الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الحكم [163 ب] بن عبد الله، وعبد الرحمن بن عبد الله صاحب كتاب فتوح مصر، وسعد بن عبد الله، وقد ذكرنا الأربعة في مواضعهم من هذا الكتاب (1).
ولعبد الله أيضا من الكتب كتاب الأموال، وكتاب فضائل عمر بن عبد العزيز.
وخرّج له النسائيّ.
وكانت وفاته بمصر ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربع عشرة ومائتين. وقبره إلى جانب قبر الشافعيّ. وهو الأوسط من القبور الثلاثة.
1497 - ابن عبد الحميد [العمريّ] الناسك [- بعد 255]
(2)
[164 أ] عبد الله بن عبد الحميد بن عبد الله الناسك، ابن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله بن عمر الخطّاب رضي الله عنه، أبو عبد الرحمن، العمريّ، العدويّ، القرشيّ.
ولد بالمدينة ونشأ بها. وقدم مصر وجالس محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وسمع منه الناس الحديث.
ثمّ مضى إلى إبراهيم بن الأغلب بالقيروان ومدحه، فوصله بألف دينار.
وعاد في سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى مصر.
وكانت فيه أدوات من فقه وأدب وشعر ومعرفة
بالنجوم والفلسفة. فبلغه خبر المعدن وإشارة الناس للتبر، فاشترى عبيدا لعمل المعدن وسار إلى أسوان على سبيل التجارة، ونزل بها وجالس شيوخها وجاراهم العلم.
ثمّ دخل المعدن ونزل على حيّ من مضر، فوقع بين المضريّة والربعيّة اختلاف بسبب رجل قتل من مضر، فاجتمع الفريقان وأقيد القاتل ووهب وليّ المقتول الدم. ولم يحضر العمري فغضب من ذلك ورحل عنهم فلحقته جماعة من القوم ليترضّوه فامتنع عليهم وقال: نقمت عليكم اطّراحي إذ لم تحضروني هذا الأمر.
قالوا: ما علمنا أنّك تختار هذا. فإذ قد رغبت إلى مثله فلا خلاف عليك منّا، ولا نورد ولا نصدر بعد هذا إلّا عن أمرك.
وأتبعوا القول أيمانا مؤكّدة. فانتهز الفرصة بيمين القوم وجعلها بيعة فانحاز إلى معدن ممّا يلي الجنوب، وكانت المياه على بعد وربّما عطشوا.
فنظر ذات يوم إلى طير فقال: هذا من طيور الشطوط، وأحسب أنّ النيل قريب، فوجّه الوارد فكان كما قدّر، وعاد إليه من يومه بقرب الماء وأخبره بما شاهد من بلد مقرّة، وأنّهم في ظهره.
فسرّ بذلك وأمر الناس بالورود. فأنكرت النوبة شأنهم وقبضوا على جماعة منهم. فصار إليهم والتمس خلاصهم بعد أن راسل وتلطّف، وبعدعطش شديد نالهم بتأخّر الوارد حتى بلغت الشنكة (1*) در همين تبرا، فعرف ذلك المعدن من حينئذ بالشنكة. وسأل العمريّ النوبة أن يجعلوا له
(1) عبد الرحمن وعبد الحكم مفقودان. وسعد مفقود مع حرف السين. وكذلك محمد بن عبد الله بن عبد الحكم.
(2)
لم نجد له ترجمة غير هذه. وذكر باقتضاب في الخطط، 1/ 317، 321 أو 196، 199. وانظر فصل: وادي العلّاقي بدائرة المعارف الإسلامية 1/ 430.
(1*) في المخطوط: الشنكة الماء. ولم نجد الكلمة في المعاجم. وفي بلدان اليعقوبيّ، 335 طبعة أوروبا:
السنطة. وليست السنطة عند ياقوت من بلاد النوبة بل هما قريتان بمصر. وفي أحد مخطوطات اليعقوبيّ:
هامش 4: الشنكة كما هنا.
طريقا للورود إلى الماء لا يتجاوزون حدّها، فامتنعوا من ذلك وقتلوا من أسروا من أصحابه.
فشقّ عليه فعلهم وعاد إلى أصحابه واستنفر الناس فاجتمعوا إليه وحلفوا له. فأمرهم بإحضار آلة المعدن. فلمّا حضرت أمر بضربها حرابا. وسار إلى النوبة في غفلة [164 ب] منهم فوقع بموضع يعرف بشنقير قبليّ مدينة دمقلة بنحو من شهرين.
والنيل ينعطف في هذا الموضع إلى مطلع الشمس حتى يصير بينه وبين الشنكة بعض نهار يوم، ثمّ يعود النيل إلى الغرب ويرجع إلى الشرق. فبهذا التعطّف طالت المسافة على سالك النيل. وقد تركت النوبة هذه العطوف وجعلت طريقها المجادب فصارت تقطع مسيرة شهر في يومين.
فنكى العمريّ في النوبة وقتل منهم مقتلة عظيمة، وكثر السبي عند أصحابه حتى إنّ أحدهم كان يحلق رأسه فيعطي المزيّن (1) رأسا. وانحازت النوبة إلى الغرب بالمراكب بجميع ما لهم. فاختار العمري جماعة من أصحابه وأمرهم بنفخ القرب والعبور عليها ليلا. وكبس النوبة وأخذ المراكب منهم.
واتّفق أنّ واحدا من أصحابه قال بعد ما وصل إلى الغرب: «يا قوم أخرجوني من الماء، فإنّ التمساح قطع رجلي! » وكان قد أتى عليه وهو سائر فخشي أن يفسد أصحابه عن عزمهم. فصبر حتى وصلوا إلى حيث النوبة.
وأوقع القوم بالنوبة فظفروا ووصلوا إلى الجزائر والغرب بالمراكب التي أخذوها.
وكتب العمريّ إلى أسوان يسأل التجّار الخروج إليه بالجهاز من طريق المعدن. فخرج إليه رجل
يعرف بعثمان بن حجلة (1*) التميميّ في ألف راحلة فيها الجهاز والبرّ. فقام إليه العمريّ وتلقّاه وسرّ بذلك. وكثر رقيقهم بأسوان والمعدن حتى صار أكثر سراريّ أهل البلد من سبي النوبة وعرفوا بالهيكات (2*) لرخصهنّ.
وكان ملك النوبة حينئذ قيرقي بن زكريا بن بحنس فندب لقتال العمريّ نيوتي بن قشما، وكان شجاعا، ودفع إليه أكثر رجاله، فوقعت بينهما وقائع وحروب يطول شرحها.
ثم إنّ نيوتي صالح العمريّ على أن يكون في ناحية من البلد ولا يهيجه، وخالف خاله قيرقي.
فبعث قيرقي بولده الأكبر لمحاربة العمريّ فعجز عنه وهزمه مرارا. فانحاز إلى بلد علوة واستجار بمتملّك علوة أربع سنين لأنّه أقام ببلدهم إلى أن خرج سبع سنين، فأنجده صاحب علوة.
وكان لقيرقي ابن آخر اسمه زكريا فأشار عليه بموادعة العمريّ ومحاربة ابن قشما وأن يندبه لذلك. فسلّم إليه جيشه وبعثه إلى ابن قشما بعد أن أرسل إلى العمري ألّا يدخل بينهما، فأجابه إلى ذلك. فتحاربت النوبة محاربات كثيرة، وقد أمرهم العمري أن يخندقوا على عسكره. فانتصر ابن [165 أ] قشما على زكريا وهزم أصحابه وقتلهم، وفرّ زكريا حتى رمى بنفسه في النيل على فرس، وصار إلى المشرق ومعه غلامان، فخاف من العمريّ وابن قشما، ورأى أنّ العمريّ أخفّ عليه، فأتاه واستأذن عليه يقول إنّه غلام لزكريا فأذن له.
فلمّا دخل إليه سأله عن حاله وخبر زكريا فعرّفه هزيمته وما قتل من رجاله، وأنّه من غلمانه رغب
(1) المزيّن: الحلّاق، وكأنّها كلمة مصريّة منذ وقت المقريزيّ.
(1*) في الخطط 1/ 199 عثمان بن حيخلة.
(2*) العكيات أو الهكيات: لم نجدها في المعاجم بهذا المعنى.
في الكون معه. فأنزله وأحسن إليه، فطلب منه خلوة. فلمّا خلا به أعلمه أنّه من وجوه غلمان زكريا وثقاته، وأنّه أنفذه ليأخذ له أمانا ليصير إليه ويكون في جملته. فسرّ العمريّ بذلك وأوثقه من نفسه أيمانا كما طلب. فلمّا توثّق منه أعلمه أنّه زكريا فازداد سرورا وإعجابا به لما ظهر من عقله على صغر سنّه.
وأقام زكريا على ذلك مدّة حتّى أنس إليه، وعرف رجال العمريّ فاختلط بهم. وافتقد دفاتر كانت لهم فوجدها بحالها لم يعلم بها المسلمون، فأطلع العمريّ عليها وسلّمها إليه. ومضى إلى مواضع أخرى فأخرج ما فيها ودفعه إليه أيضا، فملك بذلك قلبه واستولى عليه.
فلمّا عرف زكريا أنس العمريّ إليه وثقته به سأله معاونته على ابن قشما وقال له: عدوّي وعدوّك.
وإن أظفر الله به رجعت النوبة إلى طاعتي واجتمعت إليّ فصرت بهم إليك وتصرّفت عن أمرك في الأعاجم، وما بعد منك وما بيدك يكون بحاله، وأزوّجك من أختي زوجة ابن قشما بعد قتله لأنّ أبي شيخ كبير قد كبرت سنّه.
وما زال يخدعه حتى انقاد إليه وقال له: لو كان هذا الذي تطلبه من قبل ابن قشما لك خاصّة لساعدتك عليه لقصدك لي وركونك إليّ وكونك في جملتي، فكيف وهذه إرادتي وصلاح شأني؟
فأنّى لي بالذي تذكره مع شجاعته وكثرة من معه؟
قال له زكريا: أحتال عليه وأغتاله.
قال له العمريّ: اعمل ما بدا لك.
فاختار زكريا من أصحاب العمريّ أربعة من شجعان العسكر ووجوهه كان بعث بهم العمري إلى ابن قشما مرارا فصار يأنس بهم، فأمرهم العمريّ بمساعدته. ثمّ سار بهم زكريا في زورق خفيف في النيل بعد أن وعدهم ومنّاهم. وقال: إن قتلتم ابن قشما أعطيتكم وزنه ذهبا لكلّ رجل منكم.
فلمّا قرب منه أمرهم أن يقيّدوه ولقّنهم ما يقولونه. فنزلوا جزيرة محاذية لابن قشما وراسلوه بأن يقرب منهم بحيث يسمع كلامهم ففعل. ثم قالوا: إنّ الشيخ الصالح- يعنون العمريّ- يقرأ عليك السلام ويقول لك: إنّ الله قد أمكن من عدوّي وعدوّك، وإنّي قد راسلتك في أمره جوابا عن رسالتك تسأل أن أسلّمه إليك، وتعطيني من المال كذا، ومن الرقيق كذا. وقد وجّهت بذلك مع فلان [165 ب] وفلان إذ كانوا ثقاتي وأنت تأنس إليهم، فعزّر (1*) الأمر معهم وخذه إليك وادفع إلى القوم ما توافقتم عليه، وعلى أن يكون بيننا من الشرط كذا وكذا.
فقال: «قد رضيت» وذكر لهم ما يدفعه. فقال لهم زكريا: «امتنعوا عليه» فأخذ ابن قشما يزيدهم حتى تقرّر الأمر بينهم. فأمرهم زكريا بإجابته.
وكان قد نظر لهم في الكتف (2*) رجل مغربيّ فقال لهم: إن جاءكم ماشيا لم تصلوا إليه، وإن جاءكم محمولا قتلتموه.
قال ابن قشما: أريد أن أراه قبل الدفع.
قالوا له: «افعل فانزل إلى القارب محمولا» - ليصحّ ما قال صاحب الكتف- وتبعه جماعة من أصحابه.
(1*) عزره على الأمر (وزن ضرب): أوقفه عليه. وعزّر الأمر هنا: قدّره. وقد تقرأ الكلمة: فقدّر.
(2*) علم الأكتاف: التنبؤ بالمستقبل بالنظر في عظم الكتف (دوزي).
قالوا: نحن أربعة، وتأتينا بجماعة كأنّك تريد أن تقهرنا عليه وتأخذه بلا عوض.
فأمر أصحابه بالرجوع وخرج في قلّة إلى الجزيرة. وبسط له، ونصب له كرسيّ. وأمر زكريا أصحابه بحمله ووضعه بين يدي ابن قشما، وقال:
«أشاغله بالكلام، فإذا اطمأنّ فافتكوا به» . وجعل زكريا العلامة بينهم البكاء.
فلمّا وضع زكريا بين يدي ابن قشما نقف (1) رأسه بقضيب ذهب كان في يده وقال: الحمد لله الذي أمكن منك!
قال له: يا عمّ، قد قدرت فاعف عنّي وأحسن الظفر! فإنّ هؤلاء المسلمين غدروا بي ورغبوا إلى العوض.
فجعل ابن قشما يعدّد عليه قبائح أفعاله، وزكريا يعتذر وهو لا يقبل منه. ثمّ إنّه بكى.
فوضع (2) الجماعة على ابن قشما وقتلوه للوقت، وأخرجوا زكريا من القيد، فسار إلى عسكر ابن قشما ونادى فيه بأنّ الله قد غفر لكم ما سلف.
وأحضر وجوه العسكر فاستمالهم وأسرّ إليهم الغدر بالعمريّ وبالأربعة الذين معه.
ثم استدعى الأربعة وشكرهم بحضرة أصحابه وأمر بالإحسان إليهم، فلم يبق أحد من الوجوه حتّى برّهم. وصار بهم إلى أخته زوجة ابن قشما وأعلمها بحضرتهم أنّه يريد تزويجها من العمري فرضيت، ودفع إليها معجّلا عنه. وأمرهم فكتبوا بما جرى إلى العمريّ، وكتب هو أيضا بذلك، وأنّه سائر نحوه بالعسكر، وسأله أن يعدّ لهم النزل، ولوجوه العسكر الخلع والبرّ. وبعث بالكتب مع غلام لأحد الأربعة. فسرّ العمري
بذلك، وتقدّم بإعداد ما طلب زكريا.
ثم إن زكريا بدأ بقتل الأربعة، وعبر بالجيش إلى الشرق يريد العمريّ حتى قرب منه. فقال رجل للعمريّ: إنّ هذا الكافر قد صار معنا بأرض واحدة [166 أ] وهو في ما لا طاقة لنا به.
فقال: على هذا وافقني: أن يسير بالجيش إليّ ويكون في طاعتي.
ثم إنّ زكريا هجم على القوم وهم غارّون فقتل منهم مقتلة عظيمة، وانهزم العمري وأصحابه، وتركوا جميع ما معهم لا يلوون على شيء منه.
وانحدر من كان في الجزائر منهم في مراكب فكانوا يبيتون بها ويحمل إليهم الطعام من الجزائر. فدسّ إليهم زكريا رجلا مشهورا بمعرفة طرق الجنادل (1*) فأخذه العمريّ وأحسن إليه ودفع إليه ما لا على أن يجوز بهم الجنادل. فأمرهم بشدّ المراكب بعضها إلى بعض وركب في أولاها وسار بهم فسلك طريقا غير مسلوكة حتى وقعوا في الهلكة [ف] تركهم ونجا بنفسه عوما في البحر، فغرق الجميع.
وقدم على زكريا (2*) فأقطعه مواضع وقفت عليه وعلى عقبه. وتلف جميع ما بقي لهم من السلاح والرجال فضعفوا ولم يتمكّنوا من الإقامة.
وكان العمريّ بعد الوقعة الأولى قد تحابى (3*) وتراجع إليه أصحابه حتى هابته النوبة. وكتب إليه
(1) نقف رأسه: ضربه يسيرا.
(2)
هكذا في المخطوط، ولعلّها: وثب.
(1*) الجنادل بأسوان: وهي حجارة ناتئة في وسط النيل. وهي موضع قرب أسوان بثلاثة أميال في أقصى صعيد مصر قرب بلاد النوبة (ياقوت). وفي المروج 1/ 144:
الجنادل والصخور بين أسوان والحبشة 2/ 73.
(2*) زكريا بن قرقي: خليفة أبيه قرقي ملك النوبة (اليعقوبي:
بلدان 334).
(3*) في المخطوط: تحابا بالمدّ، واخترنا القصر من حبا يحبو: ساروا إليه ببطء.
زكريا يعتذر بأنّ الشّحّ على الملك دفعه على ما فعل وأنّه لا يحاربه قطّ بعدها، وسأله الخروج عن بلده. فخاتله مدّة سنة إلى أن وقع بين الشاميّين- وهم من سعد العشيرة من أصحاب العمريّ- وبين قيس عيلان شرّ، فاتّهم الشاميّون العمريّ أنّه مايل قيسا فتجنّوا عليه. وبلغ ذلك زكريا من جواسيس كانت له فراسل الشاميّين يدعوهم إليه ويعدهم ردّ ما أخذ لهم وإعطاءهم ما يريدون. فأجابوه وصاروا إليه فوفى لهم بما وعدهم وأقطعهم دون الجنادل الأولى من بلد مريس (1) من ناحية يقال لها ديدان وأدوى وما يليها. فخاف العمري وسار إلى معدن على ثلاث مراحل من النيل، وعمل أصحابه المعدن وخرجت سراياهم فضربت بلد النوبة.
وأرسل العمريّ يدعو الشاميّين إلى الصلح فأقبلوا إليه. وركب إليهم العمري فأوقع بهم وقتل منهم ألفا وخمسمائة وقبض على من بقي فقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم حتى ماتوا. وأقام على النيل من بلد مريس. فشقّ ذلك على زكريا وسار إليه في عدد عظيم فانطرد العمريّ بين يديه حتّى قرب من أسوان ونزل على قرية يقال لها أرطلما على مرحلة من أسوان. فخرج إليه شعبة بن حركام البابلي وقد بعثه أحمد بن طولون على جيش إلى أسوان خوفا من العمريّ. فلمّا قرب من العمري قال العمريّ لأصحابه، وقد بقوا نحو ألف ومائتي رجل: لا تعجلوا فإنّ هذا رجل أعجميّ، وأنا أخاطبه بنفسي وانظر ما عنده.
ثمّ خرج من عسكره وقال لمن قرب من عسكر شعبة: إنّي أريد أن أخاطب الأمير قبل وقوع الحرب بيننا.
فخرج إليه شعبة، ووقفا [166 ب] بحيث يسمع بعضهم كلام بعض. فقال العمريّ: إنّ الأمير أحمد بن طولون لم يبلغه خبري على حقيقته، وقد موّه عليه في أمري. إنّي لم أخرج أبغي فسادا، ويدلّك على ذلك أنّي لم أؤذ مسلما ولا معاهدا.
وإنّما خرجت في طلب أعداء المسلمين حتى كفانا الله أمرهم. فاكفف يدك عن القتال حتى أكتب إلى الأمير أيّده الله وأكشف له خبري، وتكتب أنت أيضا. فإن قبل عذري ولم تثقل عليه وطأتي وأمن جانبي، كتب إليك بالكفّ والانصراف فانصرفت مشكورا. وإن أمرك غير ذلك امتثلت أمره غير ملوم.
فقال له القائد شعبة: ليس أنا فيج [ا](1*) لك أحمل كتابك. ما بيني وبينك إلّا السيف!
فقال له العمري: ما أنت بحمد لله شعبة الرجال، بل أنت بلعبة النساء أشبه، وما هذا الفعل السيّء والخلق القبيح إلّا لمن هو كذلك!
ورجع إلى أصحابه فقال: «هذا رجل جاهل أحمق. فدونكم وقتاله! » وحمل عليه بعد أن راسله ثانيا. فطلب منه شعبة أن يطأ بساطه، فسأله العمريّ أن يؤخّر ذلك إلى أن يعود إلى أسوان ويعطيه رهينته، فأبى عليه وحاربه فرزق العمريّ على شعبة الظفر وهزمه أقبح هزيمة وغنم ما كان معه وشبع أصحابه بعد جوع واكتسوا.
وكان العمريّ قد قسم رجاله خوفا من النوبيّ وجعل الشطر بإزاء النوبة فلم يدخل النوبيّ بينهم.
وقال: إنّي ما رأيت من يقف لألف إلّا رجلين:
العمري وابن قشما، وقد رأيت الثالث- يعني شعبة.
(1) المريس: من حدّ أسوان إلى آخر بلاد المقرة (ابن حوقل 62) وعند ياقوت: مرّيسة والمريسة. وفي الوفيات 1/ 278: قرية بمصر، أو جنس من السودان.
(1*) الفيج: الرسول من السلطان إلى من دونه. الخادم والساعي.
ومضى شعبة على وجهه إلى الفسطاط: فأنّبه أحمد بن طولون وقال: أسأت وأخطأت. كنت أمهلته وكتبت إلينا بخبره على صحّة لنرى فيه رأينا، لكنّك بغيت عليه فنصر عليك.
وأهمل أحمد بن طولون أمره.
وأمّا العمريّ فإنّه سار إلى قرية بحريّ أسوان يقال لها أدفو (1) وعبر منها إلى الشرق. وكانت له بأسوان وقعة مع واليها بعد شعبة.
ثم دخل المعدن وجرت له حروب أعظم من الأولى مع ربيعة ثمّ عاود إلى المعدن في سنة خمس وخمسين ومائتين وعلى ربيعة رجل يعرف بأشهب بن ربيعة من بني حنيفة بن لجيم بن مصعب، شيعيّ، وآخر يعرف بناس بن روح، وآخر يعرف بمحمد بن صريح على حيّ قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن [167 أ] علي بن بكر بن وائل وحلفائهم (2) -، وعلى الجهنيّين رجل يعرف بعثمان بن سعدان، وعلى الشاميّين رجل من سعد العشيرة ورؤساء دون هؤلاء. فكثرت العمارة حتّى صارت الرواحل التي تحمل الميرة إليهم من أسوان ستّين ألف راحلة غير الجلاب (3) التي تحمل من القلزم إلى عيذاب.
وعرض أحمد بن طولون لمنع ذلك بسبب العمريّ فكتب إليه أنّه في مائة ألف أو يزيدون، فترك الاعتراض. ووقع بين المسلمين المنافسة والمنازعة والحروب، ومالت البجّة إلى ربيعة واتّفقت معهم وتزوّجوا إليهم. فخرج أخ للعمري من أمّه يعرف
بإبراهيم المخزوميّ إلى عيذاب ليمتار فاعترضته البجّة فقتلته ومن معه. فغضب لذلك العمريّ وكتب إلى ربيعة يسألهم الإنصاف من البجّة أو التخلية بينه وبينهم، فدافعوه عن الحالين فاستدعى مضر إلى حربهم فشردوا عنه. وعبر بنو هلال النيل إلى الغرب، وأقام بنو تميم شرقيّ النيل، واعتزلت المغاربة فلم يبق مع العمريّ إلّا القليل، فقال في ذلك بعض بني نمير من أبيات [الطويل]:
أبعد أبي إسحاق ذي الجود والندى
…
تنامون والدنيا به قد تولّت؟
وبعد رجال قتّلت مضريّة
…
عليها جباب الخزّ بالدم بلّت
فإن لم تثوروا عاجلا بدمائهم
…
فنسوانكم عنكم بحقّ تخلّت
جزى مضرا شرّ الجزا عن أخيهم
…
كما قلّدته أمرها ثمّ ولّت
فقام بها محض الضرائب ماجد
…
كفى مضرا ما ضيّعت وأضلّت
وكانت تميم مرّة خندفيّة
…
فأضحت تميم عن قريش تخلّت
وولّت هلال خيفة الحرب شرّدا
…
وبربر قيس أبعدت حيث حلّت
ثم إن العمريّ واقعهم وهم غارّون فقتل فيهم قتلا ذريعا، وانتشبت الحرب بينهم، وقتل من الفريقين ألوف. ولهم وقعتان مشهورتان في موضعين يعرف أحدهما بميزح والآخر بكيا (1*).
وللعمريّ في ذلك قصائد وشعر طويل فمنه [البسيط]:
إذا جزى الله أقواما بعارفة
…
فلا جزى مضرا عنّا بإحسان!
(1) أدفو- أتفو عند اليعقوبيّ 334: في الجانب الغربي من النيل بين أسوان وقوص.
(2)
عن هؤلاء انظر ابن حوقل، 59.
(3)
الجلاب ج جلبة: زورق كبير لحمل البضائع والعبيد في البحر الأحمر (دوزي). وهو أيضا الرمث الآتي.
(1*) اليعقوبي، 335: كبا (بالباء): على 30 مرحلة من وادي العلاقي.