الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبالمثل غذتها هجرة مماثلة فى القرن الحادى عشر الهجرى انتشلت الأدب شعرا ونثرا مما كان قد صار إليه من الضعف الشديد وغلبة العامية عليه. ولن نستطيع أن نفصل الحديث فى الحركة الشعرية لاتساع جوانبها ومناحى القول فيها، بل سنعمد إلى غير قليل من الاجمال فى عرض أغراض الشعر ومن جلّى فى كل غرض، متخذين ممن نذكرهم رموزا لمن عاصرهم-وكذلك لمن خلفهم-من الشعراء، ونستهل ذلك بالحديث عن غرض المديح والنابهين من شعرائه على مر العصور.
شعراء المديح
أخذت سوق المديح تنفق فى الاقليم التونسى مع قيام الدولة العبيديّة التى كان خلفاؤها يتخذون منه منشورات للدعاية لحكمهم، ومرّ بنا ذكر بعض مادحيهم، ومن أهمهم أبو القاسم الفزارى المتوفى سنة 345 وله مدحة بديعة فى المنصور الفاطمى حين انتصر على مخلد بن كيداد الثائر الخارجى سنة 336 هـ وفيها يذكر من اشتهروا فى الجاهلية والإسلام بالشرف والجود والبأس، ثم يأخذ فى مديح المنصور وأنه لا يقل عنهم بأسا وجودا وشرفا بمثل قوله (1):
كريم المساعى والأيادى سمت به
…
أبوّة صدق من ذؤابة هاشم
شريف الأدانى والأقاصى مهذّب
…
إذا ما عددنا فضل أهل المكارم
وكان يعاصره على بن الإيادي، وسنخصه بكلمة. ويدور الزمن ونلتقى بحكام الدولة الصنهاجية، وكانوا بحورا فياضة، فجذبوا إليهم الشعراء من كل بلدة ومكان فى الإقليم التونسى، وتجلّت مواهبهم الشعرية الخصبة فى مدائحهم، من ذلك قول ابن سفيان فى المنصور الصنهاجى المتوفى سنة 386 للهجرة (2):
ومعترك ضاق الفضا فى مقامه
…
من الطّعن والأرض العريضة خاتم
تجلّى لها المنصور فانجاب جنحها
…
ولبّته فى لثم التراب الجماجم (3)
قناتهم فى حيث لا السيف ينتضى
…
كأن ضياه فى التراقى تمائم (4)
كأن الطّلا وسط العجاج خناصر
…
وقد صيغ من بيض الفرند خواتم (5)
(1) مجمل تاريخ الأدب التونسى للاستاذ حسن حسنى عبد الوهاب ص 86.
(2)
أنموذج الزمان فى شعراء القيروان جمع وتحقيق محمد العروسى المطوى وبشير البكوش ص 100.
(3)
الجنح: الظلام.
(4)
ينتضى: يسلّ من عمده.
(5)
الطلا: الأعناق. الفرند: السيف.
وتصوير الفضا وأنه ضاق بالقتلى تصوير قريب، غير أنه جعل الأرض كأنها تحولت خاتما يختم على قتلى الأعداء، ويستمر فيجعل تناثر جماجمهم ورءوسهم على التراب كأنها تنفذ للمنصور أمرا بلثمها للتراب، ويتصور ضياء سيوف جيشه فى تراقيهم كأنه تمائم، ويتسع به الخيال فيجعل أعناقهم وسط غبار الملحمة كأنها خناصر وقد أحاطت بها من بيض السيوف خواتم. وهى روعات متتابعة من الخيال البديع، وقد عقب ابن رشيق على الأبيات بقوله:«هذا كلام منتقى، ليس فوقه مرتقى» . ويقول قرهب الخزاعى فى باديس بن المنصور (1):
أبنى مناد سلكتم سنن الهدى
…
والعقد منكم بالوفاء معار
وكأنّ باديس المملّك فيكم
…
شمس الضحى وكأنكم أقمار
راق تلاع العزّ يحمى حوزه
…
حدّ البواتر والقنا الخطّار
وحدا بمدحه جازع فى مهمه
…
وشدا به الحضّار والسمّار
والكلمات فى الأبيات رصينة، ولكن المعانى مطروقة فى المديح، فبنو مناد أسرة باديس يسلكون طريق الهدى، وهم أهل الوفاء، وباديس شمس وهم أقمار من حوله، وهو راق تلاع العز أى أعاليه حام لحوز ملكه ونواحيه بالأسلحة الفاتكة، وهو محبوب حتى ليحدو بمدحه فى القفار كل خائف وحتى ليشدو باسمه ويتغنى الحضّار والسمار. ولإبراهيم بن القاسم القيروانى مدائح متعدّدة فيه وسنفرده بكلمة. وكان المعز بن باديس غيثا مدرارا، حتى قيل إن الشعراء الذين مدحوه وحفّوا به بلغوا المائة عدّا، ومن رائع مدائحه قول عبد العزيز بن خلوف الحرورى (2):
لو يستطيع لأدخل الأموات من
…
نعماه فيما نالت الأحياء
سوّت رعاياه يدا إنصافه
…
حتى الشوامخ والوهاد سواء
متنوع العزمات ماء مغدق
…
فيهم وعنهم صخرة صمّاء
ما أنت بعض الناس إلا مثلما
…
بعض الحصى الياقوتة الحمراء
فلو يستطيع المعز لنشر الأموات كى يقاسموا الأحياء من رعيته ما ينثر عليهم من نعماه، وإن يدى إنصافه لتسوى تسوية عادلة بين الأغنياء والفقراء من رعاياه، وإنه لمتنوع العزمات فهو على رعيته غيث مدرار، وهو على أعدائه صخرة صماء، وما يلبث الشاعر أن يأتى بصورة بديعة فالمعز حقا واحد من الناس إلا أنه ينفرد عنهم كما تنفرد من بين الحصى الياقوتة الحمراء.
(1) الأنموذج ص 325.
(2)
الأنموذج ص 163.
وفيه يقول ابن شرف القيروان (1):
شهاب الحرب مهلك كلّ باغ
…
ومحرق كل شيطان رجيم
تقطّع دونه البيض المواضى
…
وتجفل منه إجفال الظليم (2)
ويجلو عنه ليل النّقع وجه
…
كبدر التّمّ فى الليل البهيم (3)
فهو لا يهلك البغاة فحسب، بل يدمرهم ويحرق شياطينهم الملعونين، كأن لم يكونوا شيئا مذكورا، ومن دونه تقطّع السيوف الحداد القاطعة، وتنفر منه نفور النعام فى البوادى، حتى إذا أثير بالغبار الكثيف فى الحرب تجلى وجهه كما يتجلّى البدر فى اكتماله بالظلام المعتم الداجى.
وكان يعاصر ابن شرف الحسن بن رشيق القيروانى شاعر المعز وسنفرده بكلمة. وخلف المعز فى المهدية ابنه تميم، وكان محبا للعلماء ومعظما للشعراء وقصدوه من الآفاق البعيدة، وله أشعار جيدة، وفى عهده أغار أسطول النصارى على المهدية وعاثوا فيها فسادا سنة 480 هـ إلى أن انسحبوا منها بعد صلحهم مع تميم، ووصف شاعره أبو الحسن الحداد هذه الحادثة فى قصيدة فائية استهلها بقوله (4):
أنّى يلمّ الخيال أو يقف
…
وبين أجفاننا نوى قذف (5)
وخلف تميما ابنه يحيى، وبه نزل أمية بن أبى الصلت الشاعر الأندلسى الكبير فأغدق عليه من إكرامه وكذلك ابنه على وحفيده الحسن وأغدق عليهم من مدائحه، وبنى علىّ أسطولا للقاء روجار وحماية المهدية فتبارى الشعراء فى مديحه بسببه من مثل محمد بن بشير المهدوى وغيره، وكان متولى قابس رافع بن جامع الهلالى مدّ يده إلى روجار ضده وضد العرب فصمّم على فتحها وتم له ذلك سنة 511 وتبارى الشعراء فى تهنئته بهذا الفتح من مثل قول محمد بن بشير الذى يتهم رافعا بأنه أصبح نصرانيا (6)
سل رافعا ما الذى أجرى تنصّره
…
وهل يقى الذلّ عنه من به وثقا
لو لم ير الروم أهلا والصّليب أبا
…
لم يشك من عيشه فى قابس رنقا (7)
يقول له إن حياته فى قابس كانت صفوا هنيئة لولا ما كدرها من تعاونه مع روجار وأعوانه
(1) الأنموذج ص 342.
(2)
البيض المواضى: السيوف القاطعة. تجفل: تفر وتفزع.
(3)
النّقع: غبار الحرب.
(4)
الحلل السندسية 2/ 468. قذف: بعيدة.
(5)
قذف: بعيدة.
(6)
الحلل 2/ 355 وقابل بتاريخ الأدب التونسى ص 176.
(7)
الرنق: الماء الكدر.
من النصارى حتى لكأنما فارق دينه وتنصر بوقوفه مع أعداء الإسلام لا يذكر عهدا ولا ذمة.
وفى أواخر عصر الطوائف يلقانا مدافع بن رشيد من بنى جامع الهلاليين وكان شجاعا حتى لقّب بأبى الحملات، كما كان جوادا ممدّحا، وذكر صاحب الخريدة من مداحه أبا محمد الكلبى والسكدلى القفصى ويحيى بن التيفاشى، وأهم شعرائه جميعا سلام بن فرحان القابسى جليسه ووزيره، وأنشد له العماد فى مديحه ميمية بديعة يقول فيها (1):
هنّئ مدافع أن الله خوّله
…
سعدا ينال به كلّ الذى راما
قم فافتح الأرض فالأملاك كلّهم
…
سواك أضحوا عن العلياء نوّاما
وكان فى نفس الحقبة أميرا على سوسة جبارة بن كامل بن سرحان البعيد الصيت المشتهر بالجود، وهو هلالى مثل مدافع أمير قابس وشاعره ابن فرحان، ومن مداحه أبو الحسين بن الصبان المهدوى وفيه يقول (2):
فتى للعشيرة عزّ لها
…
غدا لجميع البرايا ثمالا
فهو ثمال وغياث لا للعشيرة وحدها بل لجميع الناس، وأهم منه بين شعراء جبارة التراب السوسى، وسنخصه بترجمة موجزة.
ونمضى إلى عصر الدولة الحفصية وكان مؤسسها أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد، وكان شاعرا محسنا، وله أشعار حماسية جيدة وفى موضوعات مختلفة، واهتم بالحركة العلمية والأدبية فى عهده، وفسح فيها وفى دولته للمهاجرين الأندلسيين، ولهم فيه ولمعاصريهم من التونسيين مدائح كثيرة، وهو جدير بها لما امتاز به من بعد النظر وحسن التدبير مع سمو الهمة، وكان يتلقب بالأمير فحسب، وعرّض له بعض الشعراء بأنه ينبغى أن يتسمى بأمير المؤمنين قائلا (3):
ألا صل بالأمير المؤمنينا
…
فأنت بها أحقّ العالمينا
فزجره زجرا شديدا، ولم يقبل منه ذلك. حتى إذا تولى ابنه المستنصر عمل على أن تأتيه البيعة بالخلافة كما مر بنا فى تاريخه، وكان ذلك من أسباب تكاثر العلماء والأدباء والشعراء فى تونس، إذ أصبحت تعدّ نفسها-من بعض الوجوه-حامية حمى الإسلام. ومن أهم شعرائها ابن عريبة وسنخصه بكلمة. وحدّثت نفس لويس التاسع بعد إخفاق حملته على مصر أن يغير على تونس سنة 668 للهجرة وحاصرها نحو أربعة أشهر، وكان عداد جيشه الذى هاجم به
(1) الخريدة (قسم شعراء المغرب) طبع تونس 1/ 124.
(2)
الخريدة 1/ 138.
(3)
الحلل السندسية 4/ 1024.
مصر سبعين ألفا فأصبح لا يرى فيه إلا قتيل أو أسير أو جريح، وقيّد لويس إلى دار تعرف بدار ابن لقمان والأغلال فى يده وحارسه الطواشى صبيح، وافتكّ نفسه من الأسر بدية كبيرة، فقال للويس بعض التونسيين مشيرا إلى كارثته بمصر (1):
يا فرنسيس هذه أخت مصر
…
فتأهّب لما إليه تصير
لك فيها دار ابن لقمان قبر
…
وطواشيك منكر ونكير
وصدّقت الأقدار قول هذا الشاعر التونسى فإن لويس دفن تحت سور تونس، وعاد جيشه إلى فرنسا مخذولا مدحورا. ولم يخل حكم المستنصر من عصيان بعض القبائل عليه فى الجهات النائية، وعصت عليه رياح فى جهة بسكرة، ووصلت إليه جماعة منها على غير أمان، فصلب أبدانهم ببسكرة ورءوسهم بتونس، وفى ذلك يقول أبو عبد الله بن أبى تميم الحميرى مادحا للمستنصر (2):
ويا حسن ما قرّت به أعين الورى
…
رءوس رياح فى رءوس رماح
فهذى دماء المارقين مباحة
…
وهذا حمى الإسلام غير مباح
بمستنصر يرمى العدا بكتائب
…
تعمّ نواحى أرضهم بنواح
ويظل خلفاء المستنصر معنيين بالحركتين الأدبية والعلمية. ويشتهر بين كتاب دواوينهم وشعرائهم آل التجانى وتنبغ فى الشعر بين نسائهم زينب بنت إبراهيم التجانى، ولهم أثر غير قليل فى الحركة الأدبية حتى زمن الخليفتين أبى عصيدة وأبى ضربة. واشتهر بين مداح الخلفاء فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى، بل قبل ذلك بفترة عبد الله التجانى صاحب الرحلة المشهورة المتوفى بعد سنة 718 وسنخصه بكلمة، وكان يصادق كبير مشيخة الدولة أبا يحيى اللحيانى الحفصى وتولى الخلافة حينا. وممن خلفوه أبو بكر المتوكل، وكان شاعرا وفى شعره وشعر معاصريه من أهل تونس يقول ابن فضل الله العمرى فى مسالك الأبصار: «لأهل إفريقية (تونس) لطف أخلاق وشمائل بالنسبة إلى أهل برّ العدوة (المغرب) وسائر بلاد المغرب بمجاورتهم مصر وقربهم من أهلها ومخالطتهم إياهم ومخالطة من سكن عندهم من أهل إشبيليّة من الأندلس وهم من هم خفة روح وحلاوة بادرة، وأهل انطباع، وكرم طباع، وناهيك من بلاد من شعر ملكها السلطان أبى بكر المتوكل قوله:
(1) الحلل 4/ 1032.
(2)
الفارسية لابن منقذ تقديم وتحقيق محمد الشاذلى النيفر وعبد المجيد التركى ص 130.
مواطننا فى دهرهنّ عجائب
…
وأزماننا لم تعدهن الغرائب
مواطن لم تحك التواريخ مثلها
…
ولا حدّثت عنها الليالى الذواهب
وقوله فى الحماسة:
انظر إلينا تجدنا ما بنا دهش
…
وكيف يطرق أسد الغابة الدّهش
لا تعرف الحادث المرهوب أنفسنا
…
فإننا بارتكاب الموت ننتعش
وقوله فى الغزل:
عسى الله يدنى للمحبّين أوبة
…
فتشفى قلوب منهم وصدور
وكم من قصىّ الدار أمسى بحزنه
…
فأعقبه عند الصباح سرور
وإذا كان هذا رقة طبع السلطان فما ظنك بغيره من العلماء والأدباء (1)! ». ولعل هذا الحكم الدقيق لابن فضل الله العمرى خير رد على ابن خلدون المتوفى بعده بستين عاما وما ذهب إليه فى مقدمته من عراقة العجمة فى لغات أهل الأمصار، كما هو واضح-كما يقول-فى لغات أهل إفريقية وأشعارهم، ويتسع بالتهمة فى الإقليم التونسى قائلا:«ولهذا ما كان بإفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق وابن شرف، وأكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها، ولم تزل طبقتهم فى البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور» . وابن فضل الله العمرى إنما يتكلم عن شعراء الإقليم التونسى فما بالنا بالقرون التالية لابن رشيق وابن شرف ومن بها من الشعراء التونسيين المجيدين المحسنين، من أمثال على الحصرى وعبد الله الشقراطسى من شعراء القرن الخامس بعد ابن رشيق وابن شرف وأبى الفضل بن النحوى والتراب السوسى من شعراء القرن السادس وابن عريبة والسّماط المهدوى من شعراء القرن السابع وعبد الله التجانى وابن حسينة من شعراء القرن الثامن، وجميعهم ممن تباهى بهم تونس، وسنترجم لهم فى الصحف التالية محاولين أن نوضح براعاتهم الشعرية، ونفس ابن خلدون كان شاعرا وله مدائح فى السلطان أحمد معاصره، وهو لا يتفوق فى شعره تفوقه فى نثره، ولذلك سنترجم له بين الكتّاب.
وفى الحق أنه قسا فى حكمه على شعراء تونس وبالغ فى قسوته. وفى سنة 838 تولى أبو عمرو عثمان حتى سنة 893 وهو خاتمة خلفائهم الضابطين للحكم وإدارته، وفى الحلل
(1) صبح الأعشى 5/ 115 وقارن بتاريخ الأدب التونسى ص 185.
السندسية أنه ممدوح الشهاب ابن خلوف (1) الجزائرى المتوفى سنة 899 وله فى مديحه (2):
تلقاه أنّى حلّ يبسط للقرى
…
بسطا يظلّلها القنا الرّيان
شرف أتيه وبيت ملك شامخ
…
فوق السّماك غدا له إيوان
فهو جواد لا يزال جوده يفيض فى كل مكان يحل فيه، ولا تزال رماح شجاعته وشجاعة جيشه تظلّه وتظل من حوله من رعاياه، شرف ناله من بيت ملك سامق، إيوانه فوق السماك فى أعلى مكان. ويختم العصر الحفصى بأبى الفتح بن عبد السلام الذى بكى الدولة الحفصية وتاريخها بكاء حارّا.
ويعود إلى المديح والشعر بعامة غير قليل من الانتعاش فى عصر الدولة الحسينية، العثمانية كما أسلفنا إذ كان حكامها يولدون بتونس ويتربون فيها تربية عربية، وأخذوا يشعرون بأنهم تونسيون وأن واجبهم أن ينهضوا بتونس علميا وأدبيا وهو ما وضعه نصب عينيه مؤسسها حسين بن على، وبالمثل على ابن أخيه حين استولى على الحكم، ودارت الدوائر عليه لابن عمه محمد الرشيد، فاستولى على صولجان الحكم، وكان شاعرا بارعا وموسيقيا ماهرا فبث فى تونس حركة أدبية وموسيقية تخفق بالحياة، وسار سيرة أبيه وابن عمه فى تشجيع العلماء والشعراء، ولم يلبث أن توفى فخلفه أخوه على الثانى، وتعرّض حكمه لهزات عنيفة كانت له فيها دائما الغلبة، وخلفه ابنه حمودة وكانت أيامه أيام رخاء ويسر، ونعمت فيها الرعية بالأمن والاستقرار ورخاء الأسعار وصلاح البلاد، فكان طبيعيا أن يكون القرنان الحادى عشر والثانى عشر الهجرى قرنى عمران وخصب فى الحياتين العلمية والأدبية، غير أن تونس أصابها حينئذ ما أصاب البلاد العربية من تخلف فى الحياة العلمية، فغدت تعتمد على المتون والشروح وكأن ابن خلدون لم يخلّف وراءه فيها من ينهض بالحياة العلمية فى المستوى الذى كتب فيه مقدمته، وأيضا فإن الحياة الأدبية-وحياة الشعر خاصة-أصابها غير قليل من التخلف، إذ أخذ الشعراء يرتضون لأنفسهم الاكتفاء فى كثير من الأحيان بأن يعارضوا هذا الشاعر أو ذاك من شعراء الأسلاف، فإن تركوا المعارضة فإلى تمسك شديد بفنون البديع وخاصة فن التورية، وبذلك ضيّقوا على أنفسهم القنوات التى ينبغى أن يجرى فيها الشعر وملئوها بما لا يحصى من المحسنات البديعية، وهى محسنات كانت من الكثرة بحيث كادت تخنق الشعر خنقا، ونصبح وكأننا فى حاجة إلى مصباح ديوجين لنجد شاعرا تونسيا يخلص أشعاره من هذه الأعشاب والمعوقات الضارة التى تكاد تفقدها الحياة، ومع ذلك لن نعدم أن نجد بين شعراء المديح من يخفف عن شعره عبء
(1) الحلل 4/ 1084.
(2)
ديوان شهاب الدين بن الخلوف (طبع تونس) ص 127.
أعباء هذه المحسنات، من مثل قول السراج صاحب الحلل السندسية مهنئا محمدا الرشيد بجلوسه على أريكة الولاية (1):
أمير السعادة يهنيكم
…
شباب الولاية بعد المشيب
وأيام ملكك ألبستها
…
على العز ثوب الجمال العجيب
مليك يخال سنا وجهه
…
ضحى الشمس من فوق غصن رطيب
فقد ردّ إلى الولاية شبابها وألبسها ثوب الجمال العجيب، وكأنما سنا وجهه ضحى الشمس من فوق غصن رطيب. وهو مجرد كلام وليس فيه رصانة التعبير ولا دقة المعانى ولا دقة التصوير، إنه مجرد كلام منظوم على وزن وقافية. وبنفس الأسلوب يهنئ حمودة بن عبد العزيز محمدا الرشيد باى حين استولى على صولجان الحكم قائلا (2):
الآن قد وافى الأمير وطاب لى
…
زمن الحسينى أن أبيت مسهّرا
الأروع الملك الرشيد محمد
…
أعلى الملوك ذرا وأطيب عنصرا
وأجلّ من جلّى الخطوب وقد دجت
…
ليلا وأفضل من يقود العسكرا
بذل النّوال كما استهلّت ديمة
…
وبكفه سيف يريك تسعّرا
والأبيات ليس فيها روح وبعض ألفاظها قلق ولا يكاد يستقر فى موضعه على نحو ما يتضح فى كلمة «مسهرا» فى البيت الأول وكلمة «تسعرا» فى البيت الرابع، وبدلا من أن يبيت هانئا لاعتلاء محمد الرشيد باى منصة الحكم يبيت مسهدا. وخير من هذين الشاعرين الطوير القيروانى فى تهنئته لعلى باى الثانى حين انتصر على بعض خصومه وأذاقهم وبال عصيانه مستهلا تهنئته الطويلة بقوله (3):
فتح ونصر وإسعاد وإقبال
…
لمن له خضعت صيد وأقيال (4)
ومن له همّة شمّاء قد سحبت
…
لها على الفلك الدوار أذيال (5)
ومن سريرته طابت وسيرته ال
…
غرّاء سارت بها فى الفلك أمثال
علىّ بن حسين من له فخر
…
على الملوك وإعظام وإجلال
والقصيدة بها شئ من الرصانة يحول بينها وبين السقوط كسابقتها، وإن كانت لا تستمر فى
(1) الأدب التونسى فى العهد الحسينى ص 40.
(2)
نفس المصدر ص 45.
(3)
الأدب التونسى فى العهد الحسينى ص 45.
(4)
صيد: جمع أصيد: السيد الشريف، أقيال: جمع قيل: ملك.
(5)
شماء: سامية.
هذه الديباجة. وأكثر من هذه القصيدة رصانة وجزالة قصيدة لخليفة المشرق فى نفس الممدوح يحمّسه ويستثيره فيها على منازلة خصومه مستهلا لها بقوله (1):
قاتل بسعدك فالمعالى تنجد
…
واعزم فجدّك لم يزل يتجدّد
والحرب أنت مجيدها ومجيلها
…
والخلق تعلم والوقائع تشهد
سمعت خيولك بالحروب فهزّها
…
طرب وباتت للصّهيل تردّد
ما ذاك إلا أنها عوّدتها
…
حمر الدّما حيث النّجيع المورد (2)
ويستمر الشاعر طويلا فى وصف معارك على باى وما يخوض فيها من الدماء إلى أعدائه وما يقطف من رءوسهم. والقصيدة حماسية قوية، ولم ننشد شيئا من شعر الشاعرين الرسميين على العراب الصفاقسى ومحمد الورغى، لأننا سنخصهما بترجمتين مجملتين. ونتوقف الآن لنترجم لبعض من مرّوا بنا من شعراء المديح، وسنحاول الإيجاز قدر المستطاع.
على (3) بن محمد الإيادي
نشأ وتربى بتونس، وهو من أهم شعراء الدولة العبيديّه بالقيروان والمهدية، وخدم الخلفاء:
القائم والمنصور والمعز، وذكره محمد بن شرف فقال:«وأما على بن الإيادي التونسى فشعره المورد العذب، ولفظه اللؤلؤ الرّطب، وهو بحترىّ الغرب، يصف الحمام، فيروق الأنام، ويشبّب فيعشق ويحبّب» . ومن شعره فى وصف أسطول القائم بالمهدية:
اعجب لأسطول الإمام محمد
…
ولحسنه وزمانه المستغرب
لبست به الأمواج أحسن منظر
…
يبدو لعين الناظر المستعجب
من كل مشرفة على ما قابلت
…
إشراف صدر الأجدل المتنصّب (4)
دهماء قد لبست ثياب تصنّع
…
تسبى العقول على ثياب ترهّب (5)
وتصويره للسفن بأنها منتصبة الصدر كالصقر تترقّب ما تنقضّ عليه تصوير بديع، ويتصور اللون الأبيض فى أعاليها كأنه ثياب ترهب، ويتحدث عن نار النفط التى تقذفها بألسنتها على الأعداء وعما يحفّها من مجادف مصفوفة فى الجانبين تطير بها فى عباب البحر المتوسط طيرانا.
ويطيل فى وصف الأسطول متنقلا بين تصاوير رائعة وهى قصيدة بديعة، ومثلها قصيدة ثانية
(1) الأدب التونسى فى العهد الحسينى، ص 45.
(2)
النجيع: دم الجوف.
(3)
انظر ترجمة الإيادي فى تاريخ الأدب التونسى للأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب ص 96.
(4)
الأجدل: الصقر.
(5)
دهماء: سوداء لطلائها بالقار.
وصف فيها القصر الذى أنشأه المنصور بصبرة إحدى ضواحى المهدية، وفيه يقول:
بنى قبّة للملك فى وسط جنة
…
لها منظر يزهى به الطّرف مونق
لها جدول ينصبّ فيها كأنه
…
حسام جلاه القين بالأرض ملصق
لها مجلس قد قام فى وسط مائها
…
كما قام فى فيض الفرات الخورنق
إذا بثّ فيها الليل أشخاص نجمه
…
رأيت وجوه الزّنج بالنار تحرق
والصور بديعة فالجدول كأنه حسام جلاه القين أو الحداد فهو يلمع أشد اللمعان بما فيه من مياه، وهو ملقى على الأرض بل ملصق بها لا يتركها أبدا، وقد قام وسط الماء مجلسها، وكأنه قصر الخورنق الذى بناه المنذر بن ماء السماء قديما على ضفة الفرات، حتى إذا دجا الليل وانتثرت النجوم على صفحة السماء رأيت وجوه الزنج تحرق بالنار. وتتكاثر هذه الصور وما يماثلها فى شعر الإيادي مما يدلّ بوضوح على ثراء ملكته الشعرية، وقد توفى سنة 365 هـ/976 م.
الكاتب (1) الرقيق إبراهيم بن القاسم القيروانى
نشأ وتربّى فى القيروان وإليها نسب، وهو شاعر باديس ورئيس الإنشاء فى الدولة الصنهاجية لمدة خمس وعشرين سنة، وهو مؤرخ إفريقية الكبير، وتاريخه فيها وفى المغرب فى عدة أجزاء، لم تنشر منه حتى الآن سوى قطعة صغيرة، ويقول عنه ابن خلدون فى مقدمته:«الرقيق مؤرخ إفريقية والدول التى كانت بالقيروان ولم يأت من بعده إلا مقلد له» ويقول ابن رشيق: «هو شاعر سهل الكلام محكمه لطيف الطبع قويّه، تلوح الكتابة على ألفاظه، غلب عليه اسم الكتابة وعلم التاريخ وتأليف الأخبار، وهو بذلك أحذق الناس، وله فى باديس أشعار مختلفة منها قوله:
وما مثل باديس ظهير خلافة
…
إذا اختير يوما للظهيرة موضع
نصير لها من دولة حاتميّة
…
إذا ناب خطب أو تفاقم مطمع
حسام أمير المؤمنين وسهمه
…
وسمّ زعاف فى أعاديه منقع
فباديس ظهير الخلافة وعونها ونصيرها الأكبر حين تنوب كارثة أو يتفاقم خطب، إنه حسام أمير المؤمنين وسهمه وسمّ قاتل لأعاديه. وله قصيدة يصف فيها وقعة حربية استبسل فيها باديس بشلف قرب المحمّدية (المسيلة) سنة 405 وكتب له فيها النصر على أعدائه، يقول:
(1) انظر فى الكاتب الرقيق معجم الأدباء 1/ 216 وفوات الوفيات 1/ 41 وابن رشيق فى الأنموذج ص 55 ومجمل تاريخ الأدب التونسى ص 121.