الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيها من الرجال وتحملهم!
وأظهر الخلع، وحضّ على طاعة آل أبي طالب. ووجّه إلى إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن، وهو مستخف، يسأله أن يشخص إليه. فلم يفعل. فنصب رجلا قال إنّه إبراهيم بن عبد الله اسمه يزيد، ولبس البياض وأقام يزيد خطيبا في يوم جمعة فدعا على المنصور. ثمّ خطب ثانيا وذكر من قتل المنصور من آل علي فبكى وأبكى الناس [100 ب] فولّى المنصور ابنه محمد المهديّ خراسان، ووجّه معه خازم بن خزيمة. فنزل الريّ ووجّه خازما إلى خراسان.
وخرج على عبد الجبّار الحسن بن حمران مولى مطر بن وسّاج أخي بكير بن وسّاج، ودعا للمنصور وحضّ على التمسّك بطاعته والوفاء ببيعته. ثم إنّه غيّر وبدّل فبعث إليه خازم من حاربه فقتله وأتاه برأسه.
وخرج على عبد الجبّار أيضا أبو جابر أشعث بن الأشعث الطائيّ وقتل عامل بخارى وأخذ الأموال.
وخرج أيضا حرب بن زياد الطالقاني، من العجم، على عبد الجبّار وحاربه وقتل يزيد المدّعي أنّه إبراهيم. وانهزم عبد الجبّار حتّى بقي في خمسة نفر، فقبض عليه الجنيد بن خالد بن هريم وحمله عريانا إلى خازم وهو بسرخس، فبعث به خازم مع نضلة بن نعيم بن خازم إلى المهديّ وهو بنيسابور فوجّه به إلى المنصور. فلمّا أوقف بين يديه قال: استبقني يا أمير المؤمنين، ولا تذهبنّ زلّتي بحسن بلائي وحرمتي وما كان منّي في هذه الدعوة.
فقال: «يا ابن اللخناء، قتلت نظراء قحطبة وطبخت أولياءنا طبخا! » وكانت له قدر عظيمة وكان أبو مسلم أصابها، فكان يغلي فيها الدهن ثمّ يقيم الرجل من العبّاسيّة فيه حتى ينفسخ. ثم أمر به المنصور أن تقطع يده ورجله، فقال: يا أمير المؤمنين، قتلة كريمة!
فقال: يا ابن اللخناء، تركتها بخراسان!
فقتل وصلب بالكوفة، ونفيت عياله إلى [101 أ] دهلك فسبتهم الحبشة وباعتهم، فاشتراهم عبد الصمد بن علي أمير المدينة، وبعث بهم إلى العراق. وقبض المنصور على عبد العزيز أخي عبد الجبّار وقتله، وكان على البصرة، وولّى عوضه سوّار بن عبد الله بن قدامة العنبريّ. ثمّ ولّاها هزارمرد، وهو عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة، وجعل سوّارا على الصلاة والقضاء.
وقدم حرب بن زياد على المنصور في وجوه أهل خراسان، فردّه إليها واليا عليها فهمّ بالخلع وأطلق لسانه بقول سيّئ. فكتب المنصور إلى وجوه أهل خراسان في أمره، فقتل ببلخ.
وأحرم المنصور في سنة أربعين ومائة من الحيرة وحجّ بالناس. ثمّ أتى المدينة ومضى إلى بيت المقدس زائرا. ثمّ انصرف منه في سنة إحدى وأربعين إلى الرقّة فقتل منصور بن جعونة العامريّ، ومضى إلى الكوفة.
وتوجّه في سنة اثنتين وأربعين إلى البصرة، فولّى عمر بن حفص السند.
[مواعظ عمرو بن عبيد للمنصور]
ودعا بعمرو بن عبيد مولى بني تميم فوصله، فلم يقبل صلته، فقال له: بلغني أنّ محمد بن عبد الله بن حسن كتب إليك يدعوك إلى طاعته فأجبته؟
وكان محمد مستخفيا يبث دعاته.
فقال: يا أمير المؤمنين، والله لو قلّدتني الأمّة اختيار إمام لها ما وجدته، فكيف أجيب محمّدا وأبايعه؟ لقد كتب إليّ فما أجبته.
فقال: صدقت يا أبا عثمان وبررت.
فلمّا ولّى قال: من مثلك يا عمرو؟
وقدم المهديّ من خراسان، فبنى بامرأته ريطة بنت عمّه أبي العباس بالحيرة في شهر رمضان سنة أربع وأربعين. وحجّ مع المنصور في هذه السنة، فدعا المنصور عمرو بن عبيد- وقد حجّ أيضا- وأكرمه، وسأله أن يعظه، فوعظه. وقضى عمرو حجّته وانصرف فمات في طريقه في آخر السنة.
فقال المنصور لمّا بلغه موته: يرحم الله عمرا! هيهات أن يرى مثل عمرو!
وقال الهيثم بن عديّ: لمّا بايع المنصور للمهديّ، كتب إلى عمرو بن عبيد كتابا لطيفا يستزيره فيه، وكتب إلى عامله على البصرة في إشخاصه مكرّما. فلمّا صار إليه بالكوفة ودخل عليه استدناه وقال: كيف كنت بعدي أبا عثمان؟
فقال: أحمد الله وأذمّ عملي.
فتغرغرت عينا المنصور. ثم قال له: عظني يا أبا عثمان!
[101 أب] فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها، واعلم أنّ الأمر الذي صار إليك، لو بقي لمن قبلك، لم يصل إليك. واعلم أنّك أوّل خليفة يموت فاحذر يا أمير المؤمنين ليلة صبيحتها القيامة، ليلة يتمخض [
…
] الفزع الأكبر. إنّ الله يقول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ [الفجر: 6 - 7] إلى قوله: «لبالمرصاد» . ثمّ قال: هذا تخويف لمن سلك جادّتهم واتبع آثارهم.
فبكى المنصور ونزل عن فرشه ثمّ سكن فقال:
«يا أبا عثمان، ناولني هذه الدواة! » فأبى أن يناوله، فقال له: والله لتناولنّها!
فقال: والله، لا ناولتك إيّاها!
فقال له المهديّ، وكان حاضرا: يحلف عليك أمير المؤمنين، فترادّه باليمين؟
فقال: إنّ أمير المؤمنين أقدر على الكفّارة منّي. (ثمّ قال: ) من هذا الفتى يا أمير المؤمنين؟
فقال: هذا ابن أخيك، هذا محمد المهديّ وليّ عهد المسلمين.
فقال: أرى شبابا وجمالا ونشاطا. وقد رشّحته لأمر يصير إليه إن صار، وأنت عنه في شغل، وقد وطّأت له الدنيا وأنت منتقل عنها إلى الآخرة.
فهناك الحساب! إنّ الله جعلك فوق كلّ أحد فلا ترض أن يكون فوقك في طاعته أحد!
ثم سكت عمرو. فقال المنصور: سلني حوائجك.
فقال: حاجتي ألّا تبعث إليّ حتّى أجيئك ولا تعطيني شيئا حتى أسألك.
ثم نفض ثوبه وقام. فأتبعه المنصور بصره وقال: شغل والله الرجل بما هو فيه عمّا نحن فيه.
وقال: [الرمل]:
كلّهم طالب صيد
…
وهو ذو مشي رويد
غير عمرو بن عبيد
ودخل عمرو بن عبيد مرّة على المنصور، وعليه طيلسان مخرّق، فأخذ المنصور طيلسانا كان عليه طبريّا فألقاه فوق ظهره، وقال له:«عظني! » .
فوعظه حتى بكى. ثم قال له: سلني حوائجك.
قال: أوّلها أن تأمر برفع الطيلسان عنّي. وألّا تعطيني شيئا حتى أسألك. ولا تبعث إليّ حتى
أجيئك، فإنّه إن جمعني وإيّاك بلد صرت إليك فيه.
ثمّ مضى.
وعن أبي زيد الأنصاري قال: مشى شبيب بن شبيبة ونفر معه إلى عمرو بن عبيد فقالوا: يا أبا عثمان، إنّ أمير المؤمنين المنصور قدم، ولا نراه قدم إلّا لمكانك لينظر فيما بلغه من كتاب محمد إليك، فتنحّ!
فأطرق، ثمّ قال: لا يكون والله ذاك حتى أقوم بما يجب لله عليّ.
فقال المنصور لعمرو: أبايعت محمد بن عبد الله؟
فقال: لو قلّدتني الأمّة أن أختار لها رجلا ما وجدته. فكيف أبايع محمدا؟
وكتب المنصور إلى عمرو كتابا على لسان محمد. فلمّا قرأه خرّقه. فطلب الرسول [102 أ] الجواب فلم يجبه، فألحّ الرسول عليه فقال:
دعونا نشرب الماء البارد وننتقل في هذا الظلّ إلى أن يأتي الموت!
فقال المنصور: هذا ثغر قد أمنّاه.
وقال الربيع: دخل عمرو بن عبيد على المنصور. فدخل رجل حسن الأدب كأنّما لم يزل مع الملوك. فأجلسه المنصور إلى جانبه، فأبى أن يجلس إلّا بين يديه. ثمّ قال له: إنّ الله واقفك وسائلك عن مثاقيل الذرّ من الخير والشرّ، وإنّ أمّة محمد خصماؤك يوم القيامة، وإنّك لا ترضى نفسك إلّا بأن يعدل عليك، وإنّ الله لا يرضى منك إلّا بالعدل على رعيّتك. يا أمير المؤمنين، إنّ على بابك نيرانا تأجّج من الجور.
فبكى المنصور ونشج. فقال سليمان بن مجالد: يا عمرو، قد شققت على أمير المؤمنين!
فقال عمرو: ويحك! إنّ أمير المؤمنين ميّت ومخلّ ما في يديه من هذه الدنيا ومرتهن بعمله.
وأنت غدا جيفة بالعراء لا تغني عنه شيئا، ولقرب هذا الجدار منه خير له من قربك. يا أمير المؤمنين، إنّ هؤلاء اتخذوك سلّما إلى درك إرادتهم وصفاء دنياهم لهم وكلّهم يوقد عليك.
قال: فكيف أصنع يا أبا عثمان؟ ادع إليّ أصحابك أستعملهم!
قال: ادعهم أنت واطرد هؤلاء الشياطين عن بابك! فإنّ أهل الدين لا يأتون بابك، وهؤلاء يحيطون بك، لأنّهم إن باينوهم فلم يعملوا بأهوائهم أرّشوك (1*) بهم وحملوك عليهم. والله لئن رآك عمّالك لا تقبل منهم إلّا العدل ليتقرّبنّ إليك به من لا نيّة له فيه!
وعن أبي زيد قال: قدم المنصور البصرة قبل الخلافة. فقال عمرو بن عبيد لبحر بن كنيز السقّاء: قد قدم هذا الرجل، وكان لنا زوّارا إذا [102 ب] قدم بلدنا، فامض بنا إليه!
فأتياه. فلمّا وقفا ببابه نادى عمرو: «يا جارية! » فأجابته جارية، فقال: قولي لأبي جعفر: «أبو الفضل وأبو عثمان» . فأذن لهما فدخلا عليه فإذا هو على مصلّى مخلق دارس، وإذا بين يديه طبق عليه قصعة فيها مرق لا لحم فيه. فقال: يا جارية، أعندك شيء تزيديناه؟
قالت: لا.
قال: فعندك درهم يشترى به فاكهة لأبي عثمان؟
قالت: لا.
قال: ارفعي! عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 129].
(1*) أرشه وأرّشه به: أغراه وحرّضه عليه.