الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلم بخلت بوصلى
…
وليس لى من ذنوب
وما لسقمى شفاء
…
ولا له من طبيب
ولا لدائى دواء
…
إلا وصال الحبيب
والقطعة جديرة بأن يغنّى بها، لخفتها فى السمع وعذوبتها وتعبيرها عن الحب الذى أضناه ببساطة، وفيم هذا البخل بالوصل، وليس له من ذنوب، والبيتان الأخيران فى غاية الرشاقة مع النعومة ومع الحلاوة فى السمع التى تشيع فى كل الأبيات. ونتوقف قليلا للحديث عن الشاعر
البلّنوبى
وغزلياته.
البلّنوبى (1)
هو أبو الحسن على بن عبد الرحمن بن أبى البشر الأنصارى، ولد بمدينة بلّنوبة Villanova فى صقلية، فنسب إليها، وعلى شاكلة لداته اختلف إلى الكتاب لحفظ القرآن الكريم، ولزم الشيوخ حتى ثقف ما عندهم فى اللغة والنحو، وهاجر إلى مصر وعنى فيها بتدريس العروض والنحو فى كتبهما المشهورة حتى توفى سنة 442 للهجرة ويبدو أن ملكته الشعرية تفتحت بصقلية مبكرة ونشر رزّيتانو قطعة من شعره باسم ديوان البلّنوبى، وافتتح العماد تراجم الشعراء فى صقلية بترجمته، وبها مختارات كثيرة من غزلياته، وهو فى غزله يصور ما يتسم به الغزل عند شعراء صقلية من التجافى عن الغزل المادى الحسى وما يتصل به من وصف الجسم إلى الغزل المعنوى وما يتصل به من رقة الحس والشكوى من عذاب الحب والسهر وبعد الحبيب وهجره وما يجره ذلك على المحب من الضنا والنحول والسقم الذى لا شفاء منه، ومن طريف غزله:
إليك أشكو عيونا أنت قلت لها
…
فيضى فقد فضحتنى بين جلاّسى
وما تركت عدوّا لى علمت به
…
إلا وقد رقّ لى من قلبك القاسى
فإن رضيت بأن ألقى الحمام فيا
…
أهلا بذاك على العينين والراس
فهى التى أمرت عيونه أن تظل تذرف الدمع شوقا إلى لقائها، حتى فضحته بين جلاسه من صديق وعدو فالكل يرقّ له من قلبها المتناهى فى القسوة، وهو بذلك راض أن يظل مستجيبا لها ويظل الدمع يترقرق فى عيونه، حتى لو رضيت بأن يموت فى سبيلها، فسيتقبل الموت بمنتهى
(1) انظر فى البلنوبى إنباه الرواة 2/ 290 والخريدة للعماد الأصبهانى 1/ 5 والعرب فى صقلية ونشر رزيتانو ديوانه بالقاهرة سنة 1968.
الرضا. ويقول:
أترانى أحيا إلى أن يعودا
…
نازح لم يدع لعينى هجودا
كيف أرجو الحياة بعد حبيب
…
كان يومى به من الدهر عيدا
أشتهى أن أبوح باسمك لكن
…
لقّنتنى الوشاة فيك الجحودا
وهو يظن أنه لن يحيا حتى يعود حبيبه لطول سهاده وما يعانى منه، حتى ليتصور أنه ميت لا محالة، فقد ذهبت أيام لقائه به التى كان يعدها أعيادا، وإنه ليشتهى أن يبوح باسمه أو اسمها ولكنه يخاف الوشاة، وكأنما علّموه الجحود ونكران الحب. ويقول:
أما تعطفنّ على خاضع
…
لديك يناجيك مستعطفا
إذا كتبت يده أحرفا
…
إليك محا دمعه أحرفا
ولو كنت أملك غرب الدموع
…
منعت جفونى أن تذرفا (1)
وهو يشكو لصاحبته حبّه متذللا مستعطفا، ويقول إنه كلما كتب لها سطرا فى رسالة محت الدموع سطرا سابقا له، ولو كان يملك مصدر دموعه لمنع جفونه أن تذرف الدمع مدرارا، وصورة السطر الذى يكتب والسطر الذى تمحوه دموعه فى الرسالة بديعة. ويقول:
هجرتك يا سؤل نفسى ولى
…
فؤاد متى تذكرى يخفق
وما ذاك منى اطّراح الملول
…
ولكنه نظر المشفق
كما تتركين برود الشرا
…
ب ظمأى مخافة أن تشرقى
وهو يقول إنه هجر سؤل نفسه حبّ قلبه لا مللا ولكن إشفاقا عليها أشد الإشفاق، كما تترك وهى شاعرة بحرقة العطش كوبا من الماء البارد الذى يطفئ غلة ظمئها خوفا من أن تشرق بها وتغص غصة مؤذية شديدة. وكان يدرس العروض لطلابه، فرأى أن ينظم لهم مقطوعة غزلية ثلاثية الشطور، والشطر الأول فيها من مجزوء الخفيف والثانى من مجزوء الرمل والثالث من مجزوء المجتث بحيث إذا ضمّ شطر إلى أخويه أو إلى أخيه نتج وزن جديد، وهى تجرى على هذه الشاكلة (4):
وغزال مشنّف (2)
…
قد رثى لى بعد بعدى
لما رأى ما لقيت
(1) تذرف: تسيل.
(2)
مشنف: متخذ قرطا.