الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
نشاط الشعر والشعراء
1 - نشاط الشعر
كانت صقلية جنّة من جنان العالم الإسلامى بما كانت تحمل فوق حقولها من رداء القمح الذهبى ورداءات الكروم والبرتقال ومزارع القطن الزمردية وبساتين النخيل والموز والفواكه والزهور الأرجة، والخيل الكريمة، ومعادن الذهب والفضة والكبريت والنحاس ومصانع الأقمشة والحرير المزركش. لقد كانت حديقة كبيرة فى البحر المتوسط لم يحسن الخلفاء العبيديون بعد الدولة الأغلبية القيام عليها فضلا عما تبعها من شبه جزيرة قلوريّة فى إيطاليا.
وطبيعى أن يتغنّى بهذه الحديقة الفاتنة كثير من الشعراء، ونلاحظ أن هذا التغنى تأخر نحو قرن فقد تأخر طوال حكم الدولة الأغلبية، إذ كانت فى صراع مستمر مع كثير من المدن والحصون، ومع ذلك مدّت ذراعها إلى جنوبى إيطاليا واستولت على قلوريّة. وتستولى الدولة العبيديّة على مقاليد الأمور بإفريقية التونسية وتخمد حركة الفتوح فى الجزيرة وكأنما لم تكن تعنيها فى قليل ولا كثير، حتى إذا تركت شئونها السياسية والإدارية إلى بنى أبى الحسين الكلبيين أخذت الجزيرة تشعر معهم بشئ من الاستقلال، كما أخذت تشعر بشئ من شخصيتها، وعادت لها الحماسة الإسلامية، وأخذت هذه الدولة تعنى بفتح ما تبقى من البلدان والحصون فى صقلّية وفى قلوريّة.
وتزدهر الحركة الشعرية فى صقلية لعهد هذه الدولة، وخير كتاب كنا نطلع منه على هذا الازدهار لو أنه لم يسقط من يد الزمن هو كتاب «الدرة الخطيرة فى المختار من شعراء الجزيرة» لابن القطاع على بن جعفر السعدى الذى توفى بمصر سنة 515 هـ/1121 م، فقد كان يشتمل على مائة وسبعين شاعرا، وكأنه أراد أن ينافس بكتابه كتاب الأنموذج لابن رشيق الذى اشتمل على مائة شاعر فحسب، صوّر بهم الحركة الأدبية فى إفريقية التونسية، ولو أن كتاب ابن القطاع وصلنا لاستبانت الحركة الشعرية بصقلية الإسلامية تمام الاستبانة إذ قصره على تلك الحركة وحدها، ولم يدخل عليه أحدا من العصر النورمانى. وفى المكتبة التيمورية مختصر للكتاب اختيار أبى إسحاق بن أغلب، قال فى مقدمته له إنه ذكر فيه سبعة وستين شاعرا فقط،
ولا يوضّح على أى أساس اختار من اختار وأهمل من أهمل، والنسخة بها نقص فى تضاعيفها وفى آخرها، بحيث لم يبق فيها سوى 43 شاعرا، وحذف ما وضعه ابن القطاع مع الشاعر من مقدمات كانت حريّة أن تفيد الباحثين فى دراستهم لشعراء صقلية الإسلامية فى عصر الكلبيين. وهناك اختيار ثان لعلى بن منجب الصير فى المصرى المتوفى سنة 542 للهجرة من كتاب الدرة الخطيرة ضمنه تسعة عشر شاعرا، وهو منشور فى عنوان الأريب المطبوع بتونس للشيخ الجليل محمد النيفر التونسى. وبجانب اختيارات ابن منجب الصيرفى وأبى إسحاق بن أغلب من الدرة الخطيرة تلقانا اختيارات العماد الأصبهانى منها فى كتابه الخريدة، وبلغ ما اختاره منها 44 شاعرا مجموعة فى الجزء الأول المنشور وبعدها فى نفس الجزء شاعر من الدرة الخطيرة ص 327 من طبعة تونس ثم شاعران آخران ص 335، 336 وربما كانا أيضا من شعراء الدرة. ويبدأ العماد الحديث عن شعراء الخريدة بشاعر يقول إن أبا الصلت أمية بن أبى الصلت الأندلسى سماه فى رسالته المصرية، البلّنوبى أبا الحسن على بن عبد الرحمن بن أبى البشر الكاتب الصقلى الأنصارى، ويفيض فى ذكر غزلياته، ثم ينقل عن ابن بشرون المهدوى من كتابه المختار من النظم والنثر لأفاضل أهل العصر أحد عشر شاعرا كلهم من العصر النورمانى، ويضيف إليهم فى ص 273 ترجمة لأبى الضوء سراج بن أحمد بن رجاء الكاتب اعتمد فيها على كتاب ابن بشرون فيكون مجموع ما ساقه عن ابن بشرون اثنى عشر شاعرا من العصر النورمانى، وبذلك يبلغ من ذكرهم العماد فى الخريدة من شعراء صقلية نحو ستين شاعرا وإذا حاولنا أن نرصد بينهم أول من له صلة بالولاة الكلبيين لقينا القاسم بن نزار الكلبى يعاتب ابن عمه الأمير أحمد بن الحسن بن أبى الحسين الكلبى (354 - 358 هـ) على جفائه له وهو عتاب فيه مرارة شديدة إذ يقول (1):
إنّى متى يجفو الحبي
…
ب وصلت جفوته ببين
ومنعت عينى أن ترا
…
هـ ولو رأته فقأت عينى
ووضعته دون الحضي
…
ض لو أنّه فى الفرقدين
وقطعته لو كان يش
…
به أحمد بن أبى الحسين
وأكبر الظن أن الأمير أحمد بن الحسن بن أبى الحسين لم يكن فظا فقد كان قائد أسطول صقلية قبل توليه زمام الأمور بها، وكان يتعامل مع الناس تعاملا كريما، ونرى المعز يستقدمه إلى المهدية، ويوليه قيادة أساطيل الدولة، ويولى مكانه أخاه على بن الحسن (359 - 372 هـ)
(1) الخريدة للعماد الأصبهانى (طبع تونس) 1/ 86.