الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى الحصرى متبرم بأصدقائه لما يلقى من أذاهم، وقد يظن بشخص خيرا فيصفيه الود لما رأى من بعض صفاته، حتى إذا اختبره وجد أخلاقه كدرة غير صافية، ويعجب هل أساء إلى الناس جميعا حتى لا يجد بينهم صديقا موافقا، وجعله ذلك لا يسرّ بمن يحاول صداقته ولا يأسى على من ينقضها نقضا، ويعود فيقول إنه يقمع ويقهر كل من يحاول انتقاصه، وأما من يمد له يد الوداد فإنه يصبح وامقا له ومحبا. ويلقانا عتاب عنيف بين وزير المستنصر الحفصى محمد بن أبى الحسين وشيخ قبيلة سليم: عنان بن جابر، وسنخصه بكلمة، ويرسل شاعر العصر الحسينى الأول على الغراب الصفاقسى بمقطوعة شعرية لمحمد بن كمون يعاتبه لإبطائه فى كتابة عقد له (1):
يا أبا عبد الله حتّام أسعى
…
لك فيما أروم شهرا فشهرا
هل لهذا الوقوف منك وجريى
…
غاية ينتهى لها الجرى أخرى
ما أرى فى قضاء ما رمت عسرا
…
ولئن كان، إن للعسر يسرا
ليت شعرى أفى وقوفك هذا
…
طول جرى تروم أم رمت أجرا
وهو يعتب على الكمونى أنه دائم السعى له والإلحاح عليه لا يوما بعد يوم بل شهرا بعد شهر ليكتب له العقد، والكمونى يسوّف ويماطل، ويقول له ليس فيما أريده عسر، وإن كان فإن للعسر يسرا، ويسأله هل تريد منى طول جرى لمزيد من الإلحاح أو تريد منى مزيدا من الأجر.
وحرى بنا الآن أن نتوقف لنخص شاعر الغربة
ابن عبدون
بكلمة، وبالمثل شاعر العتاب الغاضب: ابن أبى الحسين.
ابن (2) عبدون
هو محمد بن عبدون الوراق من أهل مدينة سوسة على ساحل البحر، وينوّه ابن رشيق بشعره قائلا إنه «شاعر وطيء الكلام، كلف بعذوبة اللفظ والتسلّل إلى المعنى البعيد بلطافة وسكون جأش» . وحدث أن توفيت زوجته وابنه فى آن واحد، ففارق بلدته «سوسة» فى سنة 393 للهجرة ورحل إلى جزيرة صقلية ونزل على أميرها ثقة الدولة يوسف بن عبد الله ومدحه، وكان قد أناب عنه فى الحكم ابنه جعفرا منذ سنة 388 لإصابته بالفالج، فألحقه بابنه، فأدناه وقربه، غير أنه سرعان ما حنّ إلى بلده، فرفع إلى جعفر قصيدة يسأله فيها الرجوع إلى وطنه، وصوّر مدى رغبته فى ذلك من خلال تشوقه إلى رؤية قصر طارق وكان رباطا بقرب سوسة، له
(1) الديوان ص 310.
(2)
انظر فى ترجمة ابن عبدون الأنموذج ص 390 والحلل السندسية 2/ 307 والمجمل فى تاريخ الأدب التونسى ص 108.
برج شديد العلو، ويصور حنينا متأججا فى صدره إلى سكانه قائلا:
يا قصر طارق الذى طرقت
…
أحشاى فيه بلابل الصّدر
والله ما قصّرت عن تلف
…
لكننى قصّرت بالقسر
فسقاك منهلّ الحيا وسقى
…
عصرا تقضّى فيك من عصر
أعطى عهود الله صفقة من
…
أعطى العهود بجانب الحجر
لو أستطيع سبحت من طرب
…
شوقا إليك سواد ذا البحر
وهو يهتف بقصر طارق المجاور لمدينته سوسة وما يثير فى صدره من شجون، ويقول إنه لم يقصّر إزاءه عن تلف وإنما قصّر قسرا وجبرا، ويدعو له ولأيامه الخوالى فيه بالسقيا، ويعاهده عهد حجاج بيت الله الحرام عند الحجر أو الحطيم بجانب الكعبة المقدسة أنه لو استطاع لسبح إليه سواد البحر المتلاطم بين صقلية سوسة. ويقول ابن رشيق تعليقا على هذه المقطوعة:«رقة الشوق ظاهرة على هذا الشعر ولطف الحضارة مع مياه تكاد تنبع من جانبه، فهو أندى من الزهر، غبّ القطر، وأحلى من الوصل بعد الهجر» . ولما سمع جعفر بن ثقة الدولة هذه الأبيات ازداد به إعجابا وفيه ضنانة، فمنعه من السفر، فكتب ابن عبدون إلى أبيه ثقة الدولة يسأله فيما سأل فيه ولده، ويشكر لما ناله لديهما من الجود، ويتشوق إلى وطنه مجسدا شوقه فى قصر طارق قائلا:
يا قصر طارق همّى فيك مقصور
…
شوقى طليق وخطوى عنك مأسور
إن نام جارك إنّي ساهر أبدا
…
أبكى عليك وباكى البين معذور
عندى من الوجد ما لو فاض من كبدى
…
إليك لاحترقت من حولك الدّور
لا همّ إنّ الجوى والوجد قد غلبا
…
صبرى فكلّ اصطبارى فيهما زور
وهو يبث قصر طارق همه ويقول له إن شوقى لك حر طليق وخطوى إليك مقيد مأسور، وإن نام جارك نوما هنيئا فإنى أتجرع سهرا مريرا أبكى فيه عليك بكاء لا ينقطع. ويذكر أن فى كبده من لواعج الوجد ولهيبه ما لو فاض على ما حول القصر من الدور لاحترقت جميعا، ويفزع إلى ربه فإن ما يحمل من الجوى والوجد الملتاع قد غلبا صبره، ولم يعد يستطيع احتمالا لهما. ومضى فى القصيدة يمدح ثقة الدولة. ولم يجد عنده-كما لم يجد عند ابنه جعفر-مأموله، فاضطر إلى أن يخرج من صقلية خفية دون علمهما. وعاد إلى سوسة، وبها توفى حوالى سنة 400 هـ/1010 م. وينشد له ابن رشيق مقطوعة بديعة فى ملعب سوسة الرومانى وفيها يتحدث عمن شادوه وملكهم وجيوشهم، ويقول إن الأرض ضمتهم جميعا: