الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثّانى
المجتمع التونسى
1 -
عناصر (1) السكان
البربر هم العنصر الأول الذى سكن القطر التونسى وعمر أرضه أجيالا وقرونا قبل أن ينزله عناصر جدد، واختلف المؤرخون فى أصلهم ونسبهم، فقيل هم إفريقيون أصلا وموطنا وقيل بل هم آسيويون، فمن قائل إن أصلهم من اليمن، ومن قائل إن أصلهم من العماليق انتقلوا من ديار الشام إلى إفريقية، ومن قائل إنهم أخلاط من كنعان والعماليق، ومن قائل إنهم من عرب الشمال من ولد قيس بن عيلان، ومن قائل إن جدهم مازيغ كان أخا لفلسطين وأن أبناءه بارحوا الشام واخترقوا مصر إلى إفريقية، ومازيغ كان ابن كنعان بن حام، وهم بذلك حاميون لا ساميون، ويعلق ابن خلدون على هذه الآراء وما يماثلها فى بيان نسب البربر بأنها «أحاديث خرافة إذ مثل هذه الأمة (البربرية) المشتملة على أمم وعوالم ملأت جانب الأرض (المغربية) لا تكون منتقلة من جانب آخر وقطر محصور، والبربر معروفون فى بلادهم وأقاليمهم متميزون بشعارهم من الأمم منذ الأحقاب المتطاولة قبل الإسلام، فما الذى يحوجنا إلى التعلق بهذه الترهات فى شأن أوليتهم ولا يحتاج إلى مثله فى كل جيل وأمة من العجم والعرب» . ويضيف ابن خلدون إلى ذلك قوله «إن نسابة البربر يزعمون فى بعض شعوبهم أنهم من العرب مثل لواتة يزعمون أنها من حمير، ومثل هوارة يزعمون أنها من كندة ومثل زناتة يزعمون أنها من بقايا التبابعة. . وهذه كلها مزاعم، والحق الذى شهدت به الرطانة والعجمة (فى ألسنة البربر) أنهم بمعزل عن العرب» . وابن خلدون محق فى وصف ذلك كله بأنه مزاعم وترهات، إذ لا حاجة للبربر بذلك كله، إذ هم شعب عريق أصيل مضاه لشعوب العالم العريقة الأصيلة مثل
(1) انظر فى عناصر السكان بتونس الجزء السادس من تاريخ ابن خلدون، وكتاب ورقات عن الحضارة بإفريقية للأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب: الجزء الثالث، والمغرب الكبير لرشيد الناضورى: الجزء الأول، كذلك تاريخ المغرب الكبير لدبوز وبرنشفيك 1/ 313 وما بعدها.
العرب والمصريين والفرس والروم. أما تسميتهم باسم البربر فالمظنون أن الرومان-وربما اليونان-هم الذين أطلقوه عليهم أخذا من الكلمة الإغريقية Barbarus ومعناها الأجنبى الذى يرطن بلغة غير مفهومة، إذ كانت لغة البربر-بالنسبة للرومان واليونان-أصواتا مبهمة، والكلمة بهذا المعنى الإغريقى تلتقى بمعنى البربرة فى العربية وهو التمتمة بالكلام بحيث لا يفهمه السامع.
وظل البربر لا يتصلون بالشعوب القديمة آمادا طويلة حتى إذا كان القرن العاشر قبل الميلاد أو قبله أو بعده بقليل كان فينيقيون من سكان لبنان-وكانوا شعبا ملاحيا-يجوبون الساحل الإفريقى بحثا عن مواضع يتبادلون فيها سلعهم وعروضهم مع البربر، وأعجبتهم تونس، فنزلوا بها، ومع مرّ عشرات السنين اتخذوا لأنفسهم فيها موطنا ومركزا لتجارتهم، إذ أسسوا فيها مدينة قرطاجة بالقرب من مدينة تونس الحالية، واستوطنها كثير من أسرهم الفينيقية، وأنشئوا بها دولة وجيشا منهم ومن البربر، وقد امتزجوا بهم وصاهروهم وعلموهم الملاحة والتجارة وتبادل السلع وفلاحة الأرض وغرس الأشجار، ونقلت إليهم قوافلهم المتعمقة فى السودان كثيرا من الزنوج، وفسحوا لبعض اليهود فى النزول بمدينتهم. وبذلك أصبح يوجد فيها لعهدهم أربعة عناصر من السكان: عنصر بربرى من سكانها الأولين وعنصر فينيقى وعنصر زنجى وعنصر يهودى، ويدور الزمن وتستولى روما على قرطاجة، وتبنى من أنقاضها قرطاجة جديدة، وتستوطنها أسر رومانية كثيرة، وتضيف القوافل زنوجا جددا كثيرين إلى البلاد، ويفد عليها منذ سنة 70 للميلاد بعد تحطيم الإمبراطور تيتوس لمعبد بيت المقدس أسر يهودية كثيرة. ويدور الزمن دورة ثانية وتستولى جموع الواندال على تونس سنة 439 للميلاد، ويظلون بها حتى سنة 534 مضيفين إلى البلاد عنصرا ألمانيا جديدا، ويخلفهم البيزنطيون حتى سنة 647 مضيفين بدورهم العنصر البيزنطى الإغريقى.
ثم يكون الفتح العربى، وتظل تقدم إلى القطر التونسى جيوش لإكمال الفتح أو للقضاء على بعض الثورات طوال القرن الأول الهجرى، وتخمد ثورات البربر ضد الإسلام والعرب، وتشتعل فى القرن الثانى ثورات الخوارج من البربر. وتظل الدولتان الأموية والعباسية ترسلان الجيوش لإخمادها، وكثير من جنود هذه الجيوش استقر فى إفريقية التونسية وأصبحت مستقرا له منذ أسس عقبة بن نافع مدينة القيروان فى سنة 50 هـ/670 م فقد سكنها بعض الجنود الفاتحين وأسرهم واتخذوها موطنا لهم ومقرا. وأخذ كثير من جنود هذه الجيوش يسكن فى بعض بلدان تونس عاملا على نشر الإسلام والعربية. وكانت هذه الجيوش تضم عناصر من العرب ومن البلاد الإسلامية المفتوحة: إيران وسكان الرافدين فى العراق والشام ومصر وكل هذه العناصر أخذت تمتزج بالبربر فى تونس امتزاجا سريعا بحكم ما يجمع بينهم من الدين واللغة،
ولم تشارك مصر فى هذا الامتزاج بمن كان ينتظم منها فى الجيوش العربية فحسب، بل شاركت أيضا فى عهد حسان بن النعمان سنة 76 هـ/695 م بألف أسرة قبطية طلبها للمساعدة فى تأسيس دار صناعة لسفن أسطوله الذى سيحمى به سواحلها ويغزو جزر البحر المتوسط، وجاءته ووزّعها بين تونس ورادس وقرطاجة، ومنذ إبراهيم الأغلب يستكثر الأغالبة فى الحرس من الصقالبة، وأيضا من الزنوج، وكانوا لعهد إبراهيم أكثر من خمسة آلاف، ولكثرة خيرات تونس وطيباتها وحسن معاملة الإسلام للنصارى واليهود ظل ينزلها منهما كثيرون.
وفى منتصف القرن الخامس الهجرى تدخل القطر التونسى جموع الهجرة الأعرابية التى تحدثنا عنها فى الفصل الماضى، والتى كانت تبلغ-فيما يقال-نحو نصف مليون، ولا بد أن جماهير كبيرة منهم ألقت عصاها بتونس وبلدانها وسهولها وزروعها حتى لقد أصبحت بلدان مختلفة على الساحل وفى الداخل بأيديهم. وحقا سبّبت هذه الهجرة الكبيرة غير قليل من الاضطراب فى البلاد والفوضى، ولكن ربّ نقمة سببت نعمة، فإن هذه الهجرة أتمت بسرعة تعريب البربر والشمال الإفريقى المغربى جميعه، فإن من كانوا يستقرون فى البلاد المغربية من الجيوش العربية الغازية فى القرنين الأولين الهجريين كانوا قلة بالقياس إلى جموع البربر العديدة، ولذلك كان تعرب البربر بطيئا، حتى إذا حدثت هذه الهجرة تعرب البربر نهائيا وأصبحوا شعبا عربيا، إذ امتزجوا بالعرب معيشة ومصاهرة، حتى أصبح لا يوجد فرق بين عربى وبربرى، ويصور ذلك ابن خلدون فى قبيلة هوارة قائلا: إنهم صاروا فى عداد الناجعة (الرعاة) بنى سليم فى اللغة والزىّ وسكنى الخيام وركوب الخيل وكسب الإبل وممارسة الحروب». وهكذا الأعراب مع البربر فى كل أرجاء المغرب، وفى الحق أن هذه الهجرة الأعرابية الضخمة لم تكن عنصرا جديدا أضيف إلى ما كان بتونس من عناصر، بل كانت شعبا أضيف إلى شعب واندمج فيه وأصبح الشعبان شعبا واحدا. ويستولى النورمان على صقلية سنة 484 هـ/1092 م.
ويعود إلى تونس كثرة من أبنائها الصقليين ولا تكاد تؤسس الدولة الحفصية حتى تحدث نكبة الأندلس الكبرى نكبة سقوط مدنهم فى حجر الإسبان النصارى واحدة إثر أخرى، ويأخذ الأندلسيون فى الهجرة إلى المغرب الأقصى، ويتجه كثيرون منهم إلى تونس، ويرحب بهم مؤسس الدولة أبو زكريا وابنه المستنصر، ويفسحان لعلمائهم وأدبائهم فى الحركتين الأدبية والعلمية، كما يفسحان للزراع وأصحاب الصناعات منهم، وتأخذ أعدادهم فى التزايد طوال القرن السابع الهجرى، وخاصة مع سقوط البلدان الأندلسية مثل إشبيلية وبلنسية، وكان كثيرون من هؤلاء الأندلسيين المهاجرين يرجعون إلى أصول عربية وبربرية، وكان بينهم من يرجعون إلى أصول
مصرية أو شامية أو إيرانية، ممن قدم آباؤهم من آسيا مع الجيوش الفاتحة للأندلس كما كان بينهم مسلمون يرجعون إلى أصول إيبيرية وقوطية وواندالية من سكان إسبانيا القدماء، وكثر نزول هؤلاء المهاجرين الأندلسيين بتونس بعد سقوط غرناطة سنة 897 هـ/1492 م ويقال إنهم بلغوا حتى هذا التاريخ نحو مائة ألف أو يزيدون. وفى سنة 1016 هـ/1609 م نفى الإسبان بقية من كان بها من المسلمين إلا من أعلن تنصره أو تظاهر بذلك، وقدم إلى تونس منهم فى سنة واحدة لعهد عثمان داى نحو ثلاثين ألفا، ورحّب بهم كما مر بنا فى الفصل الماضى، وهو ترحيب لا يستحق شكره من أجله وحده بل يستحقه أيضا قبله التونسيون الذين أتاحوا لهم المعيشة الكريمة بينهم فى المدن، حتى كان لميسوريهم فى تونس العاصمة حيان: حومة الأندلس وزقاق الأندلس، وتأسست للعمال والصناع قرى ومراكز بالقرب من العاصمة زاولوا فيها صناعاتهم من المنسوجات الحريرية وغيرها، وأنزل القرويون منهم فى مناطق خصبة غزيرة المياه شمالا على ضفاف نهر مجردة. ومن المؤكد أن الإسبان الذين احتلوا تونس نحو أربعين عاما (943 - 981 هـ) لم يخلفوا وراءهم أسرا إسبانية حين طردهم سنان باشا إلى البحر المتوسط وما وراءه.
وكان الولاة فى العهد العثمانى يتخذون لهم حاميات عسكرية من الانكشارية، وكانت تضم تركا من الأناضول وأجناسا متنوعة من مختلف أنحاء الدولة العثمانية وأسرى جيوشها من الدول الأوربية وكانت تربيهم جميعا تربية إسلامية عسكرية، وترسل ببضعة آلاف منهم إلى تونس وبالمثل إلى بعض البلاد العربية، وكانوا يتزوجون من تونسيات فربطتهم بتونس صلات عائلية وثيقة. واتسعت حركة القرصنة حينئذ لسببين: حذق العثمانيين بالبحارة، وقد استطاع خير الدين (بربروسة) وعروج وأمثالهما أن يجعلوا البحر المتوسط فى القرن العاشر الهجرى بحرا عثمانيا، والسبب الثانى غيظ الأندلسيين المهاجرين من الإسبان والأوربيين الذين كانوا يساعدونهم فى الحروب، فكانوا يوغرون صدور البحارة الترك عليهم ليأسروهم ويسترقوهم، وكانوا يسحبونهم على وجوههم من البحر بالآلاف أحيانا، وكان كثيرون منهم: إسبانا وفرنسيين وإيطاليين ويونانيين وكريتيين ونورمانا يعتنقون الإسلام وتردّ إليهم حرياتهم ويكوّنون أسرا ويندمجون فى أهل البلاد. وكانوا يتولون فى تونس أحيانا مناصب عليا. وهذه العناصر الإفريقية والآسيوية والأوربية المفرطة فى الكثرة، منذ أيام الفينيقيين إلى هذا العصر لها دلالتان: دلالة أولى على وفرة طيبات الرزق التى عرفت بها تونس والتى جعلت كثيرا من الشعوب تتسابق على النزول بها وأحيانا على المكث بها حقبة أو حقبا من الزمن ودلالة ثانية هى ما حملته تلك الشعوب إلى تونس من حضارات كان لها غير قليل من التأثير فى حياتها مع الاحتفاظ دائما بما لها من ذاتية وشخصية.