الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإما المنى أو فالمنيّة إنها
…
حياة لبيب لم ينل من لبابها
وهل نعمة إلا ببؤسى وإنما
…
عذوبة دنيا المرء عند عذابها
فإما تحقيق المنى والحصول عليها وإما الموت الزؤام، وهل نعمة إلا مصحوبة ببؤس وشقاء، وإنما عذوبة دنيا الإنسان فى عذابها، وهو بذلك صاحب نفس كبيرة، ويصورها فى الأبيات التالية:
أعددت للدهر إن أردت حوادثه
…
عزما يحلّ عليه كلّ ما عقدا
وصارما تتخطّى العين هزّته
…
كأنما ارتاع من حدّيه فارتعدا
وذابلا توضح العليا ذبالته
…
كأنها نجم سعد لاح منفردا (1)
ونثرة ليس للريح المضىّ بها
…
إلا كما عرضت للنّهى فاطّردا (2)
وهو يقول إنه أعدّ للدهر حين تنزل به حوادثه عزما يحل كل شدائده، وسيفا قاطعا تتخطى هزته العيون، وكأنما أخذه وجل من حدّيه القاطعين فارتعد، ورمحا يوضح العلياء حده القاطع وكأنه نجم سعد يكتب له دائما النصر والظفر، ودرعا تشبه طيّاتها موجات مياه الغدير حين تحركها الرياح ويقول.
سل الليل عنى هل أنام إذا سجى
…
وهل ملّ جنبى مضجعى ومكانى
على أننى جلد إذا الضرّ مسّنى
…
صبور على ما نابنى وعرانى
وهو يقول لصاحبه: سل الليل عنى فإنى دائما يقظ، ودائما يجفو جنبى المضجع والمكان، وإننى لجلد أحتمل كل ضر يمسنى، صبور على كل ما ينوبنى، أحتمل من ذلك ما يطاق وما لا يطاق، حتى يأتى الله بالفرج.
5 - شعراء الوصف
الشاعر العربى-من قديم-يصف كل ما حوله من الإنسان وغير الإنسان من الحيوانات والنباتات والأزهار، وقد مر بنا فى المديح وصف قصور روجار: القبة والمنصورية والفوارة عند البثيري والطرابنشى وما حف بالأولين من بركة وبها جميعا من رياض، ولأبى الحسن بن الطوبى فى وصف الثريا (3):
(1) ذابلا: رمحا. ذبالته: حده القاطع.
(2)
نثرة هنا: درعا. النهى: الغدير.
(3)
الخريدة 1/ 80.
انظر إلى الأفق كيف بهجته
…
وللثّريا عليه تنكته
كأنها وهى فيه طالعة
…
قميص وشى وتلك عروته
فالسماء بنجومها كأنها قميص وشى بديع والثريا عروته المضيئة الجميلة، وسنخص أخاه أبا عبد الله بن الطوبى بكلمة لإكثاره من الأوصاف والتشبيهات فى الطبيعة وغير الطبيعة.
ويقول مشرف بن راشد (1):
وروضة بالحزن ممطورة
…
لم تنتهبها أعين الناس
بكى عليها الغيث فاستضحكت
…
عن نرجس غضّ وعن آس
وكان يكثر من استخدام الطباق كما فى البيت الثانى، وجعل الروضة تضحك أو تبتسم عن نرجس غضّ وعن آس، ويقول ابن متكود صاحب مازر فى عهد أمراء الطوائف واصفا النيلوفر (2):
كئوس من يواقيت
…
تفتّح عن دنانير
وفى جنباتها زهر
…
كألسنة العصافير
والنيلوفر هو اللوتس عند المصريين القدماء والبشنين عند أهل الريف المصرى، وحين تتفتح تتدلى من جنباتها أزهار-كما يقول ابن متكود-مثل ألسنة العصافير. ويقول ابن القطاع فى وصف رمانة (3):
كأنّها حقّة من عسجد ملئت
…
من اليواقيت نثرا غير منظوم
وهى صورة بديعة، ويفتح ابن القطاع صحفا غير قليلة لمديح المغنين والمغنيات والراقصين والراقصات وذمهم، من ذلك ذم البلّنوبى لمغن فى قوله (4):
ولنا مغنّ لا يزا
…
ل يغيظنا ما يفعل
غنّى ثقيلا أوّلا
…
وهو الثقيل الأوّل
والثقيل الأول نغمة موسيقية معروفة عند العرب، وهى مكررة مئات المرات فى كتاب الأغانى واستغلها البلنوبى فى هجاء هذا المغنى، والتورية واضحة ونراه يمدح راقصة من راقصات صقلية قائلا (5):
(1) الخريدة 1/ 93.
(2)
الخريدة 1/ 103.
(3)
الخريدة 1/ 53.
(4)
الخريدة 1/ 13.
(5)
الخريدة 1/ 6.
هيفاء إن رقصت فى مجلس رقصت
…
قلوب من حولها من حذقها طربا
خفيفة الوطء لو جالت بخطوتها
…
فى جفن ذى رمد لم يشتك الوصبا
فالقلوب ترقص مع رقصها، وهى خفيفة الوطء للأرض فى رقصاتها حتى لو جالت بخطوتها الخفيفة فى جفن أرمد لم يحس بها فحسب، بل أيضا أزالت عنه ما يشكو من وصب الرمد- ويقول أبو بكر محمد بن على الكمونى فى وصف راقص (1):
ما إن رأيت كراقص
…
مستظرف فى كل فنّ
يحكى الغناء برقصه
…
كمراقص يحكى المغنّى
رجلاه مزمار وعو
…
د فى نهاية كلّ حسن
فهو السرور لكل عي
…
ن والنعيم لكل أذن
وتدل المقطوعة دلالة قاطعة على أن الغناء كان قد ارتقى فى مصاحبة الرقص فنونا من الرقى، حتى ليقول ابن الكمونى عن هذا الراقص أن رجليه كانتا مزمارا له وعودا فهو يوقّع على ضرباتهما غناءه ويلحنه تلحينا دقيقا، فهو سرور برقصه لكل عين، وهو نعيم بغنائه لكل أذن. ونتوقف لنتحدث عن أبى عبد الله بن الطوبى وبراعته فى الوصف.
أبو عبد الله (2) بن الطوبى
هو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن الطوبى، كان صاحب ديوان الإنشاء فى عهد ثقة الدولة وأبنائه-كما يقول العماد-ومن ذوى الفضائل البلغاء، طبيبا، مترسلا، شاعرا. ويقول القفطى: «مقيم بصقلية يتولى الإنشاء نحوى أربى فى النحو على نفطويه وفى الطب على ابن ماسويه، وكلامه فى نهاية الفصاحة وشعره فى غاية الملاحة وله مقامات تزرى بمقامات البديع وإخوانيات كأنها زهر الربيع. كان بصقلية سنة خمسين وأربعمائة وأظنه عاش بعد ذلك مدة، وأورد ابن القطاع من نظمه كل مليح الحوك، صحيح السبك، فمن ذلك قوله فى نرجس:
أريد لأشفى سقم قلبى بنرجس
…
فيذبل إن صافحته بتنفّسى
له مقلة كالتّبر، والجفن فضّة
…
وقدّ كغصن البان فى ثوب سندس
ويدل العماد على براعته فى هذا الوصف للنرجس بأنه أتى فيه بأربع تشبيهات، كما يتضح فى
(1) الخريدة 1/ 104.
(2)
انظر فى ترجمة أبى عبد الله بن الطوبى الخريدة 1/ 55 وإنباه الرواة للقفطى 3/ 107 والمكتبة الصقلية 589.
البيت الثانى، وهى تشبيهات دقيقة. ويقول فى نار فحم والشرار يتطاير من حولها:
ونار فحم ذى منظر عجب
…
يطرد عنه الشّرار باللهب
كأنما النار مبرد جعلت
…
تبرد منه برادة الذهب
فلهب النار يطرد الشرار من حولها، كأنما النار مبرد يبرد من الفحم برادة ذهبية، وقد راعى النظير فى البيت الثانى، فالنار مبرد وهى تبرد من الفحم برادة الذهب، ويقول فى مديح مغنّ.
إذا غنّى يزيل الهمّ عنّا
…
ويأتينا بما نهواه منه
له وتر يطالب كلّ همّ
…
بوتر فالهموم تفرّ عنه
فهو مغن حاذق يعرف ما تهواه النفوس ويعرضه على سامعيه، وكأنما لعوده وتر يطالب كل هم فى نفوس الناس بوتره أو ثأره، فالهموم تفر عنه منطلقة إلى غير مآب. ويذم فى مقابل هذا المغنى مغنين آخرين من برد غنائهم يجعلون الصيف شتاء ويحولون الأعراس مآتم، وفى أحدهم يقول، وهو أخف ما قال:
لنا مغنّ غناه
…
يعود شرّا عليه
لم يأت منزل قوم
…
فعاد قطّ إليه
فبمجرد أن يسمعه أهل منزل يزورون عنه ولا يعودون إلى طلبه مرة أخرى. وكان يغرب أحيانا فى أوصافه مدحا وذما، وقد وجد الناس يمدحون البياض فى المرأة ويذمون السواد، فرأى أن يعكس عليهم القضية قائلا:
شبيهات المشيب تعاف نفسى
…
وأشباه الشبيبة هنّ حور
سواد العين نور العين فيه
…
وما لبياضها فى العين نور
فهو يرى بسواد عينيه لا بياضهما، ولذلك يعاف البياض رمز المشيب والشيخوخة، كما يعاف معه المرأة البيضاء، بينما يحب السواد رمز الشبيبة ونضرة الحياة ويحب المرأة السوداء. وكانت لديه قدرة فى حسن التعليل كقوله فى فص أحمر:
حمرتى من دم قلبى
…
أين من يندب أينا
أنا من أحجار أرض
…
قتلوا فيها الحسينا
وربما كان فى ذلك ما يدل على أنه كان متشيعا يعتنق المذهب الإسماعيلى الفاطمى. ومن حسن تأتيه فى التصوير قوله فى لحية كبيرة غطت وجه صاحبها:
ما إن رأيت ولا سمعت بلحية
…
عرضت كلحية جعفر بن محمّد
سدّت عليه وجهه فكأنما
…
عيناه فى ثقبى كساء أسود
فهى قد سترت وجه صاحبها حتى لم يعد يبدو منها إلا العينان، وكأنهما ثقبان فى كساء أسود.
وكما كانت لحية جعفر بن محمد تؤذيه كذلك كانت لحية حمدون، وفيها يقول:
لحية حمدون دثار له
…
تكنّه من شدّة البرد
كأنها-إذ غاب فى وسطها-
…
قطيفة لفّت على قرد
فلحية حمدون كأنها دثار أو ثوب تكنّه من قسوة البرد، وكأنها إذ غاب فى وسطها ولم يعد أحد يرى له أثرا قطيفة لفت لا على إنسان بل على قرد. ونختم تصاويره بتصويره لراقصة صقلية:
راقصة كالغصن من فوقه
…
بدر منير تحت ظلماء
تلهب مثل النار فى رقصها
…
وهى من النّعمة كالماء
كأنما فى رجلها عودها
…
وزامر يتبع بالنّاء
ساحرة الرّقص غلاميّة
…
منها دوائى وبها دائى
إذا بدت ترقص ما بيننا
…
يرقص قلبى بين أحشائى
وهى راقصة قوامها كغصن البان ووجهها كالبدر المنير، وكأنما تجمع النار والماء فى رقصها، تجمعهما بحركاتها وتثنياتها وكأنما توقع حركات أرجلها على عودها وزامر يتبعها بالناى وإنها لساحرة فى رقصها، وبإحدى يديها داؤه، وبالثانية دواؤه. وإن القلوب لترقص مع رقصها وإيقاعاتها المبدعة فيه.