الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنَّ ذَلِكَ هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي قُضَاةِ الزَّمَانِ السَّابِقِ، أَمْثَال الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ، وَابْنِ رُشْدٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، وَعِيَاضٍ، وَقَدْ عُدِمَ هَذَا النَّمَطُ فِي زَمَانِنَا مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلِذَلِكَ نُقِل عَنْ وُلَاةِ قُرْطُبَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا وَلَّوْا رَجُلاً الْقَضَاءَ شَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ مَا وَجَدَهُ، وَإِنَّ سَحْنُونًا كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَى مَنْ يُوَلِّيهِ الْقَضَاءَ أَنْ لَا يَقْضِيَ إِلَاّ بِقَوْل أَهْل الْمَدِينَةِ وَلَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ عَامًّا، بِأَنْ قَال لَهُ: لَا تَحْكُمْ فِي جَمِيعِ الأَْحْكَامِ إِلَاّ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَثَلاً، كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلاً، وَهَل يَبْطُل عَقْدُ التَّوْلِيَةِ؟ نُظِرَ، إِنْ كَانَ عَدَل عَنْ لَفْظِ الشَّرْطِ وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الأَْمْرِ كَقَوْلِهِ: احْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ مَخْرَجَ النَّهْيِ كَقَوْلِهِ: لَا تَحْكُمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ صَحَّ التَّقْلِيدُ، أَمَّا إِنْ كَانَ التَّقْلِيدُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا كَقَوْلِهِ: أَقِدْ مِنَ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلاً، وَإِنْ قَرَنَهُ بِلَفْظِ الشَّرْطِ بَطَل التَّقْلِيدُ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا، نُظِرَ، إِنْ نَهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِي قَتْل الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَلَا يَقْضِي فِيهِ بِوُجُوبِ قَوَدٍ وَلَا
(1) تبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 22، 23، 57، 58.
بِإِسْقَاطِهِ، فَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالتَّقْلِيدُ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ وَنَهَاهُ عَنِ الْقِصَاصِ فَفِيهِ وَجْهَانِ.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا حَكَمَ بِمَذْهَبٍ لَا يَتَعَدَّاهُ كَانَ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ، وَأَرْضَى لِلْخَصْمِ، هَذَا وَإِنْ كَانَتِ السِّيَاسَةُ تَقْتَضِيهِ فَأَحْكَامُ الشَّرْعِ لَا تُوجِبُهُ، لأَِنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا مَحْظُورٌ وَالاِجْتِهَادَ فِيهَا مُسْتَحَقٌّ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ الْقَضَاءُ لِوَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (2) ، وَالْحَقُّ لَا يَتَعَيَّنُ فِي مَذْهَبٍ، وَقَدْ يَظْهَرُ الْحَقُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ. فَإِنْ قَلَّدَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بَطَل الشَّرْطُ وَصَحَّتِ الْوِلَايَةُ، وَحَكَى ابْنُ قُدَامَةَ وَجْهًا آخَرَ فِي صِحَّةِ الْوِلَايَةِ. (3)
هـ -
تَعَدُّدُ الْقُضَاةِ:
30 -
يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ الإِْمَامُ قَاضِيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَيَخُصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ نَوْعٍ، بِأَنْ يُوَلِّيَ أَحَدَهُمْ عُقُودَ الأَْنْكِحَةِ، وَالآْخَرَ الْحُكْمَ فِي الْمُدَايَنَاتِ، وَآخَرَ
(1) أدب القضاء لابن أبي الدم ص 96، 97، وأدب القاضي للماوردي 1 / 187. والأحكام السلطانية للماوردي ص 65.
(2)
سورة ص / 26.
(3)
كشاف القناع 6 / 292، 293، وشرح منتهى الإرادات 3 / 463، والمغني 9 / 106.
النَّظَرَ فِي الْعَقَارِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا وَلَّى قَاضِيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَمَلاً وَاحِدًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ الْقَاضِيَانِ فِي قَضِيَّةٍ، وَفِي رَأْيٍ آخَرَ قَالُوا: لَا يَجُوزُ، لأَِنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فَلَا تَنْفَصِل الْحُكُومَةُ، وَقَدْ نَصَّتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدِ الْقَاضِيَيْنِ الْمَنْصُوبَيْنِ لاِسْتِمَاعِ الدَّعْوَى أَنْ يَسْتَمِعَ تِلْكَ الدَّعْوَى وَحْدَهُ وَيَحْكُمَ بِهَا، وَإِذَا فَعَل لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ نَصْبُ قُضَاةٍ مُتَعَدِّدِينَ يَسْتَقِل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَاحِيَةٍ يَحْكُمُ فِيهَا بِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْفِقْهِ، بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ حُكْمُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حُكْمِ الآْخَرِ، أَوْ قُضَاةٍ مُتَعَدِّدِينَ يَسْتَقِل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِبَلَدٍ أَوْ خَاصٍّ بِنَاحِيَةٍ أَوْ نَوْعٍ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الاِسْتِقْلَال فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، فَلَا يَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَ قَاضِيَيْنِ، هَذَا إِذَا كَانَ التَّشْرِيكُ فِي كُل قَضِيَّةٍ، بَل وَلَوْ كَانَ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ كُل وَاحِدٍ عَلَى حُكْمِ صَاحِبِهِ؛ لأَِنَّ الْحَاكِمَ لَا يَكُونُ نِصْفَ حَاكِمٍ، وَصَرَّحَ ابْنُ فَرْحُونَ بِعَدَمِ صِحَّةِ عَقْدِ الْوِلَايَةِ لِحَاكِمَيْنِ مَعًا عَلَى أَنْ يَجْتَمِعَا وَيَتَّفِقَا
(1) روضة القضاة 1 / 75، 81، المادة (1802) من المجلة، الفتاوى الهندية 3 / 218.
عَلَى الْحُكْمِ فِي كُل قَضِيَّةٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَدْ شُرِطَ فِي عَقْدِ وِلَايَتِهِمَا. (1)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الأَْصَحُّ - جَوَازُ وِلَايَةِ الْقَاضِيَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُخَصِّصِ الإِْمَامُ كُلًّا مِنَ الْقَاضِيَيْنِ بِمَكَانٍ أَوْ نَوْعٍ أَوْ زَمَانٍ، وَصَحَّحَهُ الإِْمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ إِلَاّ أَنْ يُشْتَرَطَ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْحُكْمِ فَلَا يَجُوزُ لِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْخِلَافِ فِي مَحَل الاِجْتِهَادِ، فَلَا تَنْفَصِل الْخُصُومَاتُ وَقَالُوا: لَوْ وَلَّى الإِْمَامُ مُقَلِّدَيْنِ لإِِمَامٍ وَاحِدٍ - عَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ تَوْلِيَةِ الْمُقَلِّدِ - فَيَجُوزُ وَإِنْ شَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ؛ لأَِنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافٍ؛ لأَِنَّ إِمَامَهُمَا وَاحِدٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ لإِِمَامِهِمَا قَوْلَانِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَيَحْكُمُ بِأَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. (2)
وَلِلْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ الْجَوَازِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِيقَافِ الْحُكْمِ وَالْخُصُومَاتِ، لأَِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الاِجْتِهَادِ، وَيَرَى أَحَدُهُمَا مَا لَا يَرَى الآْخَرُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَرَجَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ جَوَازُ التَّوْلِيَةِ إِذَا كَانَ الْقَاضِيَانِ لَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ مُعَلِّلاً ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا خَلِيفَتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَالإِْمَامُ أَوْلَى لأََنْ يُوَلِّيَ قَاضِيَيْنِ
(1) الدسوقي 4 / 134.
(2)
مغني المحتاج 4 / 380.