الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة
1 - [ليبيا]
هذا الجزء من تاريخ الأدب العربى قبل العصر الحديث خاص بليبيا وتونس وصقلّية، وقد بدأته بليبيا، فتحدثت عن جغرافيتها ومناطقها: طرابلس وفزّان وبرقة، وعن زروعها وصناعاتها وتجارتها وموانيها، كما تحدثت عن تاريخها القديم وفتح العرب لها، وسطوع شمس الإسلام بديارها، وعن ولاتها أيام الأمويين والعباسيين وتبعية ولاية طرابلس وقسمها الغربى للدولة الأغلبية، وتبعية برقة وقسمها الشرقى لوالى مصر، وتبعيتهما معا للدولة العبيدية الفاطمية فى المهدية والقاهرة، وتسترجع الدولة الصنهاجية فى القيروان طرابلس، ويؤسس بها لنحو نصف قرن بنو خزرون إمارة لهم، وتكتسح ليبيا الهجرة الأعرابية الكبرى فى منتصف القرن الخامس الهجرى، وتتبع برقة مصر فى أيام الأيوبيين والمماليك، بينما تتبع طرابلس الدولة الحفصية فى تونس، وتتأسس بها دولة بنى عمار فى القرن الثامن الهجرى (724 - 803 هـ) وتسترجعها الدولة الحفصية، ويستولى عليها فرديناند ملك إسبانيا سنة 916 هـ/1510 م ويسلّمها بعده شارل الخامس إلى فرسان مالطة سنة 936 هـ/1530 م ويطردهم منها الأسطول العثمانى سنة 958 هـ/1551 م، وتصبح ولاية عثمانية ويتولاها دايات مختلفون حتى إذا وليها أحمد القرمانلى سنة 1123 هـ/1795 م جعلها وراثية فى أبنائه. وفى سنة 1251 هـ/1835 م استردّتها الدولة العثمانية من الأسرة وحوّلتها من إيالة إلى ولاية، وبذلك تبدأ ليبيا عصرها الحديث.
وقد سكن ليبيا - من قديم - سلالات من البربر، ويقسمها النسابون إلى برانس، وهم الحضر أهل المدن، وبتروهم الرحّل أهل الهضاب والصحارى، ونزلها قديما الفينيقيون والإغريق والرومان وبعض اليهود والزنوج، ثم نزلها العرب ومن تألفت منهم جيوشهم من أهل إيران والعراق والشام ومصر، وهاجر إليها أندلسيون كثيرون بين القرنين السابع والحادى عشر للهجرة. ونزلتها حاميات تركية فى العهد العثمانى، وألقى إليها القراصنة ببعض أسراهم المسيحيين، وأسلم منهم كثيرون. وكل هذه العناصر انصهرت فى البوتقة الليبية وظل العنصر
الليبى البربرى-مع ما حدث له من بعض التطور-هو العنصر الغالب على كل العناصر الوافدة على دياره. ومن قديم كانت التجارة رائجة رواجا كبيرا فى برقة وطرابلس، مما جعل الإغريق يحتلّون الأولى ويؤسسون بها مدنا تجارية متعددة، كما جعل الفينيقيين والرومان يحتلون-بدورهم-طرابلس. وكان الساحل الشمالى يموج بمصايد الأسماك فيه، وكان ما وراءه من المدن والسهول والوديان يكتظ بأشجار الزيتون والنخيل والفواكه والزروع والحبوب، واكتظت الواحات بالنخيل وأنواع التمور والفواكه، وامتلأت الهضاب والصحارى بمراعى الأغنام والأنعام. ونلتقى بصناعات يدوية كثيرة وخاصة صناعة النسيج والزجاج وعصر الزيت ودبغ الجلود وقطع الرخام: طيبات كثيرة من الرزق. وكان البربر وثنيين ونزل بديارهم اليهود وكانت لهم بطرابلس حارة خاصة بهم، واستجاب بعض أهل المدن فى عهد الرومان وبيزنطة للمسيحية، وكان بينهم أرثوذكس يتبعون كنيسة القبط فى الإسكندرية وكاثوليك يتبعون كنيسة روما البابوية. وما إن نزل الإسلام ليبيا حتى أسرعت جماهيرها إلى اعتناقه، وآثرت دائما مذهب مالك السنى واعتنق المذهب الإباضى جبل نفوسة وبعض أهل طرابلس. ومعروف أن الدولة العثمانية كانت تعمل على إشاعة مذهب الإمام أبى حنيفة فى الولايات التابعة لها، غير أن مذهب مالك ظل فى ليبيا-مثل جميع بلاد المغرب-هو المذهب العام للجماهير الليبية. وقد نزع كثير من أهل ليبيا إلى الزهد، وشاعت بينهم فى الحقب المتأخرة الطرق الصوفية السنية.
وأخذت الحركة العلمية تنشط فى ليبيا منذ الفتح، إذ لم يكن الفاتحون غزاة يبتغون المغانم، إنما كانوا مجاهدين فى سبيل الله يبتغون نشر دينه فى أرجاء الأرض، ولذلك كانوا بمجرد الفراغ من الفتح يتحولون معلمين يهدون أهل الشعوب المفتوحة للإسلام وتعاليمه مع تحفيظهم لبعض آيات وسور من الذكر الحكيم، وسرعان ما كانوا ينشئون لهم الكتاتيب-كما حدث فى طرابلس-يعلمونهم فيها مبادئ القراءة والكتابة ويحفّظونهم القرآن ويرشدونهم إلى تعاليم الإسلام. وأخذت حلقات العلماء تكثر فى المساجد بالمدن والقرى، وبالتدريج أخذوا يعنون بتفقيه الناس فى الدين وتعريفهم بالعربية وقواعدها السديدة فى النطق والتعبير. ولم يلبث أن رحل إلى المشرق بعض الليبيين فى طلب العلم. واشتهر فى كل مدينة ليبية بعض العلماء، وظهر فى كل علم أئمة كبار، ونمت العلوم اللغوية والإسلامية. ودار الزمن دورات، وازدهرت تلك العلوم فى عهد الدولة الحفصية وساعد على ازدهارها نشوء المدارس والزوايا، وخمدت الحركة العلمية فى العهد العثمانى، أو بعبارة أدق أصابها شئ من الركود.
وإذا أخذنا نراجع العلوم والعلماء على مر الزمن لاحظنا أن ليبيا لم تعرف بنشاط فى علوم الأوائل ولكنها عرفت ذلك فى العلوم اللغوية والدينية، إذ لمع فيها-طوال القرون الإسلامية-علماء مختلفون مثل الأجدابي اللغوى فى القرن الخامس الهجرى ومؤمن بن فرج
المقرئ فى نفس القرن الخامس والمقرئ على بن عبد الحميد العوسجى فى القرن العاشر وفى التفسير الخروبى فى نفس القرن العاشر. ونبغ فى الحفاظ المحدثين أسرة أحمد بن صالح العجلى فى القرن الثالث وابن زكرون وأحمد بن نصر الداودى فى القرن الرابع وابن عبيد فى القرن السابع، ولمع فى الفقه السنى موسى بن عبد الرحمن القطان فى القرن الثالث وابن المنمر فى القرن الخامس وعمران بن موسى فى القرن السابع والزليطنى فى القرن التاسع، وممن نبغ فى الفقه الإباضى عمروس النفوسى فى القرن الثالث، وأحمد بن بكر النفوسى مؤسس جماعة العزابة فى القرن الخامس وعلى بن يخلف التيمجارى فى القرن السادس والجيطالى والشماخى فى القرن الثامن. وظهر بليبيا بعض المؤرخين.
وقد تعرّبت ليبيا سريعا لكثرة من نزل بها من القبائل العربية ومن الجند الناشرين للإسلام، وأكملت تعربها هجرة الأعراب الكبرى من بنى سليم وبنى هلال فى منتصف القرن الخامس الهجرى، إذ امتزجت عشائر القبيلتين أو بعبارة أدق من استقرّ منها فى ليبيا بأهلها من البربر، وأصبحوا شعبا عربيا كبيرا فى تقاليده وعاداته وملابسه ومطاعمه وأفراحه وأحزانه وأخلاقه وشيمه وفروسيته ومروءته ونجدته، وكان طبيعيا أن تنتصر العربية لغة الدين والثقافة أثناء ذلك على اللغة البربرية انتصارا حاسما، ويشهد الرحالة الكبير العبدرى لأهل برقة بالفصاحة، ويؤكد أنهم كانوا-حتى زمنه-فى آخر القرن السابع الهجرى-لا يزالون يتكلمون بالفصحى بأنصع وأدق مما ينطق بها ويتكلمها أهل الحجاز، ولا تزال لغة برقة-إلى اليوم بشهادة بعض المعاصرين-قريبة قربا شديدا من أمّها الفصحى. ولم تحدث فى ليبيا نهضة أدبية واسعة قبل عصرها الحديث، ومرجع ذلك-فى رأينا-إلى أنه لم ينشأ بها دولة ترعى الأدب والأدباء، ولا نشأ بها ديوان إنشاء يحدث فيها حركة نثرية أدبية، ولا كان فيها رعاة للشعر يجزلون العطاء للشعراء. ويلمع فيها بأخرة من القرن الثالث الهجرى شاعر طرابلسى يسمى خليل بن إسحاق ويلتحق بحاشية العبيديين فى عاصمتهم مدينة المهدية، ويلمع بها فى القرن السابع الهجرى فتح بن نوح الإباضى وابن أبى الدنيا وابن معمر، كما يلمع فى العهد العثمانى البهلول الطرابلسى، وله ديوان فى المديح النبوى، وألمع شاعر بعده أحمد بن عبد الدائم. وتذكر كتب التراجم-من حين إلى آخر-لبعض الكتاب الليبيين رسالة أو مقامة مكتفية بمثل هذه الإشارة دون أن تعرضهما على القارئ، وكان فتح بن نوح الإباضى ناثرا مجيدا، كما كان شاعرا مجيدا.