المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكريم. وفى عصر الدولة الحفصية تجد الحركة العلمية تزدهر بفضل - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٩

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [ليبيا]

- ‌2 - [تونس]

- ‌3 - [صقلية]

- ‌القسم الأولليبيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌2 - التاريخ القديم

- ‌3 - من الفتح العربى إلى منتصف القرن الخامس الهجرى

- ‌4 - من الهجرة الأعرابية إلى منتصف القرن العاشر الهجرى

- ‌5 - فى العهد العثمانى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الليبى

- ‌1 - عناصر السكان

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الدين

- ‌4 - الإباضية والشيعة

- ‌(ا) الإباضية

- ‌(ب) الشيعة: الدعوة العبيدية

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌(أ) فاتحون وناشرون للإسلام

- ‌(ب) الكتاتيب

- ‌(ج) المساجد

- ‌(د) الرحلة فى طلب العلم والوافدون

- ‌(هـ) المدارس

- ‌(و) الزوايا

- ‌(ز) خمود فى الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌(أ) علوم الأوائل

- ‌(ب) علوم اللغة والنحو والعروض

- ‌3 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌4 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعالشعر والنثر

- ‌خليل بن إسحاق

- ‌(أ) فتح بن نوح الإباضى

- ‌(ب) ابن أبى الدنيا

- ‌(ج) ابن معمر

- ‌4 - الشعراء فى العهد العثمانى

- ‌5 - النّثر

- ‌القسم الثانىتونس

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(ا) الفتح

- ‌(ب) بقية الولاة

- ‌(ج) الدولة الأغلبية

- ‌4 - الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-الهجرة الأعرابية

- ‌(ب) الدولة الصنهاجية

- ‌ا دولة الموحدين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع التونسى

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - الرّفة-المطعم والملبس-الأعياد-الموسيقى-المرأة

- ‌(ب) الأعياد

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) مكانة المرأة

- ‌4 - الدين

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون مجاهدون معلمون

- ‌(ب) النشأة العلمية

- ‌(ج) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-جامعا عقبة والزيتونة-بيت الحكمة-الزوايا-المدارس

- ‌(د) المكتبات

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب القطر التونسى

- ‌3 - أغراض الشعر والشعراء

- ‌شعراء المديح

- ‌ ابن رشيق

- ‌ التراب السوسى

- ‌ ابن عريبة

- ‌4 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌5 - شعراء الغزل

- ‌ على الحصرى

- ‌ محمد ماضور

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغربة والشكوى والعتاب

- ‌ ابن عبدون

- ‌ محمد بن أبى الحسين

- ‌2 - شعراء الطبيعة

- ‌ ابن أبى حديدة

- ‌أبو على بن إبراهيم

- ‌3 - شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌(ب) رثاء المدن والدول

- ‌ابن شرف القيروانى

- ‌ محمد بن عبد السلام

- ‌4 - شعراء الوعظ والتصوف

- ‌(أ) شعراء الوعظ

- ‌ أحمد الصواف

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ محرز بن خلف

- ‌5 - شعراء المدائح النبوية

- ‌ ابن السماط المهدوى

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 - الخطب والوصايا

- ‌2 - الرسائل الديوانية

- ‌3 - الرسائل الشخصية

- ‌4 - المقامات

- ‌ أبو اليسر الشيبانى

- ‌5 - كبار الكتاب

- ‌ ابن خلدون

- ‌القسم الثالثصقلّيّة

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 - الجغرافية

- ‌(أ) العهد العبيدى

- ‌(ب) عهد بنى أبى الحسين الكلبيين

- ‌5 - التاريخ النورمانى-أحوال المسلمين

- ‌(ب) أحوال المسلمين

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الصقلى والثقافة

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - نشاط الشعر

- ‌2 - شعراء المديح

- ‌ ابن الخياط

- ‌3 - شعراء الغزل

- ‌ البلّنوبى

- ‌4 - شعراء الفخر

- ‌5 - شعراء الوصف

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الرثاء

- ‌ محمد بن عيسى

- ‌2 - شعراء الزهد والوعظ

- ‌ ابن مكى

- ‌3 - شعراء التفجع والحنين واللوعة

- ‌ ابن حمديس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌نشاط النثر

- ‌ ابن ظفر الصقلى

- ‌ أنباء نجباء الأبناء

- ‌سلوان المطاع فى عدوان الأتباع

- ‌خاتمة

- ‌[ليبيا]

- ‌[تونس]

- ‌[جزيرة صقلية]

الفصل: الكريم. وفى عصر الدولة الحفصية تجد الحركة العلمية تزدهر بفضل

الكريم. وفى عصر الدولة الحفصية تجد الحركة العلمية تزدهر بفضل رعاية الدولة لها وما أنشأت من مدارس شارك فيها المهاجرون الأندلسيون إلى تونس، وأول مدرسة أسّستها هذه الدولة مدرسة الشماعية أسسها أبو زكريا أول حكامها، وأسست الأميرة عطف أرملته المدرسة التوفيقية، وأسس أبو زكريا بن السلطان أبى إسحاق مدرسة ثالثة هى مدرسة المعرض بسوق الكتبيين، وأسست أخت السلطان أبى بكر مدرسة رابعة، وأسس الوزير ابن تافراكين مدرسة خامسة، وأسس السلطان أبى عبد الله بن أبى فارس المدرسة المنتصرية، وتوفى قبل أن تتم فأتم بناءها أخوه أبو عمرو عثمان على أكمل بناء وأتقنه ووقف عليها وقفا كافيا. ونمضى إلى العهد العثمانى، ويظل للحركة العلمية نشاطها وخاصة حين قدم إلى تونس المهاجرون الأندلسيون سنة 1016 هـ/1609 م ويؤسس مراد باى الثانى مدرسة عرفت بالمرادية فى سوق القماش. وأسس الباي حسين بن على ثلاث مدارس: الحسينية والنخلة والمدرسة الجديدة، وأسس مدارس أخرى بالقيروان وسوسة وصفاقس ونفطة، وأسس ابن أخيه على أربع مدارس: الباشية فى سوق الكتبيين والسليمانية ومدرسة بير الحجار ومدرسة حوانيت عاشور.

وبلغت المدارس فى تونس بأخرة من هذا العهد العثمانى عشرين مدرسة.

(د) المكتبات

ومما عمل على أن تظل الحركة العلمية نشيطة فى القيروان وتونس وغيرهما من بلاد إفريقية التونسية على توالى الأزمنة تأسيس المكتبات العامة وفى الجوامع والمدارس والزوايا. وكانت دائما مفتوحة الأبواب للشيوخ والطلاب يفيدون منها، وفى مقدمتها المكتبة العتيقة بجامع عقبة فى القيروان، ولا بد أن كان الشيوخ فى القرنين الثانى والثالث للهجرة يهدون إليها نسخة أو أكثر من مؤلفاتهم، واهتم الأغالبة بها ووقفوا عليها كتبا كثيرة، ومثلهم الأعيان وأصحاب اليسار، ولا تزال إلى اليوم تموج بنفائس المصاحف المزخرفة وأمهات الكتب فى الفقه والتفسير والحديث والقراءات واللغة والأدب. ولما أنشأ إبراهيم الأغلبى الثانى بيت الحكمة برقادة أسس فيه مكتبة ضخمة وأخذ يجمع إليها ذخائر الكتب وروائعها فى علوم الأوائل وغيرها من العلوم الدينية واللغوية، وحين بنى عبيد الله المهدى مدينة المهدية نقل إليها كثيرا من روائع الكتب فى هذه المكتبة، وأسس حفيده المنصور مكتبة فى مدينة المنصورية وجلب إليها آلاف المخطوطات، ونقل المعز منها ومن مكتبة جده المهدى كثيرا مما كان بهما من المؤلفات معه إلى القاهرة غير أن بقية فيهما من الكتب ظل ينتفع بها طلاب العلم والعرفان. ومن المؤكد أن سوق الوراقين الذين ينسخون الكتب كانت رائجة، ويروى عن حمدون بن مجاهد الكلبى أنه قال:«كتبت بيدى ثلاثة آلاف وخمسمائة كتاب» كما يروى عن أبى العرب التميمى صاحب كتاب طبقات علماء إفريقية وتونس أنه قال: «كتبت بيدى أربعة آلاف كتاب» واشتهر كثيرون بتكوينهم لأنفسهم

ص: 173

مكتبات خاصة مثل أحمد بن على بن حميد وكان أبوه من وزراء الأغالبة، وشغف بجمع الكتب، وبيعت مكتبته بعد وفاته بألف ومائتى دينار، وشغف عبد الله بن أبى هاشم التجيبى المتوفى سنة 346 للهجرة بنسخ الكتب وجمعها، فلما توفى بلغ وزن ما عنده من الكتب سبعة قناطير جميعها بخطّه ما عدا كتابين. وكثير من العلماء كانوا يحرصون على جمع الكتب وتكوين مكتبات لهم كبيرة، منهم الطبيب أحمد بن الجزار المتوفى بالقيروان سنة 369 هـ/979 م كانت له مكتبة ضخمة، إذ يقول ابن جلجل الأندلسى فى كتابه طبقات الأطباء: إن وزن كتبه التى خلّفها بلغ عشرين قنطارا. ويروى أن المعز بن باديس (406 - 454 هـ) أشفق على أبى بكر عتيق السوسى الفقيه الحافظ الورع حين علم بضيق ذات يده مما لا يمكّنه من اقتناء الكتب، فأرسل إليه-كما فى كتاب معالم الإيمان-مجموعة كبيرة من أمهات كتب العلوم الدينية حملها إليه عشرون حمّالا، ومعها رسالة رقيقة يقول له فيها:«هذه كتب فى خزائننا ضائعة. وبقاؤها عندنا مما يزيدها ضياعا، وأنت أولى بامتلاكها للانتفاع بها» فالتمس الشيخ أن يكتب على كل جزء منها أنه موقوف على طلبة العلم، وأودعت جميعا بمكتبة جامع عقبة بالقيروان لينتفع بها الشيوخ والطلاب.

ولم تلبث سيول الأعراب الجارفة من بنى سليم وهلال أن اكتسحت القيروان بأخرة من أيام المعز بن باديس سنة 449 هـ/1058 م وتوقفت بالقيروان الحركة العلمية المزدهرة، وحاول على بن يحيى حفيد المعز الصنهاجى (509 - 515 هـ) أن يستردّ المجد العلمى لإفريقية التونسية أو شيئا منه، فأنشأ بالمهدية مدرسة للكيمياء، كما مرّ بنا، وألحق بها مكتبة، غير أنها لم تمكث سوى نحو ربع قرن. وظلت إفريقية التونسية مضطربة نحو قرن نهب فيه-أوضاع-كثير من الكتب النفيسة التى كانت مودعة فى جامعى القيروان والزيتونة، حتى إذا كان عهد الدولة الحفصية وأخذ مؤسسها يستردّ للبلاد ما كان بها من نهضة علمية أسّس فى القصبة بعاصمة تونس مكتبة ضخمة جمع لها بقايا مكتبات الأغالبة والصنهاجيين، وأضاف إلى ذلك كثيرا من الكتب والمؤلفات ويقال إنها كانت تحتوى ستة وثلاثين ألف مجلد، وظل خلفاؤه يعنون بجمع الكتب لها، وظل الشيوخ والطلاب ينتفعون بكتبها طوال أيام الدولة الحفصية، وكان بها كتب نفيسة كثيرة، حتى لنرى ابن خلدون يذكر أنه بعد تأليفه لمقدمته بقلعة أبى سلامة فى الجزائر احتاج إلى مراجعة بعض أمهات الكتب، فولّى وجهه إلى تونس ليطلع على ما يريد منها فى المكتبة الحفصية.

واشتهر السلطان أبو فارس عبد العزيز أنه حين صار إليه صولجان الحكم سنة 796 هـ/1304 م عنى بتأسيس مكتبة تحت الصومعة بجامع الزيتونة وقف كتبها على طلبة العلم، وجعل لها وقتا محدودا للاطلاع فيها كل يوم وجعل عليها قومة ومناولين يناولون الكتب للطلبة ويردّونها إلى مكانها بعد فراغهم منها، واشترط فى وقفيته أن لا يعار منها كتب فى الخارج محافظة عليها وصيانة، وعنى بعده السلطان أبو عبد الله محمد بن الحسن بتأسيسه لمكتبة بنى لها مقصورة بطرف

ص: 174

صحن جامع الزيتونة، ونقل إليها كتب مكتبة أبى فارس وجعل لها وقتا محددا للاطلاع وقومة ومناولين وسميت نسبة إليه باسم المكتبة العبدلية. وعبث الإسبان حين استولوا على تونس- فى القرن العاشر الهجرى-بهذه المكتبة وعاثوا فيها فسادا، وأنقذ بعضهم منها كتبا أرسل بها إلى مكتبة الفاتيكان بروما، ولا تزال بها إلى اليوم. ولم يكن العثمانيون أصحاب حضارة ولا ثقافة، فلم يعنوا بمكتبات تونس العناية الواجبة، حتى إذا قامت الدولة المرادية أخذ النشاط يعود إلى جامع الزيتونة ومكتبته، واطرد هذا النشاط فى عهد الدولة الحسينية منذ استولى على مقاليد الحكم مؤسسها حسين بن على إذ عين بالجامع أربعين مدرسا فى مختلف العلوم الدينية واللغوية وأجرى لهم رواتب، وانتظم التعليم بالجامع منذ ذلك الحين.

2 -

علوم (1) الأوائل

لا يذكر أحد من أصحاب علوم الأوائل قبل أيام الدولة الأغلبية إلا ما يتردّد فى كتب التراجم عن أشخاص يسمونهم فقهاء البدن، ولم يكونوا أطباء بالمعنى الدقيق لكلمة طب، إذ كانوا يعتمدون على بعض المعارف والخبرات البسيطة. وأول ذكر للطب بمعناه الدقيق-وبالمثل لعلوم الأوائل-نلتقى به فى عهد الدولة الأغلبية حينما أنشأ إبراهيم الثانى الأغلبى (261 - 289 هـ) فى عاصمته رقّادة بجوار القيروان بيت الحكمة الذى ألممنا به فيما أسلفنا، إذ استقدم له من بغداد الدارسين للطب ولعلوم الأوائل كى ينهضوا بالدراسة فيه، وكان ممن استجابوا له فى سنة 264 هـ/877 م إسحاق بن عمران، وكان حاذقا بالطب وعلوم الأوائل، وفيه يقول إبراهيم الرقيق مؤرخ القيروان:«كان إسحاق طبيبا حاذقا متميزا بتأليف الأدوية المركبة بصيرا بتفرقة العلل» ويقول ابن جلجل الأندلسى فى كتابه طبقات الأطباء: «به ظهر الطب فى المغرب وعرفت الفلسفة» ويقول صاعد الأندلسى: «ممن اشتهر بعلم الطب وسائر العلوم المستنبطة من العلم الطبيعى إسحاق بن عمران، وكان مقدما فى جودة قريحته وصحة

(1) انظر فى علوم الأوائل بإفريقية التونسية كتاب طبقات الأطباء لابن جلجل وطبقات الأمم لصاعد والجزء الأول من البيان المغرب لابن عذارى وأخبار الحكماء للقفطى ومقدمة ابن خلدون، وطبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة ومعالم الإيمان لابن ناجى وبرنشفيك 2/ 387 وما بعدها. والجزء الخامس من تاريخ الأدب العربى لبروكلمان والقسم الأول من كتاب ورقات عن الحضارة العربية. بإفريقية التونسية والعلم عند العرب لألدومييلى وتاريخ الأدب الجغرافى العربى لكراتشكوفسكى.

ص: 175

علمه، وهو الذى ألف بين الطب والفلسفة بديار المغرب». وواضح أنهم جمعوا له بين الطب والصيدلة والفلسفة وعلوم الطبيعة، وهو-بحق-مؤسس مدرسة الطب وعلوم الأوائل بإفريقية التونسية، وممن تتلمذوا له فى الطب محمد بن الجزار وزياد بن خلفون، وفى الطب والفلسفة إسحاق بن سليمان الإسرائيلى، وفى الفلسفة أبو سعيد الصيقلى، وألف مجموعة من الكتب فى الطب وغيره، لم يبق منها إلى اليوم سوى كتابه: الماليخوليا وفى مكتبة ميونخ مخطوطة منه، ويقول ابن جلجل فى هذا الكتاب: «لم يسبق إسحاق بن عمران إلى مثله، توفى سنة 295 هـ/907 م. وكان يعاصره ويعمل معه فى بيت الحكمة فلكى من مواليد القيروان هو إسماعيل بن يوسف، رحل إلى العراق ودرس هناك علم الفلك والتنجيم، ويقول الزبيدى:

«كان غاية فى علم النجامة» وحذق فى بغداد صنعة الطلاء المتصلة بتجميل وجوه النساء وأبدانها وتطريتها بصنوف من الطيب والعقاقير، وهو ما يسمى عند الغربيين باسم «الماكياج» ، ولعلمه بهذا الطلاء والفلك اشتهر باسم الطلاء المنجم، وكان يشتغل فى بيت الحكمة بالفلك والرياضيات، ولما غلب الفاطميون على القيروان غادرها إلى قرطبة. وهو دليل على أن بيت الحكمة فى رقادة كما كان يعنى بالطب كان يعنى بالرياضيات، ونفس المشرف عليه وهو أبو اليسر رئيس دواوين إبراهيم الثانى الأغلبى كان يعرف بلقب الرياضى مما يدل على علمه بالرياضيات، ولا بد أن كان البيت يعنى أيضا بالكيمياء والطبيعيات وأيضا بالفلسفة، فقد وضع إسحاق بن عمران فيه أساس الدراسات فى كل ذلك.

ومن الأطباء الذين لمع اسمهم أيام إبراهيم الثانى الأغلبى زياد بن خلفون، وكان طبيبا فى دمنة (مارستان) القيروان، وكان يذهب إليها فى أيام معينة من الأسبوع لزيارة من بها من المرضى، وكان يزور أيضا دار الجذماء لرؤية المصابين والكشف عليهم وتتبّع مسيرة مرضهم، توفى سنة 308 هـ/920 م. وفى سنة 292 هـ/904 م جلب أحد رسل زيادة الله الأصغر إليه طبيبا يهوديّا ناشئا من مصر يسمى إسحاق بن سليمان الإسرائيلى، تتلمذ لإسحق بن عمران فى بيت الحكمة حتى إذا توفى خلفه فيه، وسرعان ما انتهت دولة الأغالبة فخدم العبيديين منذ خليفتهم المهدى إلى المعز، ويقول فيه ابن جلجل:«كان مشهورا بالحذق والمعرفة، جيد التصنيف بالعربية بصيرا بالمنطق يعنى بالفلسفة متصرفا فى ضروب المعارف» ، وعمّر حتى بلغ المائة، وتوفى حول منتصف القرن الرابع، وأسند إليه يهود إفريقية رياستهم الدينية، وله مؤلفات فى الطب بالعربية وترجمت سريعا إلى العبرية، ومن مؤلفاته العربية كتاب الحميات وكتاب البول وكتاب النبض وكتاب الترياق وكتاب بستان الحكمة وكتاب الأغذية والأدوية. ويشتهر فى القرن الرابع الهجرى طبيبان يهوديان من تلامذة إسحاق بن سليمان الإسرائيلى هما دونش وموسى بن العزار، ودونش من مواليد القيروان بأخرة من القرن الثالث الهجرى تخرّج على يديه إسحاق بن سليمان الإسرائيلى فى الطب والنجوم والحساب والفلسفة، وكان يتقن العربية،

ص: 176

ويقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب إن ابن البيطار ينقل فى كتابه عن الصيدلة أو الأدوية المفردة عن كتاب له يسمى التلخيص وصفه فيه لبعض النباتات، مما يدل على أنه كان كتابا فى الأدوية المفردة، ويذكر الأستاذ عبد الوهاب أن له كتابا فى الحساب الهندى وكتابا ثانيا فى الفلك وحركة الكواكب، وموسى بن العزار طبيب إسرائيلى، توفى بعد سنة 363 هـ/973 م وقد خدم هو وأبناؤه الدولة العبيدية وخلفاءها فى المهدية وبعد تحولهم إلى القاهرة وله كتاب باسم الأقراباذين أى الصيدلة، مما يدل على اهتمامه بتركيب الأدوية وطرق العلاج بها. ومن أطباء العبيديين الإفريقيين أعين بن أعين، وكان يحترف فى القيروان طب العيون-ويسميه العرب-الكحالة، ولما انتقل المعز إلى القاهرة انتقل فى جملته، وكان ماهرا فى معالجة الرمد المزمن، وممن شفى على يديه شيخ المالكية ابن أبى زيد، وله كنّاش فى الطب وكتاب فى أمراض العيون ومداواتها.

وتتوارث الطب فى القيروان-منذ عهد الأغالبة-أسرة بنى الجزار، وأول من اشتهر بالطب فيها أبو بكر بن الجزار تلميذ إسحاق بن عمران طبيب بيت الحكمة كما يذكر ابن جلجل، ومثله أخوه إبراهيم وكان يعنى بالكحالة أو طب العيون. وابنه أحمد المولود سنة 285 هـ/898 م بالقيروان أبرع أطباء الأسرة وقد توفى سنة 369 هـ/979 م ومن طريف ما يروى عنه أنه بنى عند باب داره عيادة لاستقبال المرضى، وأفرد فيها قسما خاصا لصيدلية جعل لها فتى يسمى رشيقا، تعدّ بين يديه جميع الأدوية من معجونات وأشربة ومراهم، وكان إذا فحص المريض ووقف على دائه وصف له فى ورقة ما يناسبه من الأدوية، فيأخذها إلى رشيق ويعطيه دواءه الموصوف، بالضبط كما يحدث فى عصرنا، فللأطباء عياداتهم وللأدوية صيدلياتها. وأحمد بن الجزار يقوم فى الطب بالقيروان مقام ابن سينا فى إيران والزهراوى فى قرطبة. وللأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب ترجمة ضافية له فى القسم الأول من كتابه ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية تحدث فيها عن سيرته ومؤلفاته وفى مقدمتها كتابه:«زاد المسافر وقوت الحاضر» فى علاج الأمراض مجلدان، ويقول عنه إنه «من أهم الكتب الطبية العملية التى وضعها المسلمون» ، ويذكر أن قسطنطين المعروف باسم الحكيم الإفريقى عمد-حين رأس كلية ساليرنو فى جنوبى إيطاليا-إلى ترجمة هذا الكتاب إلى اللاتينية ونسبه-كذبا وبهتانا- إلى نفسه، ويلم بما كتب حول الكتاب من بحوث فى العصر الحديث، ويذكر مؤلفات ابن الجزار بأسمائها وقد بلغت سبعة وثلاثين كتابا فى الطب والتاريخ والجغرافيا والأحجار الكريمة، وله بجانب كتبه الطبية الكثيرة كتابان فى الصيدلة بعنوان:«البغية فى الأدوية» و «الاعتماد فى الأدوية المفردة» .

وتظل حركة علوم الأوائل التى غرس الأغالبة جذورها نامية فى أرض القيروان الطيبة،

ص: 177

ونلتقى بأبى عبد الله محمد بن يوسف التاريخى القيروانى نزيل الأندلس المتوفى سنة 363 فى عصر المستنصر الأموى، وله كتاب عن مسالك إفريقيا وممالكها انتفع به أبو عبيد البكرى فى كتابه «المسالك والممالك» ، ويظل القيروان عصر الدولة الصنهاجية، وكل كتب القيروان العلمية النفيسة ترجمها القسيس قسطنطين سالف الذكر فى أثناء رياسته لكلية ساليرنو ولدير جبل كاسينو، ولم يكد يترك كتابا علميا مهما لعلماء القيروان من أمثال إسحاق بن عمران وابن الجزار إلا ترجمه هو ورهبان هذا الدير. وانتقلت ترجماته إلى العالم الغربى منذ القرن الحادى عشر الميلادى إذ توفى سنة 480 هـ/1087 م وكان لتلك الترجمات، كما مرّ بنا، أثر بعيد فى النهضة العلمية الأوربية. وكان يعاصر الرياضى الفلكى الجزائرى ابن أبى الرجال رياضىّ قيروانى، هو عبد المنعم بن محمد الكندى القيروانى المتوفى سنة 466 هـ/1073 م وكان إماما فى الرياضيات حاذقا فى فك الأشكال الهندسية لأقليدس. ومرّ بنا-منذ قليل-أن الأمير على بن يحيى الصنهاجى (509 - 515 هـ) أنشأ مدرسة للكيمياء فى عاصمته المهدية، وقد أشرف عليها كيميائى أندلسى كبير، هو أمية بن أبى الصلت، ولم تدم بعد وفاته طويلا، غير أنها تدل على ما ظلّ بالمهدية والقيروان من روح علمية حتى مطلع القرن السادس الهجرى.

ونلتقى فى أوائل عهد الدولة الحفصية بعالم تونسى موسوعى كبير هو التيفاشى الكيميائى أحمد بن يوسف المولود بقفصة التونسية سنة 580 هـ/1184 م وقد ولاه أبو زكريا خطة القضاء ببلدة قفصة وله رحلات كبيرة إلى الشام والعراق وإيران وأيضا مصر واستقرّ بها حتى توفى بعد سنة 660 هـ/1261 م وكان قد تعمق كل فروع الثقافة الإسلامية كما تعمق علوم الأوائل، ورأى أن يضع للدارسين فى وطنه والأوطان العربية موسوعة تضم كل العلوم والفنون والتاريخ، وجعلها فى أربعين كتابا، وأفرد منها كتبا للطب والطبيعة ومظاهرها وكل ما فيها من نبات وحيوان ومعادن، وفى كل فرع من علم يذكر ما فيه لليونان والفرس وغيرهما من العجم والعرب، ومن كتب هذه الموسوعة كتاب أزهار الأفكار فى جواهر الأحجار وهو فى علم المعادن، وقد نشر فى هولانده بالقرن الماضى مع ترجمة لاتينية، وحققه فى مصر الدكتور محمد يوسف حسن ونشره مع مقدمة تحليلية. وله كتاب عن الغناء والموسيقى وآلات الطرب سماه:«متعة الأسماع فى علم السماع» ، وفيه تحدث عن تاريخ الموسيقى عند العرب وفى إفريقية التونسية وفى الأندلس على مر العصور حتى زمنه، وهو طرفة نفيسة، ونلتقى فى عهد المستنصر بطبيبه:

ابن أندراس محمد بن أحمد المتوفى سنة 674 هـ/1276 م وكانت له مشاركة فى الرياضيات والمعقولات، ويشتهر حينئذ آل الصقلى الزيات بالطب وابن الكماد الرياضى بوضعه الجداول الفلكية قبل سنة 679 هـ/1281 م. وكان يلمع من حين إلى حين عالم بعلوم الأوائل وخاصة فى مجال الطب لحاجة الناس والبيمارستانات إليه، ونضرب مثلا لهم عبد السلام بن ابراهيم الزيات الصقلى المتوفى سنة 722 هـ/1323 م وقد ألف ابنه أحمد المتوفى سنة 820 هـ/1417 م للسلطان

ص: 178

الحفصى أبى فارس عبد العزيز-كما فى الضوء اللامع للسخاوى-مختصرا فى الطب بوّبه إلى ثمانين بابا، ونضرب مثلا ثانيا بطبيب هو عبد الرحمن بن أبى سعيد الصقلى المتوفى سنة 872 هـ/1467 م ومثلا ثالثا هو أحمد الخميرى من أطباء تونس فى القرن العاشر الهجرى وله كتاب فى الطب والأطباء يسمى تحفة القادم.

ولم نعرض حتى الآن لعلم الجغرافية فى تونس، وتلقانا فى مقدمة ابن خلدون المتوفى سنة 808 هـ/1406 م فصول مختلفة فى حديثه عن العمران إذ يفرد فصلا للحديث عن العمران فى الأرض وما بها من البحار والأنهار والأقاليم، وهو يعدها كرة، نصفها يابس ونصفه فقط المسكون أو المعمور، ويتحدث عن أقاليمها السبعة وانقسام كل إقليم إلى عشرة أجزاء، ويقول صراحة إنه ينقل عن بطليموس الجغرافى المصرى القديم والإدريسى فى كتابه المشهور: نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق الذى ألفه فى نحو منتصف القرن السادس لروجار الثانى النورمانى ملك صقلية، ويكمل حديثه الجغرافى فى ذلك عن الربع الشمالى من الأرض الأكثر عمرانا من الربع الجنوبى ويذكر مقتطفات من كتاب الإدريسى، ويضيف بعض معلومات عن جزر المحيط الأطلسى والسودان، وينقل عن ابن سعيد الجغرافى الأندلسى. وأهم من هذا الحديث الجغرافى الذى غلب عليه فيه النقل حديثه الذى يعد سابقا فيه تأثير البيئة الجغرافية فى حياة البشر وتأثير الهواء فى ألوانهم والجوع والخصب فى أبدانهم وأخلاقهم، وبجانب هذه الجغرافيا الاجتماعية عنده جغرافيا اقتصادية يصور فيها العمران البدوى والحضرى، ونصف الحضرى والمعاش وألوانه. وهذه الوجوه من الجغرافيا الاقتصادية والاجتماعية تعد الجوانب الجغرافية عنده.

ومعروف أن كثيرين من جغرافيى العرب عنوا بوضع خريطة للعالم، وكان بطليموس الجغرافى المصرى القديم قد وضع خريطة للعالم تدارسها علماء العرب فى عصر المأمون ووضعوا للعالم خريطة أكثر دقة، وما زال جغرافيو العرب يضعون خرائط على هدى خريطة المأمون حتى جاء الإدريسى المذكور آنفا ووضع خريطته الكبيرة التى تراعى درجات الطول والعرض وقد أهداها إلى روجار الثانى الملك النورمانى. ونجد جيلين فى أسرة الشرفى بصفاقس فى الاقليم التونسى يعنيان بوضع خرائط للعالم ما بين عامى 957 هـ/1550 م و 1009 هـ/1600 م تعد صورا منقحة لخريطة الإدريسى كما يقول كراتشكوفسكى فى كتابه تاريخ الأدب الجغرافى العربى، وقد وضع أولهم: على بن أحمد الشرفى الصفاقسى سنة 958 هـ/1551 م أطلسا فى ثمانى ورقات يصور بها سواحل البحر المتوسط وهى محفوظة فى المكتبة الأهلية بباريس. وفيها خريطة للقبلة وضّحت عليها مواقع جميع البلدان بالنسبة للكعبة، ويليها خريطة عامة للعالم ثم خرائط لسواحل إسبانيا وجزر البليار وسواحل إيطاليا ومعها جزيرتا كورسيكا وسردانيا والساحل

ص: 179