الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا أوان صلاة الظهر فانصر في
…
وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد
والمجلس السبت إن يقض الجلوس لنا
…
أنصفك منه، وإلّا المجلس الأحد
فجلس يوم الأحد ولم يكن يريد الجلوس.
فدعا بها، فلمّا دخلت قال:[أين] الخصم يرحمك الله؟
[قالت: ]. هوذا بين يديك- فأومأت إلى العبّاس. فقال لأحمد بن أبي خالد: «خذ بيده فأجلسه معها» . فجعلت ترفع صوتها، فقال لها أحمد: اخفضي من صوتك فإنّك بين يدي أمير المؤمنين!
فقال: اسكت يا أحمد، إنّ الحقّ أنطقها والباطل أخرسه.
ثم أمر بردّ ضياعها إليها، وكتب لها إلى العامل بحفظها.
[حلمه]
وقال أحمد بن يوسف القاضي للمأمون: يا أمير المؤمنين، إنّ رجلا ليس بينه وبين الله أحد يخشاه لحقيق أنّه يتّقي الله عز وجل.
فقال المأمون: صدقت.
ووقّع المأمون في رقعة متظلّم من عليّ بن هشام: الشريف من (1) يظلم من فوقه ويظلمه من هو دونه، فأخبر أمير المؤمنين أيّ الرجلين أنت؟
ووقّع في قصّة رجل يتظلّم من بعض أصحابه:
ليس من المروءة أن تكون آنيتك من فضّة وذهب، وغريمك عار، وجارك طاو.
*** وأحضر (1*) مرّة رجلا وأمر بضرب عنقه، وكان الرجل من ذوي العقول، فقال ليحيى بن أكثم: إنّ أمير المؤمنين قد أمر بضرب عنقي، وإنّ دمي عليه لحرام، فهل له في حاجة أسأله إيّاها لا تضرّ بدينه ولا مروءته، فإذا فعل ذلك فهو في حلّ من دمي.
فأظهر المأمون تحرّجا، فقال ليحيى: سله عنها.
فقال الرجل: يضع يده في يدي إلى الموضع الذي يضرب فيه عنقي، فإذا فعل ذلك فهو في حلّ من دمي.
فقام المأمون من مجلسه وضرب بيده إلى يد الرجل. فلم يزل يخبره وينشده ويحدّثه [133 ب] حتّى كأنّه من بعض أسرته. فلمّا أن رأى السيّاف والسيف والموضع الذي يكون فيه مثل هذه الحال انعطف فقال للمأمون: بحقّ هذه الصحبة والمحادثة لما عفوت عنّي! فعفا عنه وأجزل له الجائزة.
*** ووقف رجل بين يديه قد جنى جناية: فقال له:
والله لأقتلنّك!
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، تأنّ عليّ، فإنّ الرفق نصف العدل.
قال: كيف وقد حلفت لأقتلنّك؟
فقال: يا أمير المؤمنين، لأن تلقى الله حانثا خير لك من أن تلقاه قاتلا. فخلّى سبيله.
*** وقال المأمون: لوددت أنّ أهل الجرائم عرفوا رأيي في العفو ليذهب الخوف عنهم ويخلص السرور إلى قلوبهم.
***
(1) في المخطوط: الشريف لن. والإصلاح من العقد 4/ 215.
(1*) تاريخ بغداد 10/ 191.
وقال أبو الصلت عبد السلام بن صالح:
حبسني المأمون ليلة. فكنّا نتحدّث حتى ذهب من الليل ما ذهب، وطفئ السراج ونام القيّم الذي كان يصلح السراج. فدعاه فلم يجبه، وكان نائما.
فقلت: يا أمير المؤمنين، أصلحه.
فقال: لا.
فأصلحه هو. ثم انتبه الخادم، فظننت أنّه يعاقبه لأنّه كان يناديه وهو نائم فلا يجيبه. [قال] فتعجّبت منه، فسمعته يقول: ربّما أكون في المتوضّأ، فيشتمو [ن] ني ويفترون عليّ ولا يدرون أنّي أسمع، فأعفو عنهم.
وقال عبد الله بن البوّاب: كان المأمون يحلم، حتى يغيظنا: فجلس في بعض الأوقات يستاك على دجلة من وراء ستره، ونحن قيام بين يديه.
فمرّ ملّاح وهو يقول بأعلى صوته: «أتظنّون أنّ هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه؟ » فو الله ما زاد على أن تبسّم وقال لنا: ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل؟
*** وقال يحيى بن أكثم (1): بتّ ليلة عند المأمون، فانتبهت في جوف الليل وأنا عطشان. فتقلّبت، فقال: يا يحيى، ما شأنك؟
قلت: عطشان والله يا أمير المؤمنين.
فوثب من مرقده فجاءني بكوز من ماء. فقلت:
يا أمير المؤمنين، ألا دعوت بخادم؟ ألا دعوت بغلام؟
فقال: لا. حدثني أبي عن أبيه عن جدّه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيّد القوم خادمهم.
وفي رواية عن يحيى: بتّ ليلة عند المأمون فعطشت في جوف الليل فقمت لأشرب ماء. فرآني فقال: مالك ليس تنام يا يحيى؟
فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا والله عطشان.
قال: ارجع إلى موضعك.
فقام والله إلى البرّادة فجاءني بكوز ماء وقام على رأسي وقال: اشرب يا يحيى!
فقلت: يا أمير المؤمنين، فهلّا وصيف أو وصيفة تغني؟
فقال: إنّهم نيام.
قلت: فأنا أقوم للشرب.
فقال لي: لوم بالرجل أن [134 أ] يستخدم ضيفه.
ثمّ قال: يا يحيى!
قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين!
قال: ألا أحدّثك؟
قلت: بلى يا أمير المؤمنين.
قال: حدّني الرشيد قال: حدّثني المهدي قال:
حدّثني المنصور عن أبيه عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: حدّثني جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيّد القوم خادمهم.
وفي رواية، قال يحيى: ما رأيت أكرم من المأمون: بتّ عنده ليلة فعطش وقد نمنا. فكره أن يصيح بالغلمان فأنتبه- وكنت منتبها- فرأيته قد قام يمشي قليلا قليلا إلى البرّادة بينه وبينها بعد حتّى شرب ورجع، ثمّ بتّ عنده ونحن بالشام وما معي أحد. ولم يحملني النوم. فأخذ المأمون فرأيته يسدّ فاه بكمّي قميصه حتّى لا أنتبه. ثم حملني آخر الليل النوم. وكان له وقت يقوم فيه يستاك.
فكره أن ينبّهني. فلمّا ضاق الوقت عليه تحرّكت،
(1) تاريخ بغداد 10/ 187 - 188.
فقال: الله أكبر! يا غلمان، نعل أبي محمّد!
[(قال)] وكنت (1) أمشي يوما مع المأمون في بستان موسى في ميدان البستان، والشمس عليّ وهو في الظلّ، فلمّا رجعنا قال لي:«كن الآن أنت في الظلّ! » فأبيت عليه فقال: أوّل العدل أن يعدل الملك في بطانته، ثم الذين يلونهم حتى يبلغ إلى الطبقة السّفلى.
*** وقال المأمون (2): الملوك لا تحتمل ثلاثة أشياء: إفشاء السرّ، والتعرّض للحرمة، والقدح في الملك.
وقال يحيى بن خالد البرمكي: قال لي المأمون: يا يحيى، اغتنم قضاء حوائج الناس، فإنّ الملك أدور، والدهر أجور من أن يترك لأ [حد] حالا أو يبقي لأحد نعمة.
*** وقال المأمون: غلبة الحجّة أحبّ إليّ من غلبة القدرة، لأنّ غلبة القدرة تزول بزوالها، وغلبة الحجّة لا يزيلها شيء.
وقال لأبي حفص عمر (3) بن الأزرق الكرماني:
أريدك للوزارة.
قال: لا أصلح لها يا أمير المؤمنين.
قال: ترفع نفسك عن الوزارة؟
قال: ومن يرفع نفسه عن الوزارة؟ ولكنّي قلت هذا رافعا لها واضعا لنفسي عنها (4).
فقال المأمون: إنّا نعرف موضع الكفاة الثقات
المتقدّمين من الرجال، ولكنّ دولتنا منكوسة، إن قوّمناها بالراجحين انتقضت، وإنّ أيّدناها بالناقصين استقامت، ولذلك اخترت استعمال الصواب فيك.
*** وقال المبرّد: أنشد المأمون بيت أبي العتاهية [الوافر]:
تعالى الله يا سلم بن عمرو
…
أذلّ الحرص أعناق الرجال
فقال: الحرص مفسد للدين والمروءة. والله ما عرفت من أحد قطّ حرصا أو شرها فرأيت فيه مصطنعا!
وقال: من لم يحمدك على حسن النيّة لم يشكرك على جميل الفعل.
وقال: ما أقبح اللجاجة [134 ب] بالسلطان! وأقبح من ذلك الضجر من القضاة قبل التفهّم، وأقبح منه سخافة الفقهاء بالدين، وأقبح منه البخل بالأغنياء. والمزاح بالشيوخ، والكسل بالشباب، والجبن بالمقاتل.
*** وقال: أظلم الناس لنفسه من عمل بثلاث: من يتقرّب إلى من يبعده. ويتواضع لمن لا يكرمه، ويقبل مدح من لا يعرفه.
وقال مخارق: أنشدت المأمون قول أبي العتاهية [الطويل]:
وإنّي لمحتاج إلى ظلّ صاحب
…
يرقّ ويصفو إن كدرت عليه
قال: «أعد! » فأعدت سبع مرّات. فقال: يا مخارق، خذ منّي الخلافة. وأعطني هذا الصاحب! لله درّ أبي العتاهية، ما أحسن ما قال!
***
(1) العقد 2/ 431.
(2)
العقد 1/ 12.
(3)
تاريخ بغداد 10/ 186.
(4)
في المخطوط: لنفسي بها. والإصلاح من تاريخ بغداد 10/ 186.
وكان للمأمون ابن عمّ جيّد الخطّ، فدخل عليه يوما فقال له المأمون: يا ابن عمّ، بلغني أنّك جيّد الخطّ، وذاك معدوم في أهلك.
فقال: يا أمير المؤمنين، جودة الخطّ بلاغة اليد.
قال: وبلغني أنّك شاعر.
قال: ذاك ضعة للشريف، ورفعة للوضيع.
قال: وبلغني أنّك سخيّ.
قال: يا أمير المؤمنين، منع الموجود قلّة ثقة بالمعبود.
فقال: فأنت أكبر أم أمير المؤمنين؟
قال: جوابي في ذلك جواب جدّك العبّاس للنبي صلى الله عليه وسلم لمّا سئل، فقيل له: النبيّ صلى الله عليه وسلم أكبر أم أنت؟ فقال: النبيّ صلى الله عليه وسلم أكبر، وولدت قبله.
*** ولمّا ظهر الشّيب بالمأمون، كان يتمثّل بهذا البيت من شعر مسلم بن الوليد [البسيط]:
أكره شيء، وآسى أن يزايلني
…
أعجب بشيء على البغضاء مودود!
نام العواذل واستكفين لائمتي
…
وقد كفاهنّ نهض البيض في السود
أمّا الشباب، فمفقود له خلف
…
والشيب يذهب مفقودا بمفقود
*** وقال هدبة بن خالد: حضرت غداء المأمون.
فلمّا رفعت المائدة جعلت ألتقط ما في الأرض.
فنظر إليّ فقال: أما شبعت يا شيخ؟
قلت: بلى يا أمير المؤمنين، إنّما شبعت في فنائك وكنفك، ولكنّي حدّثني حمّاد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أكل ما تحت مائدته أمن من الفقر» .
فنظر المأمون إلى خادم واقف بين يديه فأشار إليه، فما شعرت حتى جاءني ومعه منديل فيه ألف دينار، فناولني. فقلت: يا أمير المؤمنين، وهذا أيضا من ذاك.
وقال المأمون لمحمد بن عبّاد المهلّبي: يا أبا عبد الله قد أعطيتك ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وعليك دين! إنّ فيك سرفا!
قال: يا أمير المؤمنين، إنّ منع [135 أ] الموجود سوء الظنّ بالمعبود.
قال: أحسنت. يا محمّد، أعطوه ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف!
*** وكان الحسن بن سهل مؤالفا للأدباء، وكان له مجلس ينتابه فيه أهل الأدب. وكان رجل من أهل الأدب يأتيه. فلمّا تهيّأ عرس بوران، أهدى الناس إلى الحسن. وكان ذاك الرجل فقيرا، فأهدى إليه مزودين في أحدهما ملح طيّب، وفي الآخر اشنان (1*) طيب، وكتب إليه:«جعلت فداءك، خفّة البضاعة قصّرت ببعد الهمّة، وكرهت أن تطوى صحيفة أهل البرّ ولا ذكر لي فيها، فوجّهت إليك بالمبتدإ به ليمنه وبركته، وبالمختوم به لطيبه ونظافته» . وكتب في أسفل رقعته [السريع]:
بضاعتي تقصر عن همّتي
…
وهمّتي تقصر عن مالي
والملح والأشنان يا سيّدي
…
أحسن ما يهديه أمثالي
فأخذ الحسن المزودين ودخل بهما على
(1*) الأشنان بالضمّ والكسر: ما تغسل به الأيدي.
المأمون فاستحسن ذلك، وأمر بالمزودين ففرّغا وملئا دنانير.
*** وقال أبو عبد الرحمن العتبيّ: جاءني رجل من أصحاب الصنعة فقال: اذكرني لأمير المؤمنين المأمون، فإنّي أحلّ الطلق (1) بين يديه في يوم وبعض آخر.
فقلت: يا هذا، أرح نفسك من العناء واجلس في بيتك ولا تغر أمير المؤمنين منك.
قال: فالحلّ عليه حرام- يعني به الطلاق- وما له من قليل أو كثير صدقة لوجه الله، وكلّ مملوك له حرّ إن كان كذبك فيما قال لك! (2)
[قال: ] والله ما آخذ منكم شيئا عاجلا. وقد ادّعيت أمرا فامتحنوني فيه، فإن حاك ما ادّعيت كان الأمر فيّ إليكم. وإن وقع بخلاف ذلك انصرفت إلى منزلي.
فأخبرت المأمون بما قال، فتمثّل ببيت الفرزدق [الطويل]:
وقبلك ما أعييت كاسر عينه
…
زيادا فلم تقدر عليّ حبائله
ثمّ قال: لعلّ هذا أراد أن يصل إلينا فاحتال بهذه الحيلة. وليس الرأي أن يظهر أحد علينا علما فنظهر الزهد فيه، فأحضره!
فجئت بالرجل وقعد له المأمون، وأحضرت له أداة العمل، فإذا هو بحلّ الطلق أجهل مني بما في السّماء السابعة. فنظر إليّ المأمون وقال: تزعم أنّه حلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك؟
قلت: بلى.
قال: فقد حنث.
فقلت للرجل، والمأمون يسمع: ألم تحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما تملك؟
قال: بلى.
قلت: فقد حنثت.
قال: ليست لي امرأة.
قلت: فالعتاق؟
قال: وما لي مملوك.
قلت: [135 ب] فصدقة ما تملك؟
قال: ما أملك خيطا ولا مخيطا.
قلت له: كذب يا أمير المؤمنين، له غلام ودابّة.
قال: هما، وحقّ رأس أمير المؤمنين، عارية!
فتبسّم المأمون وقال: «هذا بحلّ الدراهم أعلم منه بحلّ الطلق! » ثمّ أمر أن يعطى خمسة آلاف درهم. فلمّا خرج قال للفتى: «ردّه! » فردّه.
فقال: زيدوه، فإنّه لا يجد في كلّ وقت من يمخرق عليه.
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، عندي باب من الحملان ليس في الدنيا مثله!
قال: احمله على هذه الدراهم، فإن كنت صادقا صرت ملكا في أقلّ من شهر.
ولمّا وصل المأمون إلى بغداد وقرّ بها قال ليحيى بن أكثم: وددت أنّي وجدت رجلا مثل الأصمعيّ ممّن عرف أخبار العرب وأيّامها وأشعارها فيصحبني كما صحب الأصمعي الرشيد.
فقال له يحيى: ههنا شيخ يعرف هذه الأخبار، يقال له عتّاب بن ورقاء من بني شيبان.
قال: فابعث ليأتيني.
فبعث، فحضر. فقال له يحيى: إنّ أمير المؤمنين يرغب في حضورك مجلسه ومحادثته.
(1) لم نفهم المقصود من حلّ الطلق، ولعلّه نوع من السحر.
(2)
التباس الضمائر يمنع فهم الحوار.
فقال: أنا شيخ كبير لا طاقة لي، لأنّه قد ذهب منّي الأطيبان.
فقال له المأمون: لا بدّ من ذلك.
فقال الشيخ: «فاسمع ما حضرني» . فقال اقتضابا [المجتثّ]:
أبعد ستّين أصبو؟
…
والشيب للمرء حرب
شيب وسنّ وإثم
…
أمر لعمرك صعب
يا ابن الإمام، مهلا
…
أيّام عودي رطب
وإذ شفاء الغواني
…
منّي حديث وقرب
وإذ مشيبي قليل
…
ومنهل العيش عذب
فالآن لمّا رأى بي
…
عواذلي ما أحبّوا
آليت أشرب راحا
…
ما حجّ لله ركب!
فقال المأمون: «ينبغي أن تكتب بالذهب» وأمر له بجائزة وتركه.
*** وكان المأمون يتعصّب للأوائل من الشعراء ويقول: «انقضى الشعر مع ملك بني أميّة! » وكان الفضل بن سهل يقول له: الأوائل حجّة وأصول، وهؤلاء أحسن تفريعا.
*** وتفرّد المأمون يوما في بعض تصيّده، فانتهى إلى بعض بيوت البادية. فرأى صبيا يضبط قربة وقد غلبه وكاؤها، وهو يقول:«يا أبه اشدد فاها، فقد غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها! » فوقف عليه فقال: يا فرخ غمّة (1*) ممّن تكون؟
قال: من قضاعة.
قال: من أيّها؟
قال: من كلب.
قال: من أيّها؟
قال: من الأحراء ثمّ من بني كنانة. فمن أنت يا خال، فقد سألتني عن حسبي؟
قال: ممّن تبغضه [اليمن] كلّها.
قال: فأنت إذن من نزار؟
قال: أنا ممّن تبغضه نزار كلّها.
قال: فأنت إذن من مضر؟
قال: أنا ممّن تبغضه مضر كلّها.
قال: فأنت إذن من قريش.
قال: أنا ممّن تبغضه قريش كلّها.
قال: فأنت إذن من بني هاشم.
قال: أنا ممّن تحسده بنو [136 أ] هاشم كلّها.
فأرسل فم القربة ودنا إليه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وضرب بيده إلى شكيمة الدابّة وهو يقول [الرجز]:
مأمون يا ذا المنن الشريفة
…
وصاحب الكتيبة الكثيفة
هل لك في أرجوزة ظريفة
…
أطرف من فقه أبي حنيفة؟
لا، والذي أنت له خليفة
…
ما ظلمت في أرضنا ضعيفة
عاملنا مؤنته خفيفة
…
وما جنى فضلا عن الوظيفة
فالذئب والنعجة في سقيفة
…
واللصّ والتاجر في قطيفة
قد سار فينا سيرة الخليفة
(1*) لم نفهم فرخ الغمّة.
فقال له المأمون: أحسنت يا فرخ عمّة فأيّهما أحبّ إليك: عشرة آلاف معجّلة أم مائة ألف مؤجّلة؟
قال: بل أؤخّرك يا أمير المؤمنين.
فما لبثت أن أقبلت الفرسان، فقال:
«احملوه! » فكان أحد مسامريه.
*** وخرج يوما من الرصافة يريد الشمّاسيّة فدنا منه الهاشميّون وسلّموا عليه وقبّلوا يده، وفيهم رجل من الطالبيّين يلقّب ب «كلب الجنّة» (1)، وكان ظريفا. فلمّا دنا من المأمون [و] قبّل يده، قال له المأمون كالمسرّ إليه: كيف أنت يا كلب الجنّة؟
قال: «أمّا الدنانير والدراهم والرتبة فلعمرو بن مسعدة وأبي عبّاد. وأمّا الطّنز (2) فلبني هاشم» .
فردّ المأمون كمّه على فيه وقال: ويلك! كفّ، لا تفضحني!
قال: لا والله، أو تضمن لي شيئا تعجّله لي!
قال: العشيّة يأتيك رسولي.
فأتاه عمرو بن مسعدة بثلاثين ألف درهم.
وفي رواية: ركب المأمون يوما إلى المطبق، وبلغ القوّاد ركوبه فتبعوه فكان كلب الجنّة ممّن ركب.
فبصر به المأمون، وفي يده خشبة من حطب الوقود، وفي اليد الأخرى لحافه، فقال: كلب الجنّة؟
قال: نعم، كلب الجنّة. بلغه ركوبك فجاء لنصرتك. والله ما وجدت سلاحا إلّا هذه المشققة من الحطب، ولا ترسا إلا لحافي هذا. وعيّاش بن
القاسم في ستّة آلاف ترس وألف درع نائم غير مكترث!
فوصله المأمون بثلاثين ألفا. وجاء عيّاش يركض فشتمه المأمون وناله بمكروه.
*** وقال عمرو بن سعيد: كنت في نوبتي في الحرس في أربعة آلاف إذ رأيت المأمون قد خرج، ومعه غلمان صغار وشموع. فعرفته ولم يعرفني.
فقال: من أنت؟
قلت: عمرو عمرك الله، ابن سعيد أسعدك الله، ابن سلم سلّمك الله.
فقال: أنت تكلؤنا منذ لليلة؟
قلت: الله يكلؤك يا أمير المؤمنين. هو [136 ب] خير حفظا وهو أرحم الراحمين.
فأنشأ (1*) يقول [الرجز]:
إنّ أخا الهيجاء من يسعى معك
…
ومن يضرّ نفسه لينفعك
ومن إذا ريب زمان صدعك
…
بدّد شمل نفسه ليجمعك
ثم قال: يا غلام، أعطه أربعمائة دينار. (قال) فقبضتها.
(قال) وأنشدته أربعة أبيات فأمر لي بأربعمائة دينار، فلو أنشدته عشرة أبيات لكنت آخذ ألفا، لكلّ بيت [مائة].
وفي رواية: قال عمرو: كنت في حرس المأمون حين قفل من خراسان إلى العراق بعد قتل الأمين واستثبات الخلافة له. فخرج لينظر إلى العسكر في بعض الليالي، فعرفته ولم يعرفني، فأغفلته. فجاء من ورائي حتى وضع يده على كتفي فقال لي: من أنت؟
(1) في الهامش حاشية تعرّف بكلب الجنّة: هو عبد الله بن الحسين بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
وزاد في عمدة الطالب 89 هو الشاعر الملقّب بكلب الجنّة. وانظر مختصر تاريخ دمشق 14/ 115.
(2)
الطّنز: السخرية (والتعرّض لها).
(1*) في المخطوط: وأنشأ.
قلت: عمرو عمرك الله، ابن سعيد أسعدك الله، ابن سلم سلّمك الله.
فقال: أنت الذي كنت تكلؤنا من هذه الليلة؟
فقلت: الله يلكؤك يا أمير المؤمنين.
فأنشأ يقول:
إنّ أخا هيجاك من يسعى معك
…
ومن يضرّ نفسه لينفعك
ومن إذا ريب زمان صدعك
…
فرّق من جميعه ليجمعك
ثم قال: أعطه لكلّ بيت ألف دينار.
فوددت أن تكون الأبيات طالت عليّ فآخذ الغنى.
فقلت: يا أمير المؤمنين: وأزيدك بيتا من عندي؟
فقال لي: هات!
فقلت: وإن غدوت ظالما غدا معك.
فقال: أعطه لهذا البيت ألف دينار. فما برحت من موقفي حتى أخذت خمسة آلاف دينار (1).
*** ودخل المأمون يوما ديوان الخراج، فمرّ بغلام جميل على أذنه قلم فأعجبه ما رأى من حسنه، فقال: من أنت يا غلام؟
فقال: الناشئ في دولتك، وخرّيج أدبك يا أمير المؤمنين، المتقلّب في نعمتك، المؤمّل لخدمتك: الحسن بن رجاء.
فقال له المأمون: يا غلام، بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول.
ثم أمر له أن يرفع عن مرتبة الديوان، وأمر له بمائة ألف درهم.
*** وأنشد بعض الشعراء المأمون [الطويل]:
تمرّ بك الأموال غير مقيمة
…
أبى الجود إلّا أن تكون على رجل
فمالك مجتاز، وجودك موطن
…
ولا تثبت الأموال، والجود في رحل
فوصله صلة سنيّة.
*** ولمّا ولد ولد جعفر ابن المأمون دخل المهنّئون على المأمون فهنّئوه بصنوف التهاني، وفيهم العبّاس بن الأحنف، فمثل قائما بين يديه، وأنشد [الرجز]:
مدّ لك الله الحياة مدّا
…
حتى يريك ابنك هذا جدّا
ثمّ يفدّى مثلما تفدّى
…
كأنّه أنت إذا تبدّى
أشبه منك قامة وقدّا
…
مؤزّرا مجدا له مردّى (1*)
[137 أ] فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم.
وكانت لهارون الرشيد جارية غلاميّة تصبّ عليه وتقف على رأسه. وكان المأمون يعجب بها وهو أمرد. فبينا هي تصبّ على الرشيد من إبريق على يده، والمأمون مع الرشيد قد قابل بوجهه وجه الجارية إذ أشار إليها بقبلة فزبرته بحاجبها، وأبطأت عن الصبّ في مهلة ما بين ذلك. فنظر إليها الرشيد فقال: ما هذا؟
فتلكّأت عليه. فقال: ضعي ما معك! عليّ كذا، إن لم تخبريني لأقتلنّك!
فقالت: أشار إليّ عبد الله بقبلة.
فالتفت إليه، وإذا هو قد نزل به من الحياء والرعب ما رحمه منه. فاعتنقه وقال: أتحبّها؟
(1) أربعة آلاف لأبيات المأمون وألف لبيت عمرو بن سعيد، وهي أشطار.
(1*) هذا الرجز المختلّ مفقود من ديوان العبّاس في طبعة عاتكة الخزرجي وكذلك في نشرة محمد طراد بيروت 1992.
قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: فادخل بها في تلك القبّة.
فقام ففعل.
فقال له هارون: «قل في هذا شعرا» . فأنشأ يقول [المجتثّ]:
ظبي كتبت بطرفي
…
عن الضمير إليه
قبّلته من بعيد
…
فاعتلّ من شفتيه
وردّ أحسن ردّ
…
بالكسر من حاجبيه (1)
فما برحت مكاني
…
حتى قدرت عليه
ويروى في ذلك أنّ المأمون دخل على أمّ جعفر (2) بعد قتل محمد الأمين ابنها، فرأى على رأسها جارية من أحسن الناس وجها وقدّا وشمائل، فأعجب بها وشغلت قلبه، فكسر طرفه في طرفها، فأجابته من طرفها بمثل ذلك. فأومأ بفيه فقبّلها من بعيد، فعضت على شفتها فدميت. فقال المأمون لأمّ جعفر: يا أمّه، تأذنين لي في كلام هذه الجارية؟
قالت: هي أمتك.
فدعا بدواة وكتب إلى الجارية: ظبي كتبت
…
الأبيات
…
وعشق المأمون جارية لأمّ عيسى امرأته، فوجدت عليه فكتب إليها بشعر أبيه [الوافر]:
أما يكفيك أنّك تملكيني
…
وأن الناس كلّهم عبيدي؟
فرضيت عنه. وجاءها فأخرجت إليه الجواري.
فغنّت الجارية الشعر من بينهنّ، فقال المأمون [الوافر]:
أرى ماء ولي عطش شديد
…
ولكن لا سبيل إلى الورود
فقالت: خذها غير مبارك لك فيها!
فقال: ظبي كتب [الخ
…
].
ومن شعره أيضا [الخفيف]:
عرفت حاجتي إليها فضنّت
…
ورأت طاعتي لها فتجنّت [137 ب]
وإذا النفس رامت الصبر عنها
…
ذكرت حسرة الفراق فحنّت
لا تلومنّ غير نفسك فيها
…
أنت جنّيتها عليك تجنّت
*** وعرضت على المأمون جارية شاعرة فصيحة متأدّبة شطرنجيّة ساوم فيها النحّاس بألفي دينار.
فقال: إن هي أجازت بيتا أقوله ببيت من عندها اشتريتها بما تقول وزدتك.
قال: فكم الزيادة يا أمير المؤمنين؟
قال: مائة دينار.
فقال: زدني.
قال: مائتا دينار.
قال: زدني.
قال: ثلاثمائة دينار.
قال: زدني.
قال: خمسمائة دينار.
قال: فليسألها أمير المؤمنين عمّا أراد.
فأنشد المأمون [البسيط]:
ماذا تقولين في من شفّه أرق
…
من جهد حبّك حتى صار حيرانا؟
(1) في تاريخ بغداد 10/ 185: وردّ أخبث ردّ
…
(2)
أمّ جعفر هي زبيدة زوجة الرشيد.
فأجازته:
إذا وجدنا محبّا قد أضرّ به
…
داء الصبابة أوليناه إحسانا
*** وكان المأمون يهوى جارية من جواريه. فبعث إليها ليلة من الليالي خادما يأمرها بالمصير إليه.
فصار الخادم إليها فأمرها بذلك. فقالت: لا والله، لا أجيبه. فإن كانت الحاجة له، فليصر إليّ!
فلمّا استبطأ المأمون الخادم أنشأ يقول [الطويل]:
بعثتك مشتاقا ففزت بنظرة
…
وأغفلتني حتى أسأت بك الظنّا
وناجيت من أهوى وكنت مقرّبا
…
فيا ليت شعري عن دنوّك ما أغنى
وردّدت طرفا في محاسن وجهها
…
ومتّعت باستمتاع نغمتها أذنا
أرى أثرا في صحن خدّك لم يكن
…
لقد سرقت عيناك من حسنها حسنا (1)
فقال الخادم: لا يا سيّدي، إلّا أنّها قالت كذا.
فقال: إذن والله أقوم إليها!
*** ويذكر أنّ المأمون قال في بعض ندمائه وقد ثمل فناوله القدح بيده فقال له: «يدي لا تطاوعني» قال: قم فنم- وكان ينام عنده. فقال: رجلي لا تواتيني [فقال المأمون][البسيط]:
أبصرته وظلام الليل منسدل
…
وقد تمدّد سكرا في الرياحين
فقلت: خذ! قال: كفّي لا تطاوعني
…
فقلت: قمّ! قال: رجلي لا تواتيني
إنّي غفلت عن الساقي فصيّرني
…
كما تراني سليب العقل والدين
(وأنشدها بعضهم لعبد الله بن طاهر).
ومن شعره أيضا [المتقارب]:
لساني كتوم لأسراركم
…
ودمعي نموم بسرّي مذيع
فلولا دموعي كتمت الهوى
…
ولولا الهوى لم يكن لي دموع
وقال: [البسيط]:
مولاي ليس لعيش أنت حاضره
…
قدر ولا قيمة ولا [له] ثمن
ولا فقدت من الدنيا ولذّتها
…
شيئا إذا كان عندي وجهك الحسن
وقال: [الطويل]:
وقائلة لمّا استمرّت بنا النوى
…
ومحجرها فيه دم ونجيع [138 أ]
ألم يقض للركب الذين تحمّلوا
…
إلى بلد فيه الشجيّ رجوع
فقلت، ولم أملك سوابق عبرة
…
نطقن بما ضمّت عليه ضلوع:
تبيّن: فكم دار تفرّق شملها
…
وشمل شتيت عاد وهو جميع
كذاك الليالي صرفهنّ كما ترى
…
لكلّ أناس جدبة وربيع
وكتب الرضى إلى المأمون [السريع]:
إنّك في دار لها مدّة
…
يقبل فيها عمل العامل
أما ترى الموت محيطا بها
…
يقطع منها أمل الآمل؟
(1) في الهامش، حواش لتصحيح الأبيات: عن سرارك (عوضا عن دنوّك). ونزّهت (عوضا عن وردت). أرى أثرا منها بوجهك في البيت الرابع.
يعجّل الذنب لما يشتهي
…
ويأمل التوبة من قابل
والموت يأتي أهله بغتة
…
ماذا بفعل الحازم العاقل؟
*** ودخل بشر المريسي يوما على المأمون فقال:
يا أمير المؤمنين، إنّ ههنا شاعرا يهجو ويقول الشعر فيما أحدثناه من أمر القرآن، فأحبّ أن تجدّد له عقوبة.
فقال: أما إنّه إن كان شاعرا فلست أقدم عليه، وإن كان فقيها أقدمت عليه.
قال: يا أمير المؤمنين، إنّه يدّعي الشعر وليس بشاعر.
فقال: إنّه قد خطر على فؤادي في هذه الليلة أبيات، فأنا أكتب بها إليه، فإن لم يجبني أقدمت عليه.
فكتب [المنسرح]:
قد قال مأموننا وسيّدنا
…
قولا له في الكتاب تصديق
أنّ عليّا أبا حسن
…
أفضل من أرقلت به النوق
بعد نبيّ الهدى وإنّ لنا
…
أعمالنا والقرآن مخلوق
فكتب الشاعر الجواب [البسيط]:
يا أيّها الناس لا قول ولا عمل
…
لمن يقول: كلام الله مخلوق
ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر
…
ولا النبيّ ولم يذكره صدّيق
ولم يقل ذاك إلّا كلّ مبتدع
…
على الإله، وعبد الله زنديق
المقفى ج 4* م 7
عمدا أراد [بكم] إمحاق دينكم
…
لأنّ دينهم والله ممحوق
أصحّ يا قوم عقلا من خليفتكم
…
يمسي ويصبح في الأغلال موثوق
فلمّا وردت على المأمون قال لبشر: «يا عاضّ كذا من أمّه [
…
] (1*) أليس زعمت أنّه ليس بشاعر؟ » وأغلظ له في القول.
*** ووقف المأمون في بعض أسفاره وهو قافل إلى طرسوس في قدمته التي مات فيها على شرف وقال [البسيط]:
حتى متى أنا في حطّ وترحال
…
وطول سعي وإدبار وإقبال؟
ونازح الدار لا أنفكّ مغتربا
…
عن الأحبّة ما يدرون ما حالي
بمشرق الأرض طورا، ثمّ مغربها
…
لا يخطر الموت من حرص على بالي
[138 ب]
ولو قعدت أتاني الرزق في دعة
…
إنّ القنوع الغنى لا كثرة المال
*** ووصفت للمأمون جارية بكلّ ما توصف امرأة من الكمال والجمال، فبعث في شرائها، فأتي بها وقت خروجه إلى بلاد الروم. فلمّا همّ ليلبس درعه خطرت بباله، فأمر فأخرجت إليه. فلمّا نظر إليها أعجب بها وأعجبت به. فقالت: ما هذا؟
قال: أريد الخروج إلى بلاد الروم.
قالت: قتلتني يا سيّدي.
وخددت دموعها على خدّها كنظام اللؤلؤ،
(1*) كلمة لم نفهمها.