الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَعَالَى مُخَاطِبًا خَاتَمَ رُسُلِهِ عليه الصلاة والسلام: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَل اللَّهُ} (1) ، فَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ رُتْبَةٌ دِينِيَّةٌ وَنَصَبَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَفِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ وَأَدَاءِ الْحَقِّ فِيهِ، وَالْوَاجِبُ اتِّخَاذُ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ دَيْنًا وَقُرْبَةً فَإِنَّهَا مِنْ أَفْضَل الْقُرُبَاتِ إِذَا وُفِّيَتْ حَقَّهَا، وَإِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى (2)، وَجَعَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النِّعَمِ الَّتِي يُبَاحُ الْحَسَدُ عَلَيْهَا فَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا حَسَدَ إِلَاّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا (3)، وَقَال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عز وجل، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا (4)، فَكَذَلِكَ كَانَ الْعَدْل بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَفْضَل أَعْمَال الْبِرِّ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الأَْجْرِ قَال تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْتَ
(1) سورة المائدة / 49.
(2)
حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9) ومسلم (3 / 1515 - 1516) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ للبخاري.
(3)
حديث: " لا حسد إلا في اثنتين. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 165) ، ومسلم (1 / 559) من حديث ابن مسعود.
(4)
حديث: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور. . . " أخرجه مسلم (3 / 1458) .
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) ، فَأَيُّ شَيْءٍ أَشْرَفُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ وَعَظِيمِ فَضْلِهِ جَعَل اللَّهُ فِيهِ أَجْرًا مَعَ الْخَطَأِ، وَأَسْقَطَ عَنْهُ حُكْمَ الْخَطَأِ، قَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ (2) وَإِنَّمَا أُجِرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَبَذْل وُسْعِهِ لَا عَلَى خَطَئِهِ. (3)
التَّرْهِيبُ مِنَ الْقَضَاءِ:
16 -
كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُحْجِمُ عَنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ وَيَمْتَنِعُ عَنْهُ أَشَدَّ الاِمْتِنَاعِ حَتَّى لَوْ أُوذِيَ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ عَظِيمِ خَطَرِهِ كَمَا تَدُل عَلَيْهِ الأَْحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ وَالَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْوَعِيدُ وَالتَّخْوِيفُ لِمَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ وَلَمْ يُؤَدِّ الْحَقَّ فِيهِ، كَحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ، (4) وَحَدِيثُ: مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ أَوْ جُعِل قَاضِيًا فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ (5) ،
(1) سورة المائدة / 42.
(2)
حديث: " إذا حكم الحاكم فاجتهد. . ". تقدم فقرة 7.
(3)
كشاف القناع 6 / 286، وتبصرة الحكام 1 / 13، 14، وأدب القضاء لابن أبي أدم ص 57، ومعين الحكام 7، 8.
(4)
حديث: " إن الله مع القاضي ما لم يجر. . . " أخرجه الترمذي (3 / 609) من حديث عبد الله بن أبي أوفى وقال: حديث حسن غريب.
(5)
حديث: " من ولي القضاء أو جعل قاضيًا فقد ذبح بغير سكين ". أخرجه الترمذي (3 / 605) من حديث أبي هريرة، وقال:" حديث حسن غريب ".
وَحَدِيثُ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. (1)
وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُل مَا جَاءَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَخْوِيفٌ وَوَعِيدٌ إِنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ قُضَاةِ الْجَوْرِ وَالْجُهَّال الَّذِينَ يُدْخِلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ فَقَدْ قَال بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ: هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الْقَضَاءِ وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لَهُ مُجَاهِدٌ لِنَفْسِهِ وَهَوَاهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ مَنْ قَضَى بِالْحَقِّ إِذْ جَعَلَهُ ذَبِيحَ الْحَقِّ امْتِحَانًا، لِتَعْظُمَ لَهُ الْمَثُوبَةُ امْتِنَانًا، فَالْقَاضِي لَمَّا اسْتَسْلَمَ لِحُكْمِ اللَّهِ وَصَبَرَ عَلَى مُخَالَفَةِ الأَْقَارِبِ وَالأَْبَاعِدِ فِي خُصُومَاتِهِمْ، فَلَمْ تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ حَتَّى قَادَهُمْ إِلَى أَمْرِ الْحَقِّ وَكَلِمَةِ الْعَدْل، وَكَفَّهُمْ عَنْ دَوَاعِي الْهَوَى وَالْعِنَادِ، جُعِل ذَبِيحَ الْحَقِّ لِلَّهِ وَبَلَغَ بِهِ حَال الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَالتَّحْذِيرُ الْوَارِدُ مِنَ الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الظُّلْمِ لَا عَنِ الْقَضَاءِ،
(1) حديث: " القضاة ثلاثة. . " أخرجه الترمذي (3 / 604) والحاكم (904) من حديث بريدة، واللفظ للترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
فَإِنَّ الْجَوْرَ فِي الأَْحْكَامِ وَاتِّبَاعَ الْهَوَى فِيهِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (1) ، فَالأَْحَادِيثُ السَّابِقَةُ بِجُمْلَتِهَا، بَعْضُهَا مُرَغِّبٌ وَبَعْضُهَا مُرَهِّبٌ، وَالْمُرَغِّبُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الصَّالِحِ لِلْقَضَاءِ الْمُطِيقِ لِحَمْل عِبْئِهِ، وَالْقِيَامِ بِوَاجِبِهِ، وَالْمُرَهِّبُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل دُخُول مَنْ دَخَل فِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَامْتِنَاعُ مَنِ امْتَنَعَ عَنْهُ، فَقَدْ تَقَلَّدَهُ بَعْدَ الْمُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، سَادَاتُ الإِْسْلَامِ وَقَضَوْا بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَدُخُولُهُمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عُلُوِّ قَدْرِهِ، وَوُفُورِ أَجْرِهِ، فَإِنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ، وَوَلِيَهُ بَعْدَهُمْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَمَنْ كَرِهَ الدُّخُول فِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعَ فَضْلِهِمْ وَصَلَاحِيَّتِهِمْ وَوَرَعِهِمْ مَحْمُولٌ كُرْهُهُمْ عَلَى مُبَالَغَةٍ فِي حِفْظِ النَّفْسِ، وَسُلُوكٍ لِطَرِيقِ السَّلَامَةِ، وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فُتُورًا أَوْ خَافُوا مِنَ الاِشْتِغَال بِهِ الإِْقْلَال مِنْ تَحْصِيل الْعُلُومِ. (2)
وَمِمَّنِ امْتَنَعَ عَنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ بَعْدَ أَنْ طُلِبَ لَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ (3) .
(1) سورة الجن / 15.
(2)
معين الحكام ص 8، المغني 9 / 35، ومغني المحتاج 4 / 372، وتبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 13، 14.
(3)
كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم الحموي ص 62.