، فانضمّ إليه خلق كثير.
هذا وقد سار شيبان الصغير ابن عبد العزيز الخارجيّ من سجستان إلى خراسان، فكتب إليه عليّ ابن الكرمانيّ: إنّك ونحن خالعون لمروان، فصر إلى التجمّع على محاربة أوليائه أولياء الشيطان.
(1) جيرفت: من أعيان مدن كرمان (ياقوت).
(2)
يدقّق ابن الأثير 4/ 203: ابن سريج «بالسين المهملة والجيم» .
(3)
قتل الحرث وصلب سنة 128 (الكامل 4/ 294 - الطبري 6/ 2). وفي المخطوط: ابن شريح، وأخذنا بقراءة الطبريّ ودائرة المعارف الإسلامية، 3/ 230 ب.
(4)
هكذا في المخطوط بتأنيث الذراع. ولعلّها تعامل كجملة الأعضاء المثناة في بدن الإنسان.
فقدم عليه ووافقه فقاما بحرب نصر بن سيّار، فازداد بذلك أبو مسلم قوّة إلى قوّته وتمكّنا في بلاد خراسان لاشتغال نصر عنه بما دهمه. ثم إنّ أبا مسلم مال إلى ابن الكرمانيّ وأظهر طاعته وسلّم عليه بالإمرة فانخدع له وركن إليه. فقال له أبو مسلم: إنّه قد قوي أمرك ووهن أمر نصر، فابعث الآن عمّالك على النواحي.
فمشى ذلك عليه (1) وبعث ثقاته. فكان إذا بعث برجل إلى ناحية في جماعة، بعث أبو مسلم إليها مع أحد أصحابه بأضعاف ما بعث ابن الكرمانيّ فيدعون إلى الرضى من آل محمد، والناس تستجيب لهم حتّى كثف جمع أبي مسلم فانفرد بعسكره. وبعث إلى نصر بن سيّار وإلى عليّ ابن الكرمانيّ يقول لهما: إنّي رجل يدعو إلى الرضا من آل محمد، ولست أعرض لكم ولا أعين [70 أ] منكم أحدا على صاحبه.
فلمّا رأى قوّة أبي مسلم بعث إليه يسأله موادعته وأن يدخل مرو. فاغتنم ذلك ومضى إليها وزوى أصحاب ابن الكرماني وأصحاب نصر عنها فدخلها في ربيع الأوّل سنة ثلاثين ومائة، وهو يقرأ:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها [القصص:
15]. فلمّا تمكّن من مرو واستولى عليها قال نصر: «لا مقام لنا معه لما أرى من إقبال هذا الرجل وإدبار أمرنا» . وبعث إلى ابن الكرمانيّ:
«هذا رجل يظهر الميل إليك وإنّما يريد ختلك، فصالحني» . فصالحه على أن يكون أمرهما واحدا، وإن حاربه أبو مسلم رجعا إلى ناحية مرو.
وكان أبو مسلم يظهر لابن الكرمانيّ إعظاما وإجلالا، حتى إذا ضبط أمر خراسان، وغلب أصحابه ودعاته عليها، ومال الناس إليه من كلّ
أوب، اشتدّ حجابه، وغلظ أمره واستفحل، وبعث رسله إلى نصر بن سيّار، وقد آنسه وبسطه وضمن له أن يكفّ عنه ويقوم بشأنه عند الإمام. وأعلمه أنّ كتابا أتاه من الإمام يعده فيه ويمنّيه ويضمن له الكرامة. وكان رسله لاهز بن قريظ وسليمان بن كثير وعمران بن إسماعيل وداود بن كراز، وقال لهم: إنّي أريد مشافهته و [أن] أقرأ عليه كتاب الإمام.
فلمّا أتوه تلا [70 ب] إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص: 20]. فتنبّه نصر على ما أراد من تحذيره فقال: «أنا صائر معكم إلى الأمير أبي مسلم» . ودخل بستانا كأنّه يلبس ثيابه، ثم ركب وابنه وهرب إلى الريّ فمات. وسأل أبو مسلم:
«هل أنذره أحد؟ - فأخبر بتلاوة لاهز الآية. فدعاه وقال: «يا لاهز، أعصبيّة في الدين؟ قوما فاضربا عنقه» ، فضربت عنقه. وبعث أبو مسلم إلى ابن الكرمانيّ من قبض عليه وأتاه به فحبسه. وكان أخوه عثمان بن جديع بناحية هراة. فكتب أبو مسلم إلى أبي داود خالد بن إبراهيم في أمره، فقال لهأبو داود: إنّ الأمير أبا مسلم كتب إليّ في عبور النهر لأمر ستعرفه، فإذا عبرناه خلّيت بينك وبين ما وراء النهر وانصرفت أنا إليه.
فمشت حيلته على عثمان ومضى معه، فقال:
«لا يعبر إلّا أصحاب عثمان» . فعدوا حتى إذا بقي في نفر وثب به أبو داود فقتله، وبعث برأسه إلى أبي مسلم. فأخرج عند ذلك عليّا وقتله.
وكان قد وادع شيبان إلى مدّة، فوجّه له جيشا فواقعوه فكشفوه. وصار إلى ناحية أبيورد، وأهلها أوّل من سوّد. فكتب إليه أبو مسلم أن بايع للرضى من آل محمد حتى لا أعرض لك.
فبعث إليه: بل بايعني [71 أ] أنت.
(1) هذا التعبير من كلام المقريزي، لا من منقوله.
فكتب أبو مسلم إلى بسّام بن إبراهيم مولى بني ليث بن بكر، وهو بأبيورد في مناهضته فناهضه وقتله وأصحابه إلّا عدة تفرّقوا في البلاد. ويقال:
بل صاروا إلى نصر بن سيار قبل هربه. وما أحسن ما كتب به نصر بن سيّار إلى ربيعة واليمن عند ما ظهر أبو مسلم [البسيط]:
أبلغ ربيعة في مرو وذا يمن
…
أن اغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب (1)
ما بالكم تنشبون الحرب بينكم
…
كأنّ أهل الحجى عن رأيكم غيب
وتتركون عدوّا قد أحاط بكم
…
ممّن تأشّب لا دين ولا حسب
لا عرب مثلكم في الناس نعرفهم
…
ولا صريح موال إن هم نسبوا
من كان يسألني عن أهل دينهم
…
فإنّ دينهم أن تهلك العرب
قوم يقولون قولا ما سمعت به
…
عن النبيّ ولا جاءت به الكتب
وكان ممّا صنع الله لأبي مسلم أنّ يزيد بن عمر بن هبيرة عامل مروان على العراق كان مبغضا لنصر بن سيّار مستثقلا لولايته خراسان فكتب إليه نصر [البسيط](2):
أبلغ يزيد، وخير القول أصدقه
…
وقد تيقّنت أن لا خير في الكذب
بأنّ أرض خراسان رأيت بها
…
بيضا لو افرخ قد حدّثت بالعجب
وقد وجدنا فراخا بعد قد كثرت
…
لمّا يطرن، وقد سربلن بالزّغب
إلّا تدارك بخيل الله معلمة
…
ألهبن نيران حرب أيّما لهب (1*)
فقال يزيد: لا عليه، فما عندي واحد أمدّه به.
وكتب نصر إلى مروان يستمدّه فأمدّه بنباتة بن حنظلة الكلابيّ فقتل بجرجان. وكتب نصر إلى مروان [الوافر]:
أرى خلل الرماد وميض جمر
…
حريّ أن يكون له ضرام
فقلت من التعجّب: ليت شعري
…
أأيقاظ أميّة أم نيام؟
فإلّا تطفئوه يجرّ حربا
…
يكون وقودها قصر وهام (2*)
(1) الأبيات في العقد 4/ 478 مع اختلاف في البيت الأوّل- وإضافة بيت:
ف
…
في مرو وإخوتهم
…
فليغضبوا
…
ولينصبوا الحرب إنّ القوم قد نصبوا
…
حربا تحرّق في حافاتها الحطب
(2)
الأبيات في المروج 4/ 81. وفي المخطوط: أنّ خراسان أرض، ولا يستقيم به الوزن.
(1*) في تاريخ الطبري (سنة 6/ 37 (129) ورد البيتان 3 و 4 على هذا النحو:
فراخ عامين إلّا أنّها كبرت
…
لمّا يطرن
…
فإن يطرن ولم يحتل لهنّ بها
…
يلهبن
…
(2*) انظر الطبري 6/ 36 والمروج 4/ 79. وقد وردت فيهما أبيات أخرى:
فإنّ النار بالعودين تذكى
…
وإنّ الحرب أوّلها كلام
فإن لم يطفئوها يجرّ حربا
…
مشمّرة يشيب لها الغلام
فإن يك قومنا أضحوا نياما
…
فقل: قوموا فقد حان القيام
فصدّي عن رحالك ثمّ قولي
…
عن الإسلام والعرب السلام
وقد ترك المؤلّف مكانا فارغا للأبيات الثلاثة. والقصر بالتحريك ج قصرة وهي الرقبة والعنق، وفي اللسان:
…
في حومة تحتها الهامات والقصر.